التدرج سنةٌ قدريةٌ وحكمةٌ تشريعيةٌ (5)

ثانياً: التدرج في تطبيق الشريعة ينبغي ألا يكون وسيلة لتخدير الشعوب ولا للاستغلال السياسي

إن مما أساء إلى قاعدة التدرج في التطبيق النماذج السيئة التي أرادت أن تستغل تطبيق الشريعة لمقاصد سياسية ومآرب شخصية، أو لتجاوز مرحلة يتم فيها تزجية الوقت بتخدير الأمة بالشعارات، في حين لا شيء يتحقق في أرض الواقع.

إن الصدق في تطبيق الشريعة له أمارات وعلامات يدركها الواعون المنصفون العقلاء من أبناء الأمة، فهم يستطيعون التمييز بين القول الصادق والادعاء الكاذب، ومن تلكم الأمارات الدالة على الجدية:

1- تعديل الدستور بحيث يعبر عن هذه الرغبة بالطريقة المناسبة وبالصيغة الملائمة، ويمكن تقنين ذلك عن طريق تشريع مواد تتناسب مع هذه الغاية، ومن ذلك إزالة كل المواد التي تخالف صراحة قطعيات الشريعة وأحكامها.

2- اختيار البطانة الصالحة التي تدل على الحق والخير وتعين على اتباعهما مع التمكين لها، ومن هؤلاء أهل العلم الذين يبينون خطة التدرج من حيث الأحكام ومراعاة الحال والزمان، وكذلك إبعاد بطانة السوء التي تسعى للفساد والإفساد، فهذا من أكبر الأدلة على جدية الحاكم في الإصلاح، ولكن لو بقيت بطانة السوء فهذا من أكبر المؤشرات على عدم جدية الدعوى.

3- ازدياد وجوه الخير وانحسار وجوه الشر يوماً بعد يوم، ولو كان ذلك بطيئاً، فتصبح القضية مسألة وقت، فسوف يعم الخير ويزداد أهله، وينحسر الشر ويقل أهله، ولا يكون ذلك إلا باستعمال الأصلح فالأصلح في ولايات الناس ووظائفهم العامة.

4- مراعاة الأولويات في حدوث الإصلاح والتغيير، فليس من الأولويات تطبيق الحدود كما فعل البعض، ونجم عن ذلك نفرة من الناس لأنهم لم يتهيؤوا لذلك، فمن أهم الأولويات إصلاح مناهج التعليم ووسائل الإعلام، بحيث يتم تلقين الشريعة الإسلامية بوسطيتها واعتدالها وعدلها، والتركيز على تخلق الناشئة بأخلاق الإسلام ومراعاة آدابه، ومن أهم الأولويات تثبيت العقيدة في قلوب الناس، ويستـأنس هذا من القرآن المكي الذي ظل يعالج هذه الموضوعات ثلاث عشرة سنة قبل غيرها، لكن ببساطة الخطاب ونصاعة الاستدلال، ومجتمعاتنا عموماً اليوم لا تشكو من الإلحاد، لكنها تشكو بالمجمل من ضعف الإيمان، مما تسبب في هجران كثير من الأحكام والآداب الشرعية، وهذا يحتاج من الداعية إلماماً بواقع المجتمع وفهماً لعلله وأمراضه، ومن ثم يكون العلاج على وفقه.

5- من الأولويات تأمين البدائل المشروعة لما يأتيه الناس من معاملات غير مشروعة بدعوى الحاجة والضرورة، ولا يكون ذلك إلا بمواكبة الفقه الإسلامي لحاجات الناس ونوازلهم، فالمصارف الإسلامية تمكّن الناس من الاستغناء عن الربا ومصارفه، فلا بد من تقديم النموذج الإسلامي في الاقتصاد والاجتماع.

6- تهيئة الناس لما لم يألفوه من الأحكام وذلك بالبيان المسبق والتعليم والتثقيف وضرب الأمثلة، قال ابن القيم في بيانه لأدب المفتي: (الفائدة السابعة: إذا كان الحكم مستغربًا جدًا مما لم تألفه النفوس، وإنما ألفت خلافه فينبغي للمفتي أن يوطئ قبله ما كان مأذونًا به كالدليل عليه والمقدمة بين يديه)[39].

7- السماح للدعوة الإسلامية بالقيام بأنشطتها لتوعية الناس وتعليمهم وتقريبهم من هدي دينهم وشرع ربهم، وعدم التضييق على دعاة الخير.

8- إزالة الشبهات والمعوقات التي يضعها أعداء الشريعة في سبيل تطبيقها، من قبيل حديثهم عن تطبيق الحدود، وحقوق المرأة، والمعاملات المالية، ومفهوم الحرية... إلخ، فيكون هذا من جملة التهيئة.

9- إقرار مبدأ حقوق الإنسان كما أقرته الشريعة الإسلامية وأكدته كثير من المواثيق الدولية، حقوقه في التعبير، وممارسة شعائر دينه، وانتقاد الفساد وفضح المفسدين.

10- عدم سن قوانين مخالفة صراحة للشريعة الإسلامية

11- تبني قضايا المسلمين في العالم، بحيث يكون الحاكم على الأقل متعاطفاً معها وناصراً لها بالموقف والكلمة.

12- تأمين أهم عنصرين للحكم الراشد وهما الكفاية والحماية، ويتلخص ذلك في تأمين الحد الأدنى من متطلبات معيشة الناس، وتأمين الحماية لهم بتحقيق الأمن لهم.

المصدر مجلة مقاربات الصادرة عن المجلس الإسلامي السوري

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين