الأخذ بالعزائم منهج القدوات (3)

المطلب الثالث: عمل القدوات بالعزيمة "أسبابُه وتطبيقاتُه"

لاحظنا أنَّ لوجوب أخذ القدوات بالعزيمة عدَّةَ أسباب منها:

الأول: أنَّ الشخص المقتدَى به يجتهد في تقديم حقِّ الله تعالى على حقِّ نفسه وتقديم مصالحه الدينية على مصالحه الدنيوية، وهذا مقام أصحاب العزيمة القوية والهمَّة العالية، وقد فصَّل الإمام الشاطبي القولَ في بيان وجه هذا الطريق فقال: " العَزِيمَةُ فِي هَذَا الْوَجْهِ هُوَ امْتِثَالُ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابُ النَّوَاهِي عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ كَانَتِ الْأَوَامِرُ وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا وَالنَّوَاهِي كَرَاهَةً أو تحريمًا، وتركُ كلِّ مَا يَشْغَلُ عَنْ ذَلِكَ مِنَ الْمُبَاحَاتِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ مِنَ الْآمِرِ مَقْصُودٌ أَنْ يُمْتَثَلَ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَالْإِذْنُ فِي نَيْلِ الْحَظِّ الْمَلْحُوظِ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ رُخْصَةٌ؛ فَيَدْخُلُ فِي الرُّخْصَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كُلُّ مَا كَانَ تَخْفِيفًا وَتَوْسِعَةً عَلَى الْمُكَلَّفِ؛ فَالْعَزَائِمُ حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ، وَالرُّخَصُ حَظُّ الْعِبَادِ مِنْ لُطْفِ اللَّهِ، فَتَشْتَرِكُ الْمُبَاحَاتُ مَعَ الرُّخَصِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ مِنْ حَيْثُ كَانَا مَعا تَوْسِعَةً عَلَى الْعَبْدِ وَرَفْعَ حَرَجٍ عَنْهُ وَإِثْبَاتًا لِحَظِّهِ، وَتَصِيرُ الْمُبَاحَاتُ -عِنْدَ هَذَا النَّظَرِ- تَتَعَارَضُ مَعَ الْمَنْدُوبَاتِ عَلَى الْأَوْقَاتِ؛ فَيُؤْثِرُ حَظَّهُ فِي الْأُخْرَى عَلَى حَظِّهِ فِي الدُّنْيَا، أَوْ يُؤْثِرُ حَقَّ رَبِّهِ عَلَى حَظِّ نَفْسِهِ، فَيَكُونُ رَافِعًا لِلْمُبَاحِ مِنْ عَمَلِهِ رَأْسًا أَوْ آخِذًا لَهُ حَقًّا لِرَبِّهِ؛ فَيَصِيرُ حَظُّهُ مُنْدَرِجًا تَابِعًا لِحَقِّ اللَّهِ، وحق الله هو المقدَّم المقصود؛ فَإِنَّ عَلَى الْعَبْدِ بَذْلَ الْمَجْهُودِ، وَالرَّبُّ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، وَهَذَا الْوَجْهُ يَعْتَبِرُهُ الْأَوْلِيَاءُ مِنْ أَصْحَابِ الْأَحْوَالِ، وَيَعْتَبِرُهُ أَيْضا غَيْرُهُمْ مِمَّنْ رَقَى عَنِ الْأَحْوَالِ، وَعَلَيْهِ يُرَبُّونَ التَّلَامِيذَ، أَلَا تَرَى أَنَّ مِنْ مَذَاهِبِهِمُ الْأَخْذَ بِعَزَائِمِ الْعِلْمِ وَاجْتِنَابَ الرُّخَصِ جُمْلَةً، حَتَّى آلَ الْحَالُ بِهِمْ أَنْ عدُّوا أصل الْحَاجِيَّاتِ كُلَّهَا أَوْ جُلَّهَا مِنَ الرُّخَصِ"(1).

الثاني: قطع الطريق على العامَّة وسدُّ الذريعة أمامهم لما قد يحصل في نفوسهم من الاغترار بفعل القدوات وأخذهم بالرخصة، وربما يتوهّمون أنَّ الأصل في هذه الحالات والمسائل الجواز والمشروعية، فيقتدون بهم دون تمييز وبصيرة، فكان لا بدَّ من سدِّ هذه الذريعة من خلال إيجاب العزيمة عليهم؛ لأنَّ تناولهم للرخصة في هذه الحالة يلحق ضررًا عاما بالأمَّة "فالرخصة إنما تباح إذا لم ينشأ عنها مضرة عامة للمسلمين، فإذا تحقق حصولها ولو بغالب الظن فليس له الأخذ بها"(2)، قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: "احذروا زلَّةَ العالِم لأنَّ قدْره عند الناس عظيم، فيتَّبِعُوه على زلَّتِهِ"(3).

ومن خلال الاستقراء للفروع والأحكام المتعلِّقة بمَن هم في موضع القدوة نجد أنَّ الأخذ بالعزيمة قد يصبح واجبًا في حقِّهم في بعض الحالات، بل هذا هو الأصل الذي ينبغي مراعاته في سلوكهم الذي يتناسب مع علو مرتبتهم ورفعة شأنهم، لهذا قد يجبُ على الشخص المقتدَى به الأخذ بالعزيمة ويحرُم عليه الأخذ بالرخصة في بعض الحالات، وذلك لعِظَم المصالح المترتبة على أخذه بالعزيمة وفدْحِ المفاسدِ المترتبة على أخذه بالرخصة، وهذا ملحَظٌ مهم ينبغي أن يكون حاضرًا في ذهنِ الشخص المقتدَى به، وأسوق المسائل التالية للدلالة على هذه الحالة:

المسألة الأولى: الإكراه على التلفُّظ بكلمة الكفر

قال الإمام النووي: "لو أكْرَهَ الكفارُ مُسلمًا على كلمة الكفر، فقالها وقلبه مطمئنّ بالإِيمان، لم يكفر بنصّ القرآن لقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} (النحل:106) وإجماع المسلمين، وهل الأفضل أن يتكلَّم بها ليصونَ نفسَهُ من القتل؟ فيه خمسةُ أوجهٍ لأصحابنا:

الأول: الصحيحُ أن الأفضلَ أن يصبرَ للقتل ولا يتكلّم بالكفر، ودلائلهُ من الأحاديث الصحيحة وفعل الصحابة رضي الله عنهم مشهورةٌ.

والثاني: الأفضلُ أن يتكلَّمَ ليصونَ نفسَه من القتل.

والثالث: إن كان في بقائه مصلحةٌ للمسلمين بأن كان يرجو النكايةَ في العدوِّ أو القيام بأحكام الشرع، فالأفضلُ أن يتكلَّم بها، وإن لم يكن كذلك فالصبرُ على القتل أفضلُ.

والرابعُ: إن كان من العلماء ونحوهم ممّن يُقتدى بهم فالأفضلُ الصبر لئلا يغترَّ به العَوَامُّ.

والخامسُ: أنه يجبُ عليه التكلُّم؛ لقول الله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (البقرة:195) وهذا الوجهُ ضعيفٌ جدا"(4).

فإذا كان المكرَهُ على الكفر قدوةً للناس حيث يقتدِي به العوام ويتبعونه في تصرفاته وأقواله، فالحكم أنه يَحرُمُ عليه الأخذ الرخصة دفعًا للفساد، والمآل الذي يؤول إليه أمر العوام؛ إذ قد يؤدِّي تصرُّفه ذلك إلى فتنتهم في عقيدتهم، لا سيما من ذوي الجهالة ممن لا يُمَيِّزُ حَالَ عُذْرِهِ من غَيْرِهِ، يقول أبو جَعْفَرٍ الأَنْبَارِيّ(5): " لَمَّا حُمِلَ أَحْمَدُ بن حنبل إِلَى المَأْمُوْنِ أُخبرتُ، فَعَبَرْتُ الفُرَاتَ، فَإذَا هُوَ جَالِسٌ فِي الخَانِ، فَسَلَّمتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا جَعْفَرٍ تَعَنَّيْتَ، فَقُلْتُ: يَا هَذَا، أَنْتَ اليَوْمَ رَأسٌ، وَالنَّاسُ يَقتدُوْنَ بِكَ، فَوَاللهِ لَئِنْ أَجبتَ إِلَى خَلقِ القُرْآنِ لَيُجِيْبَنَّ خَلقٌ كثير، وَإِنْ أَنْتَ لَمْ تُجِبْ لَيَمْتَنِعَنَّ خَلْقٌ مِنَ النَّاسِ كَثِيْرٌ، وَمَعَ هَذَا فَإِنَّ الرَّجُلَ إِنْ لَمْ يَقْتُلْكَ فَإِنَّك تَمُوتُ، لاَ بُدَّ مِنَ المَوْتِ، فَاتَّقِ اللهَ وَلاَ تُجِبْ، فَجَعَلَ أَحْمَدُ يَبْكِي، وَيَقُوْلُ: مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا جَعْفَرٍ، أَعِدْ عَلَيَّ، فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَقُوْلُ: مَا شَاءَ اللهُ"(6).

ومثله ما روي عن مُحَمَّدِ بنِ نُوْحٍ(7) الذي امتُحِن بالْقَوْل بِخلق الْقُرْآن فَثَبت على السّنة، فقد حمله الْمَأْمُون وَمَعَهُ أَحْمد بن حَنْبَل إِلَى الرقة على بعيرٍ متزاملين، فَمَرض مُحَمَّد بن نوح فِي الطَّرِيق، فأوصى الإمام أَحْمَد بهذه الوصية: "يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، اللهَ اللهَ، إِنَّكَ لَسْتَ مِثْلِي، أَنْتَ رَجُلٌ يُقْتَدَى بِكَ، قَدْ مَدَّ الخَلْقُ أعنَاقَهُم إِلَيْكَ لِمَا يَكُوْنُ مِنْكَ، فَاتَّقِ اللهَ وَاثبُتْ لأمرِ اللهِ، أَوْ نَحْوَ هَذَا"(8).

فإذا أُكرهَ العالم المقتدَى به في موطن تحتاج الأمة فيه إلى أنْ يُظهِرَ الحق إما لخفاء هذا الحقِّ أو لالتباسه على الأمة، وجَب على هذا العالم أن يبيِّن الحق ولا يكتمه؛ لأنَّ مصلحة الأمة أولى من المصلحة الخاصة للعالم بحفظ النفس، ولأن الضرر المترتِّب على اتباع الأمة له على الباطل أشدُّ من الضرر الذي يلحقه في نفسه إن أخذ بالرخصة وترك العزيمة بإظهار الحق، وهذا من الصبر الواجب ومن الجهاد في سبيل الله عز وجل.

المسألة الثانية: البيعة لخليفتين في زمنٍ واحد:

من الشواهد على مراعاة هذا الأمر النظر إلى مآلات تصرفات القدوة الحسنة وكيفية تفسيرها من العوام، رويَ عن سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ أنَّه دُعِيَ لِلْبَيْعَةِ لِلْوَلِيدِ وَسُلَيْمَانَ بَعْدَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، فَقَالَ: «لَا أُبَايعُ اثْنَيْنِ مَا اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ» فَقِيلَ له: ادْخُلْ مِنَ الْبَابِ وَاخْرُجْ مِنَ الْبَابِ الْآخَرِ، فقَالَ: «وَاللهِ لَا يَقْتَدِي بِي أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ» فَجُلِدَ مِائَةً وَأُلْبِسَ الْمُسُوحَ بسبب رفضه ذلك(9).

فمن المقرّر في أحكام الشريعة الإسلامية أنه لا يجوز عقد البيعة لخليفتين في زمن واحد؛ فرفض سعيد بن المسيّب دخول باب القصر والخروج من الباب الآخر لئلا يَتوهّم العوام أنه قد بايع الخليفتين في وقت واحد، فيقتدوا به في فعله؛ إذ إنه عندهم موضع قدوة، فرأى بموجب اجتهاده الفقهي أنه من الواجب عليه قطع هذه الذريعة وتحمُّل الضرر الخاص لدفع الضرر العام. 

المسألة الثالثة: مؤاكلة صاحب البدعة

ورويَ عن الْفُضَيْل بن عياض أنَّه قال: «لَأَنْ آكُلَ عِنْدَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ آكُلُ عِنْدَ صَاحِبِ بِدْعَةٍ، فَإِنِّي إِذَا أَكَلْتُ عِنْدَهُمَا لَا يُقْتَدَى بِي، وَإِذَا أَكَلْتُ عِنْدَ صَاحِبِ بِدْعَةٍ اقْتَدَى بِي النَّاسُ"(10)، فالعوام يعلمون أنَّ أكله عند اليهودي والنصراني لا يعني ذلك إقراره لهم على ديانتهم ورضاه بها، ولكن إذا أكل عند صاحب البدعة فقد يظنّ الناس أنّه يقرُّه على بدعته ويرضى بها بدليل مؤاكلته، ومن ثمَّ يقتدون به في فعله، ويستسيغون البدعة من هذا الرجل ويؤمنون بها بدل أن ينكروها؛ فمراعاةً لهذا الأمر وسدًّا لهذه الذريعة أعلن الفضيل بن عياض امتناعه عن مؤاكلة صاحب البدعة، وهكذا نجد أنَّ الأخذ بالعزيمة قد يصبح واجبًا في بعض الأحوال للأسباب آنفة الذكر، ولدى الاستقراء نجد أنَّ النظام الإسلامي رسم المنهج ووضع الأصل في أخذ الشخص المقتدَى به بالعزيمة والرخصة، وهذا المنهج يلحظ المأخذ التالي:

1- مَن هم في موضع القدوة فتكليفُهم الأصلي قائم على الأخذ بالعزيمة.

2-ومَن هم في موضع الاقتداء من العوامِّ فتكليفُهم الأصلي قائم على الأخذ بالرخصة.

وفي ذلك رعاية لحالِ كلا الفريقين؛ فلا يصح أن يُعكس هذا النظام بأنْ يكون الأمر واجبًا على العوام مندوبًا للمقتدَى بهم، فيصيرَ العامي آخذًا بالعزيمة والمقتدَى به آخذًا بالرخصة بعكس النظام الذي رعاه التشريع الإسلامي في تكاليفه وأحكامه. والله تعالى أسأل أن يلهمنا الرشد والسداد والصواب في أقوالنا وأفعالنا وأحوالنا، وأن يكرمنا بالإخلاص والقبول، والحمد لله رب العالمين.

المصدر: مجلة مقاربات التي تصدر عن المجلس الإسلامي السوري، العدد الثامن. 

الحلقة الثانية: هنا

(1) الشاطبي، "الموافقات في أصول الفقه"، 1: 472.

(2) عبد القادر بن ملَّا حويش، "بيان المعاني". (ط1، دمشق: مطبعة الترقي، 1382ه، 1965)، 5: 332.

(3) الغزالي، "إحياء علوم الدين"، 1: 64.

(4) النووي، "الأذكار". تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط، (بيروت: دار الفكر، 1414هـ)، ص 568.

(5) محمد بن عبد الله، أبو جعفر الحذاء الأنباري، سمع من الفضيل بن عياض وسفيان بْن عُيَيْنَة وشعيب بن حرب، وروى عنه أحمد بن حنبل. انظر: "تاريخ بغداد". تحقيق: د بشار معروف، (ط1، بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1422ه)، 3: 414].

(6)الذهبي، "سير أعلام النبلاء". تحقيق شعيب الأرنؤوط، (ط3،بيروت: مؤسسة الرسالة،1405هـ)،11: 239.

(7) مُحَمَّد بن نوح بن مَيْمُون بن عبد الحميد بن أبي الرِّجَال الْعجلِيّ، صَاحب الإِمَام أَحْمد، يُعرف وَالِده بالمضروب، كَانَ عَالما زاهدًا ورعًا، توفي سنة (218هــ). انظر: ["تاريخ بغداد"، 4: 517].

(8) الذهبي، "سير أعلام النبلاء"، 11: 242.

(9) الأصبهاني، "حلية الأولياء وطبقات الأصفياء"، (السعادة، بجوار محافظة مصر،1394هـ)، 2: 170.

(10) المصدر السابق، 8: 103.

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين