الدعوة إلى وحدة الأديان ، بين التصور والإمكان (1)

1 – ليس من شأن المسار الخطأ أن يقود إلى الهدف المطلوب ، وإنما ينأى بصاحبه عن الغاية المتوخاة ، والدعوة إلى ( وحدة الأديان ) عنوان خطأ لن يصل منه أصحابه إلى ما يروجون له من ( حسن التعايش بين البشر ) فهي دعوة إلى تنازلات متبادلة عن ثوابت الدين بين المختلفين ، لن تُحوِّلَ أصحابها إلا إلى حال من التدين ، بعيدة عن أيّ دين .. ولن تنتهي بهم إلا إلى دين مزيف ، مقطوع الصلة عن السماء ، لم يسبق أن دعا إليه أحد من الأنبياء .. 

ولهذا يمكن القول : إن الدعوة إلى ( وحدة الأديان ) عدا عن كونها من الكفر البواح ، فهي خطأ فاحشٌ ، ومحاولة عقيمة ، مخالفة لطبائع الأشياء ، وهي لا تعدو عن كونها تجديفاً بعكس التيار ، لن يقود البشرية إلى سلام تتمناه ، ولا إلى استقرار تحلم بتفيؤ ظلاله ، قال ربنا وهو العليم الخبير : [ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ «118» ] هود . 

وكان الصواب – في تقديري- لو أنهم دعوا إلى التعايش الدنيوي بين الأمم والشعوب ، على أسس من المصالح المتبادلة ، إذن لكانت دعوتهم أنفع وأجدى [ وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ «61»] الأنفال .

2 – ثم إن هذه الدعوة إلى ( وحدة الأديان ) هي من القضايا المفصول بعدم إمكانها قرآنيا ، قال تعالى : [ وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ «120» ] البقرة .. وقال تعالى: [ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ «145» ] البقرة . والنفي بـ (لن) عند الزمخشري يفيد التأبيد ..

فتوَهُّمُ إمكان جمع الديانات الثلاث في كيان موحد ، لا يعدو عن كونه طلباً لماء من سراب ، ومحاولة مقضيّاً بعدم نجاحها قبل البدء بها . ففيم ضياع الأوقات والأنفاس في طلبها ، وفيم إقامة المراكز لهذه الغاية الموهومة، التي لم يتحقق مثلها في الماضي، ولن يتحقق في الحاضر ولا في المستقبل القريب ولا البعيد .. وسيظل المخدوعون المنبطحون يلهثون وراءها دون جدوى .

3 – وفوق هذا وذاك ؛ فإن الدعوة إلى الوحدة الدينية مع اليهود والنصارى ، هي دعوة إلى الترقيع في العلاقات ، والقبول بأنصاف الحلول للتلاقي في منتصف الطريق ، وهذا تصور بعيد عن الواقع بُعدَ المشرق عن المغرب ، ولستُ أدري كيف يمكن جمع أكثر من أربع مليارات ونصف المليار من المسيحيين والمسلمين واليهود على فكرة دينية واحدة ، ليست مسيحية ولا إسلامية ولا يهودية ، ولا يجمع بين أصحابها أنساب ، ولا لغة مشتركة في الخطاب ، ولا تقارب في المعتقد ، ولا الجغرافيا ، ولا التاريخ .. فكيف يمكن تصور قيام هكذا وحدة ، بين ذلك الخليط غير المتجانس من هذه الديانات الثلاث .؟؟ إن هذا ضرب من الهذيان ، وحماقة لا ينبغي أن يتبناها أحد .

4 – ثم إن هذه الفكرة من حيث المبدأ تقوم على ما يناقض عقيدة الولاء والبراء التي أمر الله تعالى بها المرسلين قال سبحانه لخاتم أنبيائه عليه الصلاة والسلام : [ وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ «41» يونس ] وقال تعالى لنبيه نوح عليه السلام [ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرَمُونَ «35» هود ] وقصّ القرآن الكريم خبر نبيه إبراهيم عليه السلام والذين معه ، وما كان من براءتهم من المشركين بقوله تعالى [ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ «4» الممتحنة ] وتأكدت هذه "البراءة" بسورة سميت باسمها في القرآن الكريم وفيها قوله تعالى [ وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ" «3»] سورة براءة .

5 – التعايش بين الشعوب :

أما " التعايش بين الشعوب" فهو شيء مختلف عن " التقارب الديني" وهو أكثر اختلافاً عن " وحدة الأديان " ولكنه أمر ممكن ، يندرج تحت عنوان : " السياسة الشرعية " والتعاون الدولي البناء ، القائم على رعاية المصالح المشتركة ، في ظلال من المسالمة والموادعة ، ووقف الاقتتال بين البشر . قال تعالى [ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ «61» ] وقال صلى الله عليه وسلم [ يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَسَلُوا اللهَ الْعَافِيَةَ ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ ] رواه البخاري .. وَهَذَا يعني أن السلم أحب إلى الله ورسوله من الحرب ، وأن مشروعية الحرب إنما كانت في الأصل ؛ لضَرُورَةٌ مَنْعُ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ ، وَإِعْلَاءُ كَلِمَةِ الْحَقِّ في مقر خلافة الإنسان .

ومما يقوي ذلك ، أن البشرية كلها ، يربط بعضها ببعض رابط الرحم ، فهم أبناء أسرة واحدة ، أبوهم آدم وأمهم حواء .. قال تعالى : [ يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ، وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها ، وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَساءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً «1» النساء ] .. وقال تعالى :[ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا «13» الحجرات ] .. ولو استحضرت البشرية هذه الحقائق ، وجعلتها نصب أعينها ، لقامت علاقاتها فيما بينها ؛ كما تقوم العلاقة بين أبناء الأسرة الواحدة ، على وشائج الحب والرعاية والتعاون البناء ، لا على الحروب وما ينشأ عنها من قتل ودمار وفناء ..

6 – والآن دعونا ننتقل إلى الإبراهيميين . أعني المنادين ( بوحدة الأديان الثلاثة اليهودية والنصرانية والإسلام ) وجمعها على ملة إبراهيم ، الذي ينتهي إليه نسب كلٌّ مِنْ موسى وعيسى ومحمد عليه وعليهم الصلاة والسلام . وكأنَّ الأصل الذي تنتمي إليه هذه الدعوة هو العنصرية إلى النسب الواحد ، على اختلاف الدار ، وبعد المزار .!! مع أن العالم الذي نعيش فيه اليوم ، فيه ديانات أخرى ؛ لا علاقة لها بدين إبراهيم ؛ كالبوذية والمجوسية والزرداشتية والسيخية والمانوية وعبدة الشيطان.. إلى غير ذلك من الملل والنحل المنتشرة في مشارق الأرض ومغاربها .. خصوصا وأن السبب الجوهري لهذه الدعوة – فيما يزعم أتباعها الإبراهيميون – هو ظهور التطرف والعنف والإرهاب في العالم اليوم .. وهذا هو السبب المعلن لتبني الدعوة إلى" توحيد الأديان " ورفع شعارات التسامح والوسطية والاعتدال، وقبول الآخر، وضرورة الحوار الديني بين أتباع الديانات، بغرض الوصول إلى صيغة من العيش المشترك فيما بينهم بسلام ووئام ..

7 – إن الإيمان بمخرجات فكرة " توحيد الأديان " لتمثل في الواقع جملة من نواقض الإيمان عند المسلمين ، منها : 

( أ ) الشهادة للتوراة والإنجيل ؛ الموجودين حاليا بين أيدي اليهود والنصارى ، بالسلامة من التحريف والتبديل . وهي - لعمر الله - شهادة مناقضة لعدد من آيات القرآن الكريم، المصرحة بأن أهل الكتاب حرفوا وبدلوها . قال تعالى [ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ «78» البقرة ] وقال تعالى: [ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا «46» النساء ].. وتكذيبُ القرآن مُخرجٌ من الإسلام .

( ب ) وفي هذه الفكرة إبطال لحد الردة ، والسماح للمسلم والمسلمة بالانتقال من الإسلام إلى المسيحية أو اليهودية دون اعتراض ولا نكير . وهذا مصادم لقوله صلى الله عليه وسلم " من بدل دينه فاقتلوه " وقوله أيضا : " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنَّفس بالنَّفس ، والتَّارك لدينه المفارق للجماعة " صحيح مسلم

( ج ) والقول بوحدة الأديان سيقود بالضرورة إلى القول بجواز زواج المسلمة من يهودي أو نصراني، مع أن ذلك مصادم لنصوص القرآن والسنة قال تعالى : [ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ، وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ «10» الممتحنة ] أي : لا تحل مؤمنة لكافر ، ولا نكاح كافر لمسلمة .. 

وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : جرى الصلح بين صلى الله عليه وسلم ومشركي قريش عام الحديبية، على أن من أتاه من أهل مكة رده إليهم، فجاءت سعيدة أو سبيعة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب ، والنبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية بعد، فأقبل زوجها وكان كافرا- وهو صيفي بن الراهب. وقيل: مسافر المخزومي- فقال: يا محمد، اردد علي امرأتي فإنك شرطت ذلك ، وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .. فلم يردها له ، ودفع إليه مهرها .

وقيل : جاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، فجاء أهلها فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ، ردها علينا للشرط ، فقال صلى الله عليه وسلم : ( كان الشرط في الرجال لا في النساء) فأنزل الله تعالى هذه الآية . فجاءت هذه الآية تمنع من إرجاع النساء المؤمنات إلى الكفار، فهي من باب نسخ السنة بالقرآن كما يرى بعض الأصوليين .. 

( د ) ناهيك عن أمور أخرى مصادمة للثوابت الإسلامية ؛ لا تقل خطورة عما سبق .. فـ ( وحدة الأديان ) هذه ؛ تلغي أن يكون القرآن مهيمنا على الكتب السماوية أو ناسخا لها .. وتلغي أن يكون محمد خاتم النبيين ، بل تلغي أن يكون عيسى ومحمد عليهما السلام نبيين ، فاليهود لا يؤمنون بنبوة بعد موسى عليه السلام .. وهذه الفكرة أيضا تلغي مشروعية الجهاد لإعلاء كلمة الله .. وتسمح بأن يُطبع القرآن مع التوراة والإنجيل في نسخة بغلاف واحد، يتداولها اليهودي والنصراني والمسلم .. وفي هذا امتهان للقرآن الكريم ، وتمكين الكفرة من مسه ، والله تعالى يقول [ لا يَمَسُّهُ إلا المُطهَّرُون «4» الواقعة ] أي لا ينبغي أنْ يَمَسَّ القرآن كافرٌ ملطخ بنَجَسِ الشّرك ويقول سبحانه وتعالى أيضا [ إنَّما المُشرِكُونَ نَجَسٌ «28» التوبة ] . وجاء في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن الذي أرسله إليهم مع عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ ، وَفِيهِ :« وَلاَ يَمَسُّ الْقُرْآنَ إِلاَّ طَاهِرٌ » . ويطالبنا أصحاب هذه الدعوة بإلغاء " دار الإسلام " فمكة والفاتيكان سواء ، والمدينة المنورة وتل أبيب سيان ، ولو تم لهم ما يريدون – لا سمح الله - لرأينا الكنائس النصرانية ، والمعابد اليهودية تبنى بالعشرات في مكة والمدينة ، ولتعالت أصوات نواقيس الكنائس المسيحية؛ وأبواق المعابد اليهودية؛ عند كل أذان يرفع لإقامة الصلوات الخمس في الحرمين الشريفين ..

ولست أدري كيف يتجرأ مسلم على خوض هذا الغمار ، وكيف يستحل الترويج لمثل هذه الأفكار .. وحسبنا الآن هذا القدر مما عرفناه عن هذه الفكرة الدخيلة ، التي وضح أنه لا يتبناها إلا مطموس البصيرة ، ممن آثر أن يبيع آخرته بعرض من الدنيا قليل .. 

انتهى و( يتبع في مقالة لاحقة ) إن شاء الله تعالى .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين