التدرج سنةٌ قدريةٌ وحكمةٌ تشريعيةٌ (4)

 

الأسئلة المهمة في مسألة التدرج

في الحديث عن التدرج تستوقف المسلم أسئلة في غاية الأهمية، ومن دون الإجابة عليها يكون من الصعوبة بمكان بناء تصور متكامل عن فقه التدرج في الشريعة الإسلامية، ولعل أبرز هذه الأسئلة ثلاثة، هي:

1- هل توقَّف التدرج في التطبيق مع توقُّف التدرج في التشريع؟ أو يمكن أن يستمر التدرج في التطبيق بما يناسب أحوال المجتمعات؟

2- هل نقل عنه صلى الله عليه وسلم ما يدل على اعتباره تدرجَ التطبيق؟ بمعنى أنه أخّر المطالبة بتكليف شرعي بعد ثبوت حكمه وتشريعه.

3- من الذي يحدد مراحل التدرج في التطبيق على اختلاف المستويات؟

هذه الأسئلة المفصلية التي نتج عن الإجابة عليها بأشكال غير منضبطة آثارٌ كثيرة، سببت انقساماً كبيراً بين العاملين والدعاة للإسلام، ونتج عنها غلوٌ في التكفير للحكام والمحكومين على حد سواء، وكذلك فشلت كثير من المشاريع الإسلامية لعدم مراعاتها هذه السنة الربانية، ولأهمية هذا الموضوع لا بدّ من التفصيل فيه من جوانب مختلفة، فأبين ما يأتي:

أولاً: الشريعة لا تطبق إلاّ في مجتمع مؤمن

من الثابت أنّ أيّ قانون لا يمكن أن يحقق نجاحاً إلا في مجتمع يؤمن به، ويدرك أهميته، وإلا صار مجرد نظرية ليس لها حظ من الالتزام والعمل، ويؤكد هذا أن معظم تشريعات الإسلام قُررت في المدينة ولم تنزل في مكة، لأنّ الغلبة في مكة للكفار، فعامة المجتمع لا تقرّ بهذه التشريعات، وهذه الحقيقة أثبتها التاريخ عبر عصوره المديدة، فكلما قوي الإسلام في مجتمع وتمكن الإيمان فيه كان أقرب إلى تطبيق الشريعة من غيره، وكان التزامه في أغلب الأحيان يعطي صورة مشرقة تغري الآخرين بهذا الدين، وإذا اقتصر الأمر على رفع شعارات الإسلام فإنه سيعطي صورة مشوهة وناقصة كما يحصل في بعض البلاد اليوم، ومثال ذلك بعض الدول التي أعلنت عن تطبيق الشريعة فبدأت بتطبيق الحدود مع قصور واضح في المجالات الأخرى التي لا بد منها لتهيئة الناس، كمناهج التربية والتعليم والإعلام والوضع الاقتصادي والاجتماعي، مما أظهر الشريعة متناقضة مع نفسها، وأعطى صورة منفرة عنها. وللمجتمعات في تطبيق الشريعة أصناف:

الصنف الأول:

هناك مجتمع قطعت الدعوة فيه أشواطاً بعيدة فأحدثت بيئة إسلامية تنقاد طواعية لأحكام الشريعة، لما تذوّق أفرادها من حلاوة الإيمان، فغدوا يتطلعون لتحكيم الشريعة في كل جوانب الحياة، وأصبح ذلك مطلباً شعبياً لعامة الناس أو أغلبهم، وينطبق هذا على المجتمع الإسلامي الأول مجتمع المدينة، فقد استقرّ الإيمان في قلوبهم وذاقوا حلاوته، فكان التدرج في التشريع وليس في التطبيق، إذ وجدنا أنه كلما نزل تشريع سارعوا إلى تطبيقه طواعية بمجرد حصول التبليغ والعلم به، وأما المنافقون وهم الأقل فكانوا يساقون بسلطان الدولة، وينقادون لنظامها العام، وما كان بينهم وبين ربهم فقصورهم فيه يعود عليهم وحدهم، ويشهد على الالتزام الطوعي لأحكام الشريعة كثير من أحداث ذلك العصر، منها ما وقع عند نزول تحريم الخمر، فقد هرعوا إلى دنانهم فأهرقوها وبعضهم كسرها وإن لم يؤمروا بذلك، لكن مبالغة منهم في إظهار الامتثال، ولهذا أمثلة وشواهد فردية وجماعية كثيرة روتها كتب السير والسنة النبوية.

الصنف الثاني:

ومجتمع آخر حديث عهد بإسلام، دخل الناس فيه حديثاً في الدين، فلا بدّ في هذا المجتمع من تحديد الأولويات، وتقديم الأهم على المهم، ومثال ذلك التركيز على عقيدة التوحيد وأركان الإسلام الكبرى كالصلاة والصيام والزكاة، والمحرمات القطعية كالربا والزنا وشرب الخمر، ويندرج هذا تحت ما يسميه الفقهاء اصطلاحاً (ما علم من الدين بالضرورة) والتدرج هنا ليس تدرج تشريع وإنما تدرج تطبيق، وأمثلته حال من دخل في الإسلام زمن النبي عليه الصلاة والسلام فرادى أو جماعات، وخير بيان لهذا الهدي حديث معاذ رضي الله عنه حين بعثه عليه الصلاة والسلام إلى اليمن، فقد جاء فيه قوله عليه الصلاة والسلام: ((ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم))[17].

الصنف الثالث:

وهناك مجتمع هو مسلم بالأساس وليس حديث عهد فيه، لكن اعتراه كثير من التشويه والبعد عن حقائق الإسلام وجوهره، وتعطيل كثير من أحكامه كحال كثير من المجتمعات المسلمة اليوم، لا سيما إن طال عليها الأمد وألفت كثيراً من المحظورات التي لا تجيزها الشريعة، فهل يجب العمل على عودة الأمة والمجتمع إلى كل تشريعات الإسلام دفعة واحدة، أو يمكن أن يسلك التدرج في التطبيق حتى يعود الناس شيئاً فشيئاً إلى الالتزام الكامل بأحكام الشريعة؟ هنا انقسم العاملون في الشأن الإسلامي المعاصر إلى فريقين:

الفريق الأول: ينادي بشمول الشريعة، وأنه بعد اكتمال الشريعة لا يسوغ التدرج.

واستدلوا على ذلك فيما اصطلح على تسميته بأدلة (الحاكمية) من مثل قوله تعالى ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ [المائدة: 49] وقوله في مجال الإنكار: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ ‌بِبَعْضِ ‌الْكِتَابِ ‌وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ [البقرة: 85].

وقد اعتبر هذا الفريق الخروج عن بعض جزئيات الدين كالخروج عنه بالكلية، وممن سلك هذا المسلك سيد ومحمد قطب، وعبدالقادر عودة وغيرهم، وفندوا شبه التدرج في التطبيق بعد اكتمال التشريع، واعتبروا الأخذ بالبعض وترك البعض أو تأجيله عملاً بالهوى، والانتقائية في ذلك تستند إلى مصلحة موهومة مزعومة، وكل ذلك بحقيقته تساهل ومدخل من مداخل الشيطان بحجة تأليف القلوب وإرضاء المجموع، يقول سيد رحمه الله: (إن شريعة الله أبقى وأغلى من أن يضحَّى بجزء منها في مقابل شيء قدر الله ألا يكون، فالناس قد خلقوا ولكل منهم استعداد، ولكل منهم مشرب، ولكل منهم منهج، ولكل منهم طريق، ولحكمة من حكم الله خلقوا هكذا مختلفين، وقد عرض الله عليهم الهدى وتركهم يستبقون، وجعل هذا ابتلاءً لهم يقوم عليه جزاؤهم يوم يرجعون إليه، وهم إليه راجعون، وإنها لفعلة باطلة إذن، ومحاولة فاشلة أن يحاول أحدٌ تجميعهم على حساب شريعة الله، بتعبير آخر على حساب صلاح البشرية وفلاحها، فالعدول أو التعديل في شريعة الله لا يعني شيئاً إلا الفساد في الأرض، وإلا الانحراف عن المنهج الوحيد القويم، وإلا انتفاء العدالة في حياة البشر، وإلا عبودية الناس بعضهم لبعض) إلى أن يقول: (وهو شرٌ عظيم وفساد عظيم لا يجوز ارتكابه في محاولة عقيمة لا تكون)[18].

الفريق الثاني: يرى العمل بالتدرج بالتطبيق.

هذا الفريق يرى أن التدرج في التطبيق مختلف تماماً عن التدرج في التشريع، ومن أشهر من تبنى ذلك من المعاصرين المودودي والقرضاوي، واستدلوا بأمور:

الدليل الأول:

المعنى المستوحى من التدرج التشريعي زمن الرسالة إذ الحكمة منه مراعاة أحوال الناس، وإعانتهم على قبول الحق والإذعان له، وهذه حكمة معتبرة بعد زمن الرسالة تقتضي تدرج التطبيق، يقول ابن تيمية: (إنَّ مِنْ الْمَسَائِلِ مَسَائِلَ جَوَابُهَا السُّكُوتُ كَمَا سَكَتَ الشَّارِعُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ عَنْ الْأَمْرِ بِأَشْيَاءَ وَالنَّهْيِ عَنْ أَشْيَاءَ حَتَّى عَلَا الْإِسْلَامُ وَظَهَرَ، فَالْعَالِمُ فِي الْبَيَانِ وَالْبَلَاغِ كَذَلِكَ؛ قَدْ يُؤَخِّرُ الْبَيَانَ وَالْبَلَاغَ لِأَشْيَاءَ إلَى وَقْتِ التَّمَكُّنِ كَمَا أَخَّرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إنْزَالَ آيَاتٍ وَبَيَانَ أَحْكَامٍ إلَى وَقْتِ تَمَكُّنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا إلَى بَيَانِهَا)[19].

الدليل الثاني:

نقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه رخّص في بعض الأحوال بشرائع مخصوصة مع أنها شرعت واكتمل تشريعها، فمن ذلك حديث (اشترطت ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم ألاّ صدقة عليهم ولا جهاد، وأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((سيتصدقون ويجاهدون))[20] وحديث نصر بن عاصم الليثي ((عن رجل منهم أنّه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم على ألا يصلي إلا صلاتين فقبل منه))[21] قال ابن رجب: (وأخذ الإمام أحمد بهذه الأحاديث وقال: يصح الإسلام على الشرط الفاسد ثم يلزم بشرائع الإسلام كلها، واستدلّ أيضاً بحديث حكيم بن حزام قال: (بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على ألا أخرّ إلا قائماً)[22]، قال أحمد: (معناه أن يسجد من غير ركوع)[23].

وقد ذهب بعض أهل العلم كالسيوطي في {الخصائص الكبرى} إلى أنّه من خصائصه عليه الصلاة والسلام أن يخص من شاء بما شاء من الأحكام، ويسقط عمن شاء ما شاء من الواجبات، لكن يلتمس من كل ذلك التدرج، فقال عن ثقيف بأنهم سيتصدقون ويجاهدون، ومن المعلوم بالضرورة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل مِن كل مَن جاءه يريد الدخول في الإسلام الشهادتين فقط، ويعصم دمه بذلك ويجعله مسلماً، وتعددت الروايات في بيعته كثيرين؛ بعضهم على الشهادتين وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة فقط، وبعضهم بايعهم على أكثر من ذلك، مع أن الأحكام مستقرة، لكن كان يطالبهم فيما بعد بكامل الشرائع والواجبات، وخرّج العلماء قبول اشتراط الكافر على إسلامه شرطاً فاسداً على قاعدة تقديم المفسدة الأخف على الأشد عند تزاحم المفاسد، فلو اشترط شرب الخمر فإنه أهون من بقائه على كفره، وبالمقابل يمكن ترك مصلحة خوف مفسدة،

الدليل الثالث:

سيرة الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز، إذ إن عمر لم تكن تنقصه الحماسة ولا الغيرة على الدين وأحكامه وحرماته، فقد نقل عنه قوله: (لو كان كل بدعة يميتها الله على يدي، وكل سنة ينعشها الله على يدي ببضعة من لحمي حتى يأتي آخر ذلك على نفسي كان في الله يسيراً)[24].

ولكن عمر كان يرى أن الإصلاح والتغيير له سننه وقوانينه، يلخص ذلك جوابه لابنه عبد الملك الذي اعترض على أبيه تباطؤَه في تنفيذ كل الأحكام وإقامة العدل في كل المسائل والقضايا. قال عبدالملك لأبيه: (ما أنت قائل لربك غداً إذا سألك فقال: رأيت بدعة لم تمتها وسنة لم تحيها؟) فقال له عمر: (رحمك الله وجزاك من ولد خيراً، وأرجو أن تكون من الأعوان على الخير، يا بني: إن قومك شدوا هذا الأمر عقدة عقدة وعروة عروة، ومتى أريد مكابرتهم على انتزاع ما في أيديهم لم آمن أن يفتقوا عليّ فتقاً تكثر فيه الدماء، والله لزوال الدنيا أهون عليّ من أن يراق بسببي محجنة من دم، أو ما ترضى ألا يأتي على أبيك يوم من أيام الدنيا إلا وهو يميت فيه بدعة، ويحيي فيه سنة حتى يحكم الله بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الحاكمين)[25].

وفي مناسبة أخرى قال له: (يا بني، إن الله ذم الخمر في القرآن مرتين ثم حرمها في الثالثة، وأنا أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة فيدفعونه جملة، ويكون من ذلك فتنة)[26].

إن المعنى الذي قرره عمر بن عبد العزيز هو ما اصطلح على تسميته (اعتبار المآلات) فتغيير ما شاب عليه الكبير وشبّ عليه الصغير ليس أمراً سهلاً، فمن وُلد في الظلم فلربما مع طول العهد والألفة يظنه عدلاً، فهذا يحتاج لوقت حتى يعرف الحق والعدل ويألفهما، لذا نلاحظ من سياسته رحمه الله التدرج في الإصلاح، فكانت البداية بنفسه إذ جعلها قدوة صالحة، ثم بدأ برد المظالم التي وقع فيها بعض أسلافه إلى أهلها وإلى بيت مال المسلمين، وبقي في رد المظالم منذ تسلمه الخلافة إلى أن مات[27]. وهذا يعني ضرورة التعايش مؤقتاً مع مقادير من الظلم والفساد حتى يحين الحين لتغييرها شيئاً فشيئاً إلى أن تزول، وكان من سياسته تغليف العدل بشيء من مطامح الدنيا، كالدواء المر الذي يخلط بشيء من السكر ليستطيع المريض تناوله، قال عمر بن عبد العزيز: (إني لأجمع أن أخرج للمسلمين أمراً من العدل فأخاف ألا تحتمله قلوبهم، فأخرج معه طمعاً من طمع الدنيا، فإن نفرت القلوب من هذا سكنت إلى هذا)[28]. وكان من أبرز ما قامت عليه سياسته في الإصلاح:

1- التدرج والاهتمام بعنصر الوقت، فمما نقل عنه قوله: (لو أقمت فيكم خمسين عاماً ما استكملت فيكم ما أريد من العدل)[29]، وكان سعيه لاستكمال النقص وإصلاح الخلل في كل المجالات وليس في جانب على حساب جانب

2- الاستعانة بتولية الأصلح على شؤون الناس، قال ابن كثير: (وقد صرح كثير من الأئمة بأنّ كل من استعمله عمر بن عبدالعزيز ثقة)[30].

3- إقامة الشورى والعدل واستعادة دور الرعية، قال بعض السلف عن فترة توليته: (اليوم ينطق كل من كان لا ينطق)[31].

4- رد المظالم، وإعادة الأموال التي أخذت بغير حق إلى بيت المال، والحفاظ على المال العام، قال الماوردي: (كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله أول من ندب نفسه للنظر في المظالم فردها وراعى السنن العادلة وأعادها)[32].

الدليل الرابع:

قاعدة الاستطاعة المطردة في كل التكاليف الشرعية، وهذا من رحمة الله بعباده ولطفه بهم، ولذلك أدلة كثيرة من الكتاب والسنة، وشواهد كثيرة من السيرة النبوية، ومن ذلك: أن الهجرة فرضت على المسلمين في مكة، واعتبرت الآيات من لم يهاجر بأنه ظالم لنفسه قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ ‌الْمَلَائِكَةُ ‌ظَالِمِي ‌أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (٩٧)﴾ [النساء: 97] وقطع الولاية عمن لم يهاجر فقال: ﴿‌وَالَّذِينَ ‌آمَنُوا ‌وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾ [الأنفال: 72]، ومع ذلك عذر القرآن قوماً لعدم استطاعتهم فقال: ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ ‌مِنَ ‌الرِّجَالِ ‌وَالنِّسَاءِ ‌وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (٩٨) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ [النساء: 98-99].

وقد بيَّن حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام قاعدة التكليف الأساسية فقال: ((ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم))[33]، قال النووي في تعقيبه على هذا الحديث: (هذا من قواعد الإسلام المهمة، ومن جوامع الكلم التي أعطيها النبي صلى الله عليه وسلم، ويدخل فيه ما لا يحصى من الأحكام، كالصلاة بأنواعها)[34]، وهذا الحديث موافق لقوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ ‌مَا ‌اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16].

يقول ابن تيمية رحمه الله في تقرير هذا الأمر: (فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما كان بيانه لما جاء به الرسول شيئاً فشيئا بمنزلة بيان الرسول لما بعث به شيئاً فشيئاً، ومعلوم أن الرسول لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، ولم تأت الشريعة جملة، كما يقال: إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع، فكذلك المجدد لدينه والمحيي لسنته لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، كما أن الداخل في الإسلام لا يُمكِن حين دخوله أن يُلقّن جميع شرائعه ويؤمر بها كلِّها)[35]، ثم يبين رحمه الله لطيفة مهمة فقال: (وَإِذَا لَمْ يُطِقْهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا لَمْ يَكُنْ لِلْعَالِمِ وَالْأَمِيرِ أَنْ يُوجِبَهُ جَمِيعَهُ ابْتِدَاءً، بَلْ يَعْفُوَ عَنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بِمَا لَا يُمْكِنُ عِلْمُهُ وَعَمَلُهُ إلَى وَقْتِ الْإِمْكَانِ، كَمَا عَفَا الرَّسُولُ عَمَّا عَفَا عَنْهُ إلَى وَقْتِ بَيَانِهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ إقْرَارِ الْمُحَرَّمَاتِ وَتَرْكِ الْأَمْرِ بِالْوَاجِبَاتِ، لِأَنَّ الْوُجُوبَ وَالتَّحْرِيمَ مَشْرُوطٌ بِإِمْكَانِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَقَدْ فَرَضْنَا انْتِفَاءَ هَذَا الشَّرْطِ، فَتَدَبَّرْ هَذَا الْأَصْلَ فَإِنَّهُ نَافِعٌ، وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ سُقُوطُ كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً أَوْ مُحَرَّمَةً فِي الْأَصْلِ، لِعَدَمِ إمْكَانِ الْبَلَاغِ الَّذِي تَقُومُ بِهِ حُجَّةُ اللَّهِ فِي الْوُجُوبِ أَوْ التَّحْرِيمِ، فَإِنَّ الْعَجْزَ مُسْقِطٌ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فِي الْأَصْلِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ)[36].

وفي ذلك أيضا يقول العز بن عبد السلام رحمه الله: (إذَا اجْتَمَعَتْ الْمَصَالِحُ الْأُخْرَوِيَّةُ الْخَالِصَةُ، فَإِنْ أَمْكَنَ تَحْصِيلُهَا حَصَّلْنَاهَا، وَإِنْ تَعَذَّرَ تَحْصِيلُهَا حَصَّلْنَا الْأَصْلَحَ فَالْأَصْلَحَ وَالْأَفْضَلَ فَالْأَفْضَلَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿‌فَبَشِّرْ ‌عِبَادِ﴾ [الزمر: 17]، وقوله ﴿الَّذِينَ ‌يَسْتَمِعُونَ ‌الْقَوْلَ ‌فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ [الزمر: 18]، وَقَوْلُهُ ﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ‌مَا ‌أُنْزِلَ ‌إِلَيْكُمْ ‌مِنْ ‌رَبِّكُمْ﴾ [الزمر: 55]، وَقَوْلُهُ ﴿‌وَأْمُرْ ‌قَوْمَكَ ‌يَأْخُذُوا ‌بِأَحْسَنِهَا﴾ [الأعراف: 145]، فَإِذَا اسْتَوَتْ مَعَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ تَخَيَّرْنَا، وَقَدْ يَقْرَعُ، وَقَدْ يَخْتَلِفُ فِي التَّسَاوِي وَالتَّفَاوُتِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمَصَالِحِ الْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ)[37].

الدليل الخامس:

مراعاة القواعد الفقهية التي تؤكد هذا التوجه، منها، قاعدة (المشقة تجلب التيسير) وقاعدة (الضرورات تبيح المحظورات) وقاعدة (يغتفر في الابتداء ما لا يغتفر في الدوام)[38]. فالشرع يتسامح في حال الابتداء بالعمل فيما لا يتجاوز عنه حال الاستمرار فيه، ومحل الاستشهاد بهذه القاعدة هنا: أن هذه القاعدة تتعلق بالمأمورات الشرعية التي قد يشوبها النقص أثناء بداية أدائها، فيغتفر هذا النقص في البداية على أن يتم تداركه فيما بعد.

ومن قواعد الشريعة المهمة اعتبار الظروف الطارئة كالجوائح والنوازل والحروب وتسلط المستعمرين على بلاد المسلمين، وضعف الأمة، وظهور منافقيها على مؤمنيها، وعلى هذا حملت كثير من القواعد الشرعية التي قنّنت للضرورات ورفع الحرج ووضع الجوائح.

ومما لا ينبغي أن يغفل عنه أن التدرج في التطبيق لا يتعارض مع بيان الحكم بشكل صريح وواضح إذا اقتضى الأمر.

المصدر مجلة مقاربات الصادرة عن المجلس الإسلامي السوري

الحلقة السابقة هـــنا

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين