الأخذ بالعزائم منهج القدوات (2)

المطلب الثاني: عمل القدوات بالعزيمة "حكمه ومشروعيته"

موقع القدوات في المجتمع يحتلُّ مرتبة عظمى ومكانة كبرى، فالقدوة ملحوظٌ ومراقبٌ من قِبَل الناس الذي ينظرون إليه دائمًا نظرة التميُّز والتفوُّق، وأنَّ له قصب السبق في مجال التحلِّي بالفضائل والتخلِّي عن الرذائل؛ لأجل هذا كلِّهِ ينبغي أن يكون سلوكه وفعله متناسقًا ومتناسبًا مع هذه المرتبة دينيًّا ودنيويًّا، فيكون دائمًا في الصفِّ الأول، ولا يُقبَل منه أن يكون في مؤخرة القوم، ومن هنا قيل: «إذا أردتَّ أن تكون إمامي فكنْ أمامي» و «مَن يقدِّم نفسه للناس على أنَّه قائد لا يُقبَل منه أنْ يتصرَّف بصفته فردًا».

وبناءً على هذه المنزلة التي يتمتَّع بها كان الأجدر والأحرى به أن يكون آخذًا بالعزيمة في خاصّة نفسه لأنَّه من أصحاب العزم والخصوصية؛ لهذا جاء خطاب الله تعالى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله تعالى: {فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الْأَحْقَافِ: 35]. أي أُولو الجِدِّ والحزم والصَّبْر والثَّبَات، فالعمل بالعزيمة كما هو مقرَّر عند علماء الأصول تجري عليه الأحكام التكليفية الخمسة، فقد يكون الأخذ بالعزيمة والعمل بها واجبًا أو مندوبًا أو مباحًا أو مكروهًا أو حرامًا(1)، يقول الإمام الشاطبي: "فَالْأَحْرَى بِمَنْ يُرِيدُ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ وَخَلَاصَ نَفْسِهِ الرُّجُوعُ إِلَى أَصْلِ الْعَزِيمَةِ، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْأَحْرَوِيَّةَ تَارَةً تَكُونُ مِنْ بَابِ النَّدْبِ وَتَارَةً تَكُونُ من باب الوجوب، والله أعلم"(2).

وأفرد الشاطبي في الموافقات فصلًا تحت عنوان: (قَدْ يَسُوغُ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يُحَمِّلَ نَفْسَهُ مِنَ التَّكْلِيفِ مَا هُوَ فَوْقَ الْوَسَطِ)(3)، وهذا ما يستدعيه حال القدوة الحسنة، فَإِنَّهُ يأخذُ من الأعمال والتكاليف الشرعية ويُفْتِي أيضا بِمَا تَقْتَضِيهِ منزلته ومَرْتَبَتُهُ، وأدلَّة مشروعية هذا المسلك وضرورة العمل به في حياة الشخص المقتدَى به كثيرة منها:

الأول: قال الله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ(4) يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرا * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقا كَرِيما * يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفا} [الأحزاب:30-31-32].

وجه الاستدلال: دلَّت هذه الآيات الكريمات بشكل واضح صريح على مشروعية مراعاة الفروق الفردية بين المكلَّفين أثناء الاجتهاد وتنزيل الأحكام، وأنَّ المقتدَى به ليس كغيره من عامة الناس؛ لذلك كان حكم نساء النبي صلَّى الله عليه وسلَّم مختلفًا عن حكم بقية النساء في الثواب والعقاب وفي بعض الأحكام، وذلك لما بين الفريقين من فروق، قال الفخر الرازي: "فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُؤَثِّرَ عِظَمُ حَالِهِمْ وَعُلُوُّ مَنْزِلَتِهِمْ فِي حُصُولِ شَرْطٍ فِي تَكْلِيفِهِمْ دُونَ تَكْلِيفِ غَيْرِهِمْ؟ قُلْنَا أَمَا سَمِعْتَ: «حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ»، وَلَقَدْ كَانَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّشْدِيدَاتِ فِي التَّكْلِيفِ مَا لَمْ يَكُنْ عَلَى غَيْرِهِ"(5)، قال الشوكاني: "وَقَدْ ثَبَتَ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ تَضَاعُفَ الشَّرَفِ وَارْتِفَاعَ الدَّرَجَاتِ يُوجِبُ لِصَاحِبِهِ إِذَا عَصَى تَضَاعُفَ الْعُقُوبَاتِ"(6).

فعلى قَدْرِ عُلُوِّ المقام يكون المَلَام، وبقدر النعمة تكون النقمة، إذ كُلَّمَا كَانَتِ النِّعَمُ أَكْثَرَ وَأَعْظَمَ كَانَ كُفْرَانُهَا أَعْظَمَ وَأَقْبَح، وَلَقَدْ أَجَادَ مَنْ قَالَ:

وَكَبَائِرُ الرَّجُلِ الصَّغِيرِ صَغَائِرُ --- وَصَغَائِرُ الرَّجُلِ الْكَبِيرِ كَبَائِرُ(7)

قال القرطبي: "يُضَاعَفْ لَهنَّ الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ لِشَرَفِ مَنْزِلَتِهِنَّ وَفَضْلِ دَرَجَتِهِنَّ وَتَقَدُّمِهِنَّ عَلَى سَائِرِ النِّسَاءِ أَجْمَعَ، وَكَذَلِكَ بَيَّنَتِ الشَّرِيعَةُ -فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ- أَنَّهُ كُلَّمَا تَضَاعَفَتِ الْحُرُمَاتُ فَهُتِكَتْ تَضَاعَفَتِ الْعُقُوبَاتُ، وَلِذَلِكَ ضُوعِفَ حَدُّ الْحُرِّ عَلَى الْعَبْدِ، والثيب على البكر، وقيل: لما كان أزواج النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي مَهْبِطِ الْوَحْيِ وَفِي مَنْزِلِ أَوَامِرِ اللَّهِ وَنَوَاهِيهِ، قَوِيَ الْأَمْرُ عَلَيْهِنَّ وَلَزِمَهُنَّ بِسَبَبِ مَكَانَتِهِنَّ أَكْثَرَ مِمَّا يَلْزَمُ غَيْرَهُنَّ، فَضُوعِفَ لَهُنَّ الْأَجْرُ وَالْعَذَابُ"(8).

هذا ولقد ذكر الشيخ الشعراوي وجهًا آخر للفرق بين نساء النبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وغيرهنَّ من النساء، فقال: "ذلك لأنهنَّ بيتُ النبوة وأمهات المؤمنين، وهنَّ أُسْوة لغيرهنَّ من نساء المسلمين، وكلَّما ارتفع مقام الإنسان في مركز الدعوة إلى الله وجب عليه أنْ يتبرأ عن الشبهة لأنه سيكون أُسْوةَ فعلٍ، فإنْ ضَلَّ فلن يضلّ في ذاته فقط بل سيضلُّ معه غيره"(9).

الثاني: عَنْ نَافِعِ بْنِ سَرْجِسَ قَالَ: عُدْنَا أَبَا وَاقِدٍ الْبَكْرِيَّ فِي وَجَعِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَسَمِعتُهُ يَقُولُ: "كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخَفَّ النَّاسِ صَلَاةً عَلَى النَّاسِ، وَأَطْوَلَ النَّاسِ صَلَاةً لِنَفْسِهِ"(10).

وجه الاستدلال بالحديث: دلالة هذا الحديث واضحة، إذ كان النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- في صلاته لنفسه يأخذ بالعزيمة وهي تطويل الصلاة، وعندما يكون إمامًا بالناس يأخذ بالرخصة وهي التخفيف مع التمام، فقد كان يأخذ بالعزيمة ليتناسب ذلك مع المقام الذي أكرمه الله تعالى به والنِّعَم التي أسبغها عليه، فكان في مرتبة تفوق مرتبة غيره من البشر إذ بوَّأه منصب القدوة الحسنة للبشرية جمعاء، وفي هذا المعنى تروي لنا السيدة عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، فَقَالَتْ له: لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: «أَفَلاَ أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا، فَلَمَّا كَثُرَ لَحْمُهُ صَلَّى جَالِسًا، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ فَقَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ»(11).

الثالث: عن جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّ أَبَاهُ قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ ذِرَاعًا يَحْتَزُّ مِنْهَا، فَدُعِيَ إِلَى الصَّلاَةِ، فَقَامَ فَطَرَحَ السِّكِّينَ، فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ»(12).

وجه الاستدلال بالحديث: أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِالْعَزِيمَةِ، فَقَدَّمَ الصَّلَاةَ عَلَى الطَّعَامِ، وَأَمَرَ غَيْرَهُ بِالرُّخْصَةِ وهي تقديم الطعام على الصلاة؛ لِأَنَّ غيرَه لَا يَقْوَى عَلَى مُدَافَعَةِ الشَّهْوَةِ قُوَّتَهُ صلَّى الله عليه وسلَّم، وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إِرْبَهُ؟(13).

الرابع: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلا شَتَمَ أَبَا بَكْرٍ -رضي الله عنه- وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعْجَبُ وَيَتَبَسَّمُ، فَلَمَّا أَكْثَرَ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَامَ، فَلَحِقَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ كَانَ يَشْتُمُنِي وَأَنْتَ جَالِسٌ، فَلَمَّا رَدَدْتُ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ غَضِبْتَ وَقُمْتَ، قَالَ: «إِنَّهُ كَانَ مَعَكَ مَلَكٌ يَرُدُّ عَنْكَ، فَلَمَّا رَدَدْتَ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ وَقَعَ الشَّيْطَانُ، فَلَمْ أَكُنْ لِأَقْعُدَ مَعَ الشَّيْطَانِ»(14).

وجه الاستدلال بالحديث: أنَّ النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- غضبَ من ردِّ أبي بكر لأنَّه من الخواصّ المقتدَى بهم، وكان الأولى به الأخذ بالعزيمة من الصبر وعدم الانتصار للنفس، وهذا هو الْكَمَالُ الْمُنَاسِبُ لِمَرْتَبَتِهِ مِنَ الصِّدِّيقِيَّةِ، مع أنَّ الأخذ بالرخصة جائز في هذا المقام ولكنه من رتبة العوام، فدلَّ ذلك على أنَّ العمل بالعزيمة هو الأليقُ في حقِّ الخواص الذين يُقتدَى بهم(15)، والأصل في هذا التقسيم قول الله تعالى: { وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (الشورى: 41-42-43).

الخامس: ما رويَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- رَأَى عَلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ ثَوْبًا مَصْبُوغًا فَقَالَ: "مَا بَالُ هَذَا الثَّوْبِ الْمَصْبُوغِ عَلَيْكَ؟ فَقَالَ طَلْحَةُ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ إِنَّمَا هُوَ مَدَرٌ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّكُمْ -أَيُّهَا الرَّهْطُ- أَئِمَّةٌ يَقْتَدِي بِكُمُ النَّاسُ، وَإِنَّ جَاهِلا لَوْ رَأَى هَذَا الثَّوْبَ لَقَالَ: طَلْحَةُ كَانَ يَلْبَسُ الثِّيَابَ الْمَصْبُوغَةَ في الإحرام، فَلَا يَلْبَسْ أَحَدٌ مِنْكُمْ -أَيُّهَا الرَّهْطُ- مِنْ هَذِهِ الثِّيَابِ الْمَصْبُوغَةِ شَيْئًا وَهُوَ مُحْرِمٌ"(16).

فِي هَذَا الحديث مِنَ الفِقْهِ: قَطْعُ الذّرَائِعُ التِّي تُلَبِّسُ على النَّاسِ، وذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ يَقْتَدُونَ بِعُلَمَائِهِمْ في كُلِّ مَا رَأَوْهُمْ يَصْنَعُونه، فَمَنْ كَانَ إمَامًا مُقْتَدًى بهِ لَزِمَهُ مُرَاعَاةُ أَحْوَالِهِ وتَرْكُ مَا يَلْتَبسُ عَلَى النَّاسِ(17)، قَالَ ابن عبد البر: "وَأَمَّا إِنْكَارُ عُمَرَ عَلَى طَلْحَةَ لِبَاسَهُ الْمُصَبَّغَ بِالْمَدَرِ، فَإِنَّمَا كَرِهَهُ مِنْ طَرِيقِ رَفْعِ الشُّبَهَاتِ؛ لِأَنَّهُ صَبْغٌ لَا يَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِهِ، وَإِنَّمَا كَرِهَ أَنْ تَدْخُلَ الدَّاخِلَةُ عَلَى مَنْ نَظَرَ إِلَيْهِ فَظَنَّهُ صَبْغًا فِيهِ طِيبٌ، وَلِلْأَئِمَّةِ الِاجْتِهَادُ فِي قَطْعِ الذَّرَائِعِ"(18)، فالْمَنْهِيَّ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ مَا فِيهِ طِيبٌ أَوْ مَا يُشْبِهُهُ لَا الْمَصْبُوغُ مُطْلَقا.

يقول الباجي: "الْإِمَامَ الْمُقْتَدَى بِهِ يَلْزَمُهُ أَنْ يَكُفَّ عَنْ بَعْضِ الْمُبَاحِ الْمُشَابِهِ لِلْمَحْظُورِ وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا إلَّا أَهْلُ الْعِلْمِ لِئَلَّا يَقْتَدِيَ بِهِ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ، وَأَنْ يُلْزِمَ غَيْرَهُ الْكَفَّ عَنْهُ"(19)، ويقول الشيخ ملَّا علي القاري: "إنَّ فساد العالَم لفساد العالِم، فإنَّ العلماء مع رتبة الكمال إذا طلبوا الحلال وقع الجهَّال في الشبهة على كلِّ حال، وإذا وقع المشايخ العِظام في شُبَهِ الطعام وقع العوامُّ كالأنعام في أكل الحرام، وإذا ارتكب المشايخ والعلماء ما حرَّمه الله من بعض الأشياء كفرَ الأغبياء من الأغنياء والفقراء حيث يقولون: لولا لأنه من الحلال لما ارتكبه العلماء وأرباب الأحوال"(20).

السادس: رويَ عن مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ بن أبي وقَّاص أنه قَالَ: «كَانَ أَبِي إِذَا صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ تَجَوَّزَ وَأَتَمَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، وَإِذَا صَلَّى فِي الْبَيْتِ أَطَالَ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ وَالصَّلَاةَ»، قُلْتُ: يَا أَبَتَاهُ إِذَا صَلَّيْتَ فِي الْمَسْجِدِ جَوَّزْتَ، وَإِذَا خَلَوْتَ فِي الْبَيْتِ أَطَلْتَ؟ فقَالَ: «يَا بُنَيَّ إِنَّنَا أَئِمَّةٌ يُقْتَدَى بِنَا»(21).

وجه الاستدلال بهذا الأثر: أَنَّ سعد بن أبي وقَّاص -رضي الله عنه- أخذ نفسه بالعزيمة وهي تطويل القراءة والقيام في الصلاة، بينما سلك مع الناس طريق الرخصة والتخفيف دون خللٍ في السنن والأركان، وعلَّل سلوكه هذا المنهج بأنه من الأئمّة الذين يقتدِي بهم الناس.

السابع: عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما «يَعْمَلُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِالشَّيْءِ لَا يَعْمَلُ بِهِ فِي النَّاسِ»(22).

الثامن: كَانَ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَقُولُ: «لَا يَكُونُ الرَّجُلُ فَقِيها حَتَّى يَتَّقِيَ أَشْيَاءَ لَا يَرَاهَا عَلَى النَّاسِ وَلَا يُفْتِيهِمْ بِهَا»(23).

التاسع: قال رويم بن أَحْمَد(24): "مِنْ حِكَمِ الْحَكِيمِ أَنْ يُوَسِّعَ عَلَى إِخْوَانِهِ فِي الْأَحْكَامِ وَيُضَيِّقَ عَلَى نَفْسِهِ فِيهَا؛ فَإِنَّ التَّوْسِعَةَ عَلَيْهِمْ اتِّبَاعُ الْعِلْمِ وَالتَّضْيِيقَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ حُكْمِ الْوَرَعِ"(25)، وعلَّقَ محمَّد الخَضِر الشنقيطي(26) على هذا قائلًا: "قلت: أدركتُ والدي رحمه الله تعالى جاريًا على هذا السَّنن في عباداته، آخذًا على نفسه بالتضييق، لا يترخَّص في شيءٍ منها بل يعمل دائما بالأشقِّ... ويفتي الناس دائما بما فيه لهم رخصة مخافة أن يتكاسلوا عن العمل بالأشق، فيتركوا العمل رأسًا"(27).

العاشر: ومن هذا الباب ما قد يجده الباحث والقارئ في بعض كتب المالكية من استعمالهم لمصطلحي: (مذهب الإمام مالك) و(طريقة الإمام مالك)، وقد فرَّق علماء المالكية بين هذين المصطلحَين من وجوه كثيرة، ذكروا منها:

*مذهب الإمام مالك: المراد به مَا يُفتِي بِهِ، وعادةً ما يكون الأيسر والأسهل على الناس من الرخص الشرعية أو القول الأخفِّ في المسائل التي تتعدَّدُ فيها الأقوال. 

*طريقة الإمام مالك: المراد بها مَا يأخذ بِهِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ يَلْتَزِمُ بَعْضَ أَشْيَاءَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَيُفْتِي الْغَيْرَ بِخِلَافِهَا؛ من العزيمة والورع(28)، وعمِلَ الإمام مالك بهذا المسلَك في خاصّة نفسه في كثيرٍ من الفروع والأحكام، منها على سبيل المثال:

*الوضوء والاستقاء في جلود الميتة إذا دُبِغَت، فقد كرهه مالك في خاصّة نفسه، ولم يحرّمه على الناس(29).

*ومنها ما رويَ عنه: أنه كَانَ لَا يَرْكَبُ بالمدينة دابةً، وكان يقول: "أستحيي مِنَ اللَّهِ أَنْ أَطَأَ تُرْبَةً فِيهَا رَسُولُ الله -صلّى الله عليه وسلم- بِحَافِرِ دَابَّةٍ"(30).

*ومنها أيضا ما روي عنه: أنَّه كَانَ لَا يُحَدّثُ بِحَدِيث رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا وَهُوَ عَلَى وُضُوءٍ إجْلَالًا لَهُ(31)، ففي هذه المسائل وغيرها أخذ الإمام مالك -رحمه الله تعالى- في خاصة نفسه من العزيمة والورع والاحتياط ما لا يفتي به عامة الناس، فالْمَشَاقُّ كما ذكر الإمام الشاطبي تختلف بالقوة والضعف وبحسب الْأَحْوَالِ وَبِحَسَبِ قُوَّةِ الْعَزَائِمِ وَضَعْفِهَا، وَبِحَسَبَ الْأَزْمَانِ وَبِحَسَبِ الْأَعْمَالِ(32).

وهكذا نجد أنَّ الشخص المقتدَى به يأخذ نفسه بالأشد والأثقل على النفس، ويفتي غيره بالأسهل والأيسر، وهذا منهج أصحاب الهمم العالية والعزائم القوية، وعلى هذا المنهج كان الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى، يَعْمَلُ فِي نَفْسِهِ بِمَا لَا يُلْزِمُهُ النَّاس، وَلَا يُفْتِيهِمْ بِهِ، وَيَقُولُ: «لَا يَكُونُ الْعَالِمُ عَالِما حَتَّى يَعْمَلَ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِمَا لَا يُلْزِمُهُ النَّاسَ وَلَا يُفْتِيهِمْ بِهِ، بِمَا لَوْ تَرَكَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِيهِ إِثْمٌ»(33).

واليوم بسبب اتباع الهوى وضعف الوازع الديني تمادى وتجرّأ بعض من ينتسب للعلم حتى وصلَ بهم الحدُّ أنْ قَلبُوا هذه القاعدة وعَكَسُوا هذا الأصل، فتراهم يتشدِّدون في الفتوى مع الناس الضعفاء، ويتساهلون مع أنفسهم أو مع الأغنياء وأصحاب المناصب والجاه، يقول ابن القيّم: "وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ نَفْسَهُ بِالرُّخْصَةِ وَغَيْرَهُ بِالْمَنْعِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ -إذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ قَوْلٌ بِالْجَوَازِ وَقَوْلٌ بِالْمَنْعِ- أَنْ يَخْتَارَ لِنَفْسِهِ قَوْلَ الْجَوَازِ وَلِغَيْرِهِ قَوْلَ الْمَنْعِ"(34).

*يحكي الباجيُّ عمَّن يثقُ به أنَّهُ اكترى جزءًا من أرض على الإشاعة، ثمَّ إنَّ رجلًا آخر اكترى باقي الأرض، فأراد الأول أن يأخذ بالشفعة وغاب عن البلد، فأفتى المكتري الثاني بإحدى الروايتين عن مالك أنه لا شفعة في الإجارات، قال المكتري الأول: فوردت من سفري فسألت أولئك الفقهاء -وهم أهل حفظ في المسائل وصلاح في الدين عن مسألته- فقالوا: "ما علمنا أنها لك، إذا كانت لك المسألة أخذنا لك برواية أشهب عن مالك بالشفعة فيها، فأفتاني جميعهم بالشفعة، فقضَى لي بها"(35).

المصدر: مجلة مقاربات التي تصدر عن المجلس الإسلامي السوري، العدد الثامن. 

تنظر الحلقة الأولى: هـــــنا

(1) سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني، "شرح التلويح على التوضيح". (مكتبة صبيح بمصر)، 2: 255.

(2) الشاطبي، "الموافقات في أصول الفقه"، 1: 516.

(3) الشاطبي، "الموافقات في أصول الفقه"، 5: 279.

(4) لا بدَّ من التنبيه إلى أنَّ المقصود بالفاحشة المبيِّنة في هذه الآية النشوز وعُقُوقُ الزَّوْجِ وَفَسَادُ عِشْرَتِهِ كما قال ابن عبَّاس، وَلَا يُتوهّم أنها الزنا لِعِصْمَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِالتَّبْيِينِ والزنا مِمَّا يُتَسَتَّرُ بِهِ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَهُوَ شَرْطٌ، وَالشَّرْطُ لَا يَقْتَضِي الْوُقُوعَ.

(5) التفسير الكبير "مفاتيح الغيب" لفخر الدين الرازي 3/460.

(6) فَتْحُ الْقَدِيرِ الْجَامِعُ بَيْنَ فَنَّيِ الرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ مِنْ عِلْمِ التَّفْسِيرِ لمحمد بن علي الشوكاني 4/318.

(7) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن لمحمد الأمين الشنقيطي 3/179.

(8) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 14/174.

(9) تفسير الشعراوي "الخواطر" للشيخ محمد متولِّي الشعراوي 14/8692.

(10) رواه الإمام أحمد، رقم الحديث (21899)، والطبراني في الكبير، الحديث (3310)، والبيهقي في السنن الكبرى، (5279).

(11) رواه البخاري، الحديث (4837)، ورواه مسلم، الحديث (2820).

(12) رواه البخاري، الحديث (675).

(13) ابن حجر العسقلاني، "فتح الباري ". عناية: محمد فؤاد عبد الباقي، (بيروت: دار المعرفة، 1379ه)، 2: 162.

(14) رواه الإمام أحمد، رقم الحديث (9624)، ورواه أبو داود، كتاب الأدب، بابٌ في الانتصار، رقم الحديث (4896).

(15) القاري، "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح". (ط1، بيروت: دار الفكر، 1422هـ)، 8: 3185.

(16) رواه الإمام مالك في "الموطَّأ" برواية محمد بن الحسن الشيباني، رقم الأثر (425).

(17) القنازعي، "تفسير الموطَّأ"، 2: 603.

(18) ابن عبد البر "الاستذكار". تحقيق: سالم محمد عطا، محمد علي معوض، (ط1، بيروت: دار الكتب العلمية، 1421ه)، 4: 20.

(19) أبو الوليد الباجي، "المنتقى شرح الموطأ"، (ط1، مصر: مطبعة السعادة، 1332 هـ)، 2: 197.

(20) "مجموع رسائل العلَّامة الملَّا علي القاري". تحقيق: مجموعة باحثين، (ط1، اسطنبول: دار اللباب، 1437ه)، 4: 187.

(21) رواه الطبراني في المعجم الكبير، رقم الأثر (317)، ورجال هذا الحديث رجال الصحيح.

(22) رواه ابن أبي شيبة في مصنَّفه، رقم الأثر (34644).

(23) الخطيب البغدادي، "الفقيه و المتفقِّه". تحقيق: عادل بن يوسف الغرازي. (ط2، السعودية: دار ابن الجوزي،1421ه)، 2: 339.

(24) رُوَيْم بن أَحْمد بن يزِيد، أَبُو مُحَمَّد، من أجلِّ مشايخ الصوفية في بغداد، كَانَ فَقِيهًا مقرئًا، توفي سنة (303ه). انظر: "طبقات الصوفية". تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا. (ط1، بيروت: دار الكتب العلمية، 1419هـ)، ص (147).

(25) بدر الدين العيني، "عمدة القاري شرح صحيح البخاري". (بيروت: دار إحياء التراث العربي)، (1: 300).

(26) الشّنْقِيطي: محمَّد الخَضِر بن سيد عبد الله بن أحمد الملقَّب بــــ (ما يأبى) لكرمه وسخائه حيث كان لا يرد سائلا ولا يأبى، و(الجكني) نسبة إلى قبيلة من شنقيط، هاجر إلى المدينة المنورة، فتولى الإفتاء بها، توفي سنة (1353ه) انظر: "الأعلام" للزركلي. (ط15، بيروت: دار العلم للملايين، 2002 م)، 6: 113).

(27) الشنقيطي، "كوثَر المَعَاني الدَّرَارِي في كَشْفِ خَبَايا صَحِيحْ البُخَاري". (ط1، بيروت: مؤسسة الرسالة، 1415 هـ)، (2: 382).

(28) النفراوي، "الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني".(دار الفكر، 1415هـ)، 1: 24.

(29) الصقلي، "الجامع لمسائل المدونة". تحقيق مجموعة باحثين، توزيع دار الفكر، 1434 هـ،، 15: 44.

(30) القاضي عياض، "الشفا بتعريف حقوق المصطفى". (دار الفكر، 1409هـ) 2: 128.

(31) "الشفا بتعريف حقوق المصطفى"، 2: 44.

(32) الشاطبي، "الموافقات في أصول الفقه"، 1: 484.

(33) الخطيب البغدادي، " الفقيه والمتفقِّه"، 2: 339.

(34) ابن القيّم الجوزية، "إعلام الموقعين عن رب العالمين". تحقيق محمد إبراهيم، (ط1، دار الكتب العلمية،1411هـ) 4: 162.

(35) الشاطبي، "الموافقات في أصول الفقه"، 5: 90.

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين