الدعوة إلى وحدة الأديان .. بين التصور والإمكان (2)

1 – الدعوة إلى التوفيق بين الأديان ..أو إلى التقارب بين الأديان ..أو إلى " وحدة الأديان " .. هذه الدعوات .. ليست وليدة الحاضر ولا الماضي القريب ، وإنما هي عميقة الجذور جدا ، ولا أرانا نجانب الصواب حين نردها إلى عصر الحلاج وابن عربي (560 – 638 هـ) ، وابن الفارض (576 – 632 هـ) ، وابن سبعين الإشبيلي (613 – 669هـ) ، والسهروردي (490 - 563 هـ ) ، والعفيف التلمساني .. وغيرهم من القائلين بوحدة الوجود ، التي تعني لديهم أن الوجود كله واحد خالقا ومخلوقا ، وأن كل ما في هذا الوجود هو الله تعالى. وأن الأديان كلها مردها إلى أصل واحد ، وأنه لا فرق بين مسجد ومعبد وكنيسة فكلها بيوت الله ، وإن روادها على اختلاف مللهم ونحلهم ؛ هم عباد الله ، وهم عند الله سواء . وقد صاغ ابن عربي ذلك في كثير من شعره .. وكان مما قال :

لقد صار قلبي قابلاً كل صورة : فمرعى لغـزلان وديــراً لرهـبــــــــــان

وبيــتاً لأوثـــان وكــعـبـــــــة طائف : وألــــواح تــــوراة ومصحف قـــرآن 

وقال أيضا : 

عقد الخلائقُ في الإله عقائداً : وأنا اعتقدتُ جميع ما اعتقدوهُ

وقال أيضا : 

العبد ربٌّ والرب عبدٌ : يا ليت شعري من المكلّفْ

إن قلت عبدٌ فذاك ربٌّ : أو قلت ربٌّ فأنى يُكلّفْ

وسار ابن الفارض على نفس النهج فكان مما قال :

وقـد جـاءني مني رسولٌ، عليه ما : عَنتُّ ، عزيزٌ بي ، حريصٌ لرأفــة

إلـيّ رسولاً كـنتُ منّـيَ مـرسـلاً : وذاتـي ، بآياتي عليّ ، اسـتدَلّتِ

وإني ، وإن كنت ابـن آدم ، صـورةً : فلـي فيه معنىً شـاهدٌ بـأبوّتي

ولا تحسـبنّ الأمر عنّـي خارجـــــاً : فما ساد إلّا داخـلٌ في عـبـودتي

ولولاي لم يوجد وجودٌ ، ولـم يكـنْ : شهودٌ ، ولم تعهـد عهـودٌ بذمّة

لقد عاش هؤلاء في عصر شاعت فيه عقائد الحلول ، والاتحاد ، ووحدة الوجود ، ووحدة الشهود .. وما يستتبع ذلك من عقيدة الفناء في حب الذات الإلهية حتى يكون المحب عين المحبوب ، وتُكشف له الحجب ، وتَسقُطُ عنه التكاليف ، وتباح له المحرمات .. إلى آخر هذه الطامات ، التي لا ينبغي اعتقادها البتة ، لأنه لو لم يكن فيها سوى غموضها المريب ، لكفى ذلك حافزا على تركها .. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تركنا على محجة بيضاء ، ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها إلا زائغ .. 

وقد تكفل العلماء الربانيون بالرد على أصحاب هذه العقائد في زمانهم ، وحذروا من اعتقادها ، لأن الزلل في الاعتقاد منزلق خطير ، قد ينتهي بصاحبه إلى النار والعياذ بالله تعالى .. ومع احترامنا لأصحاب تيار التصوّف ، ممن يعتذرون لابن عربي وابن الفارض ، والحلاج ، ومن كان على شاكلتهم ، أقول مع تقديرنا لمؤيدي هذا التيار ، فنحن نرى أن " وحدة الوجود " كانت محل أخذ ورد ، وقبول ورفض ، فكان من الأولى تركها ، وعدم الانتصار لها ، عملا بقوله صلى الله عليه وسلم " دع ما يربك إلى ما لا يريبك " 

2 – ومما لا شك فيه أن أعداء الإسلام ، يُتقنون الاستفادة من التيارات المريبة دائما ، ويُحسنون استغلالها في الكيد للإسلام وأهله ، وها نحن اليوم نعيش محنة تيار الخوارج من جديد ، فالذين حاربهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم النهروان ، قد أطلت علينا فتنتُهم برأسها بمسمى (داعش ) ، وخرج علينا دعاتها تحت الرايات السود ، فارتكبوا باسم الإسلام من العار ؛ ما لا تغسله مياه البحار ..

وبنفس العقلية التآمرية نقَّبَ أعداءُ الإسلام في التاريخ ، باحثين عن ثغرات يخلصون من خلالها إلى زعزعة عقيدة الأمة ، فوجدوا ضالتهم في فكرة " وحدة الوجود " القديمة ، فصاغوا دعوات مستحدثة على غرارها ، وأخرجوها في ثوب جديد مطور ، يناسب عقلية أبناء العصر ، تحت مسمى " التعايش السلمي بين الأمم ، على أساس من وحدة الأديان ، وتقارب أتباعها بعضهم من بعض " ممهدين إلى ذلك بالقول : إن رب الخليقة واحد ، فهو رب المسلمين ، ورب اليهود ، ورب النصارى ، والمجوس ، وإنه رب إبراهيم ومحمد وموسى وعيسى عليهم السلام ، ورب زرادشت وبوذا وماني .. وإن رحمته وسعت كل شيء ، وحاشاه أن يحرق بالنار من عصاه ، فهو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين .. ونسي هؤلاء أن الله الرحمن الرحيم ، هو الله الجبار القهار الحكم العدل ، شديد العقاب . وأنه خلق الجنة وخلق لها أهلها ، وخلق النار وخلق لها أهلها .. وأنه تكفل بالثواب لمن أطاع ، وبالعقاب لمن عصى .. 

3 – يقول الأستاذ محمد محمد حسين في كتابه الاتجاهات الوطنية إن " الدعوة إلى التوفيق بين الأديان " قد بدأت عام 1883م باتفاق بين الشيخ محمد عبده (1849-1905) م مفتي الديار المصر ية في ذلك الحين ، وبين قسيس إنجليزي يدعى ( إسحاق تيلور) . انتهى النقل . 

ثم سلك هذا النهج ؛ كل من رفاعة الطهطاوي ( ت 1873 ) م ، وعبد الرحمن الكواكبي ( ت 1902) م ، ممن بهرتهم الحضارة الغربية ببهرجها آنذاك . وكانوا يرون أن التقارب بين المسلمين وبين أصحاب الحضارة الغربية المادية والأخذ بأسبابها ؛ سوف يساعدُ المسلمين على اللحاق بركب تلك الحضارة ، ويُـمَكِّنُ لهم في الأرض .. ثم تبعهم في ذلك الشيخ علي عبد الرازق (1888-1966م) صاحب كتاب الخلافة وأصول الحكم ، وعلى نفس النهج مضى طه حسين الأعمى (1889- 1973م ) في كتابه مستقبل الثقافة في مصر وكتاباته الأخرى التي ما فتئ يبشر بها بالتغريب ، والأخذ بالأسلوب الفرنسي كنموذج حضاري يراه فريدا ... 

4 - ثم تبعهم في هذا المضمار كتّابٌ معاصرون؛ كان من أبرزهم الأستاذ حسن الترابي (1932 – 2016م) ، الذي تجاوز في هذه القضية كل الخطوط الصفراء والحمراء ، حين دعا إلى قيام جبهة ( أتباع الملة الإبراهيمية ) ، التي تضم " الإسلام واليهودية والنصرانية " في إطار الوحدة الوطنية التي باتت من أكبر اهتمامات الشعوب في العصر الحاضر ، زاعما أنه يمكن التوصل إلى هذه الوحدة بالإسلام على أصول الملة الإبراهيمية ، التي تجمع أتباع الديانات السماوية الثلاث بالتاريخ الديني المشترك .. 

ثم تطورت هذه الدعوة ، من دعوة إلى "التوفيق بين الأديان " إلى " تقارب بين الأديان " ومن ثم إلى " وحدة الأديان " .التي يرفع لواءها اليوم بجرأة وصراحة ووضوح .. الأستاذ محمد حبش، عضو مجلس الشعب السوري سابقا، رافعا على موقعه في الفيس بوك شعار [إخاء الأديان .. وكرامة الإنسان] متبنيا جميع ما يترتب على هذه الفكرة الشيطانية من نتائج ، مجاهراً بأنه مخالفٌ في ذلك لجمهور علماء المسلمين ، وآخذٌ بالقول المرجوح ، لا الراجح .. وكان الأبرأ لدينه وعرضه ، أن يأخذ بالقول الراجح ، لا المرجوح ..

عملا بالحديث الشريف ؛ الذي رواه النعمان بن بشير رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { الحلال بين والحرام بين ، وبينهما أمور مشتبهات ، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام .. } فالاستبراء للدين والعرض يقتضي ترك المتشابه ، خصوصا في قضايا الاعتقاد ، فلا يتتبع المتشابهات إلا الذين في قلوبهم زيغ ، قال تعالى { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ "7" } آل عمران .

5 - والسؤال الموجه إلى الأستاذ محمد حبش : كيف يمكن التوفيق بين عقيدتي التثليث والتوحيد في المسيحية والإسلام ، وكيف يمكن التوفيق مثلا ؛ بين المختلفين في شأن عيسى عليه السلام ، فاليهود لا يرون فيه سوى مهرطق كذاب ، لا ينبغي تصديقَهُ ولا اتِّباعَهُ ، وإنما يرون أنه يستحق القتل، وقد هموا بذلك فعصمه الله تعالى، بينما يعتقد النصارى أنه إله أو ابن الإله .. بينما يقول المسلمون : إنه عبد الله ورسوله .. 

بل كيف نوفق بين توراة تتهم الله تعالى بالسكر والزنا والبخل وتقول يد الله مغلولة .. وبين قرآن نزهه الله سبحانه عن كل نقصان ، ويوجب وصفه تعالى بكل كمال ؟ بل كيف التوفيق بين ما أمرت به التوراة بأن يقتل التائب نفسه ، وبين اعتبار القرآن قتل النفس جريمة يستحق صاحبها أن يعذب بالنار .؟ وإلى أين ينبغي أن نتوجه في صلواتنا ؟ أنتوجه إلى بيت المقدس قبلة اليهود ؟ أم إلى مشرق الشمس قبلة المسيحيين ؟ أم إلى الكعبة قبلة المسلمين ؟ أم نصلي كل يوم إلى اتجاه .؟ ثم على أية ديانة ينبغي أن تقام الصلاة في الأرض .؟ على الطريقة الإسلامية ، التي تلزم بخمس صلوات ، أم على الطريقة لمسيحية التي تكتفي بصلاة واحدة في الأسبوع ، أم على الطريقة اليهودية ، فتؤدى ثلاث صلوات في اليوم ، بدون وضوء ولا طهارة ولا ركوع ولا سجود وإنما بتحريك الرأس والجسم من الخلف إلى الأمام..

وأم المعضلات في قضية " وحدة الأديان " كيف سيتم التوفيق بين الموحدين ، القائلين بأنه لا إله إلا الله ؛ وبين عبدة الشيطان ، الذين زعموا أن الشيطان إله في الأرض ، كما اللهُ إلهٌ في السماء ، لأنه – في زعمهم - كان الكائن الوحيد الذي تجرأ أن يقول لله تعالى ( لا ) فاستحق بذلك عندهم العبادة والتعظيم .؟؟؟

6 - وللخروج من هذه الإشكالات جميعا ؛ فإن محمد حبش وشركاءه من أصحاب الدعوة إلى " وحدة الأديان " يرون أنه على أتباع الأديان تجاوز ظواهر النصوص الدينية ، إلى مقاصدها التي تناسب تفسيرهم ، أو إيقاف العمل بها على اعتبارها نصوصا تاريخية ، كانت صالحة للعمل بها في حقبة زمنية مضت وانقضت ، ثم تجاوزها الزمن ، ولم تعد ملائمة لطبيعة العصر الحالي ... 

ولازمُ قولهم هذا ؛ أنهم يَدْعُون إلى تعطيل النصوص الدينية ، وإلغاء العمل بها ، بدعوى أنها باتت تمثل الجمود على القديم ، ولا تصلح لعصرنا الحاضر ، من ذلك مثلا : إلغاء كل نص يقول بقطع يد السارق ، ورجم الزاني والزانية المحصنين ، وحد القذف ، وحد السكر ، وحد الحرابة .. ثم التماهي في هذه القضايا مع ما يتماشى وروح المدنية المعاصرة . 

ولنا أن نتساءل قائلين : ألا يصدق في الأستاذ محمد حبش وأصحابه جميعا قوله تعالى في محكم التنزيل : {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ (86) } سورة البقرة

أما بعد : فقد عرف أعداء الإسلام قديما ؛ أن عقيدة "وحدة الوجود" في صورتها المجردة ، كانت بمثابة مِعولِ هدمٍ لمعالم الدين المنزّل من السماء على الأنبياء .. ثم اكتشف أعداء الأديان أخيراً أن الإيمان بــــ ( وحدة الوجود ) التي نودي بها فيما مضى للقضاء على الإسلام ، يمكن أن يقام على أنقاضها بناء ( وحدة الأديان ) ، لا للقضاء على الإسلام وحسب ، وإنما للقضاء التام على كل الملل والنحل ، ليسود تيار الإلحاد ، وينتشر الفساد ، فيعم البلاد والعباد .

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين