الأحزابُ في إِدْلِب (2)

مِنَ الخندق إلى إدلب

1. من شورى الخندق إلى إدلب

ماذا يتوقَّع أن يحدُثَ ويتغيَّر لو أنَّ فئةً أو أفرادًا أو طائفةً واعيةً بادرت لتقوِّي بسلاحِ العقل والشورى والخبرة والدراسات السابقة شوكةَ ثلةٍ ثابتةٍ مرابطةٍ ربَطَ الله على قلوبها، فباعت أنفسها وما تملك لله؟ أوَليس كثيرٌ مما حلَّ بالمستضعفين في سورية وليبيا وغيرهما نتاجًا محتومًا ملازمًا لطبائع الاستبداد بالقرارِ وللتفرق والتشرذم والتدابر والتباغض وسوء الظَّنِّ واستغلالِ مرتكزَاتٍ عدَّةٍ بغيةَ تضليلِ العامَّة وتخديرِهم وتعطيلِ العقل الجمعيِّ، وزِد عليه الإغلاقَ المحكم لنوافذ الاتصال بمراكز الدراسات وبالمفكرين النافذين العارفين خبايا القرار الدولي وخفايا الحراك المخابراتي وخطط المحتل الصهيوني وعملائه التقليديين أو المتوارين بعمائم المقاومة؟

لقد كانت المداولات في شورى الخندق وأضرابها عصمةً للأمة أَنْ تغور أو تبيدَ؛ ففيها ترشيدٌ للأمة في كلِّ عصرٍ ومنهاج لمعالم الطريق وحقنٌ للدماء وجمعٌ للكلمة ودرءٌ للفتنة والفرقة وأسبابهما، ولولا الشورى لما قامت للمسلمين دولة من بعده صلى الله عليه وسلم لا سيما أنهم بالشورى وحدها حسموا قضية الحكم أو الإمامة، قال الشهرستاني: (أعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة؛ إذ ما سُلَّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سُلَّ على الإمامة في كلِّ زمان)(1).

وما الخندق نفسه سوى نتاج شورى نبوية، تمخضت عن رأي فردٍ اتفق الصحابة عليه واختصموا في شرف نسبته إجلالًا لرأيه، فرغم أنهم جميعا كانوا على قلب رجل واحدٍ في الشخوص إلى العدو وقتاله للحيلولة دون بلوغه المدينة إلا أنهم تركوا رأيهم لرأيه رضي الله عنهم، قال سلمان الفارسي: (يا رسول الله، إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا وتخوفنا الخيل خندقنا علينا، فهل لك يا رسول الله أن نخندق؟ فأعجب رأي سلمان المسلمين)(2) ، فهذا فردٌ أنقذَ أمةً بحميد رأيه وسديده حتى إنَّ المهاجرين اختصموا فيه يوم الخندق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلمان منا أهل البيت(3)؛ فدلَّ هذا التنافس النفيس على إعلاء الصحابةِ لشأن التفكير والخبرة والقرار الصائب وتعظيمهم الرأي الرشيد أيًّا كان مصدرُه تعظيمًا قضى قضاءً مبرمًا بموت داء التفرقة والفرقة، وبالقضاء على عصبيةِ الولاءِ لغيرِ الأُخوَّةِ في الدين من قومٍ أو عرقٍ أو منطقةٍ أو لغةٍ أو لهجةٍ أو فرقةٍ أو طريقة أو مدرسة أو منهجٍ أو ما لا يحصيه العادون من ضروب التفرقة بين فصائل الثورة السورية والليبية اليوم.

1. وحدةُ الصفِّ واتحادُ الهدف

كفى بالخندقِ ذاته بيانًا صادحًا بأنَّ الصحابة لم يكونوا ليَغفُلوا أو يُغفِلوا هدفَ عدوِّهم الأنكى والأعتى، وليس الاحتلالُ الروسي الفارسي لسورية اليوم ومحرقتُه لإدلب وسعيُه لإبادة من فيها وما فيها ببعيدٍ عن ذاكم الهدف وتلكم الغاية من غزو المشركين للمسلمين في عقر دارهم يوم الخندق وإن اختلفت وسائل القتل والعدوان على الأرض والعرض والمال؛ فقريشٌ وحلفاؤها رغم اختلاف عقائدهم كانوا يستهدفون بوَحدة صفهم واتحاد وِجْهتهم تحقيقَ مصالحهم وسحقَ كلِّ ما يهدِّد أطماعهم والقضاءَ على الإسلام في مهدِه وإبادةَ أهله وأنصارِه وفتحَ طرقِ المدينةِ لتجارتهم من مكة وغيرها إلى الشام، ولم يَعْدَم هذا العدوُ الوسائلَ والأدواتِ لبلوغ مرادِه؛ فحرَّضَ اليهودَ على الغدر، وحالف أحزابًا جمعتهم به المصلحة والكفر كغطفان وأسد ومرة، وآخَرِين هدَّد الإسلامُ وجودَهم العقديَّ والقياديَّ والجغرافيَّ كيهودِ الجَلاء، وبثَّ العدوُّ أراجيفَه على ألسنةِ المنافقين في المدينةِ ليشقَّ الصفَّ ويزلزل الصنديدَ بَلْهَ الرعديدَ زلزالًا ليس كمثلِه امتحانٌ {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 11]!

هذا علمًا أن اختلاف المشارب والمآرب في إدلب ليس بمانعٍ مِن اجتماع مَن فيها على بساط واحدٍ؛ فالاختلاف والتعدد والتنوع والتباين من وجهٍ لا يردُّ الاتفاقَ والوحدةَ والتوحُّدَ والائتلافَ من عدةِ وجوهٍ لا تخفَى بأدنى تأمُّلٍ، فهو من وجهٍ اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، يعزِّز العملية ولا يفسد القضيَّة، ويستثنى من هذا كلُّ ما يزلزل القطعياتِ كالقضايا التي تُلْبِس الظنيات والمتغيرات لبوس الثوابت؛ فمثلُ هذا الاختلافِ يدُكُّ قواعد الاتفاق دكًّا دكًّا، ليشق الصفوف صفًّا صفًّا، ثم يُحِيل وحدتها إلى شقاقٍ وتدابر وتباغضٍ وفرقةٍ واقتتالٍ يقطع بأن مقاصد المختلفين بمنأى عن تحرِّي مقصد الشارع؛ ذلك أنَّ الذي (يُظهِر وجهَ الموالاة والتحابِّ والتعاطف فيما بين المختلفين في مسائل الاجتهاد حتى لم يصيروا شيعًا ولا تفرقوا فرقًا: أنهم مجتمعون على طلب قصد الشارع، فاختلاف الطرق غير مؤثر...، ولما كان قصدهم إصابة مقصد الشارع صارت كلمتهم واحدةً وقولهم واحدًا؛ وبهذا يظهر أن الخلاف -الذي هو في الحقيقة خلاف- ناشئ عن الهوى الْمُضِلِّ لا عن تحري قصد الشارع باتباع الأدلة على الجملة والتفصيل...، وإذا دخل الهوى أدَّى إلى اتباع المتشابه حرصًا على الغلبة والظهور بإقامة العذر في الخلاف، وأدى إلى الفرقة والتقاطع والعداوة والبغضاء لاختلاف الأهواء وعدم اتفاقها، وإنما جاء الشرع بحسم مادة الهوى بإطلاق، وإذا صار الهوى بعض مقدمات الدليل لم يُنتج إلا ما فيه اتباع الهوى، وذلك مخالفة الشرع، ومخالفة الشرع ليست من الشرع في شيء، فاتباع الهوى من حيث يُظَن أنه اتباع للشرعِ ضلالٌ في الشرع؛ ولذلك سميت البدع ضلالات)(4). وإنكَ –والله- لترى في اتحاد عدوِّنا الشيعي الشيوعي على إبادة العزل برهانًا قاطعًا على تيهٍ وهوًى دفينٍ لإخوةٍ متفقين على أسسِ كلِّ شيءٍ وفي الوطن والدين والعدو، ثم يفترقون ولا يتفقون على شيءٍ وإن أوْدَى تنازعهم بهم إلى هرجٍ ومرجٍ وخسارةٍ لكلِّ شيءٍ ثم حرقٍ لخضرائهم واستباحةٍ لدمهم ومالهم وأرضهم وعرضهم، وتفريطٍ بكلِّ شيءٍ حتى دماء الشهداء الزاكية وتضحيات الناس صغيرها وكبيرها، وإلى سلخٍ ومسخٍ للدين الذي عنه يدافعون وينافحون وفي سبيله يُستشهدون.

إنَّ الثوابت والقطعيات والأواصر والعلائق والقواسم والجوامع الرابطة بين الفصائل السورية في إدلب أكثر من أضدادها وإنْ أوهنَتْها يومًا أهواءُ الدَّاعمين ورِهانُ المراهقة السياسيَّة وصِدامها أو عمالتُها وأنانيتُها، بل إنَّ ما يجمعُنا أقوى وأوثق من معاهدات حسن الجوار أو الدفاع أو المواطنة التي كانت تؤلِّف بين الصحابة وغير المسلمين من يهود المدينة وقبائل الجوار والحلفاء.

2. الخوفُ السَّائق والعائق

في مثل أيام إدلب والخندق تُحدِق بالناس كلُّ الظنون، وتدور الدوائر على القلوبِ كلما تراءى شبحُ العَوَزِ والخوف والبرد في العيونِ، هذا مع مشاقِّ أشغالِ الحفرِ والتحصينِ وشحِّ المال والطعام والسلاح في حصارٍ ومسغبةٍ وكيدٍ وغدرٍ وحربٍ تآزر عليها معاهِدون ومنافقون من جيران ومواطنين {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب: 10].

هذا الضربُ من الخوف غريزة مركوزةٌ في طباع الكائنات الحيّة وفطرةٌ وجوديةٌ أي إنها ملازمةٌ للأحياء منذ وجودهم، وهي ضرورية للمحافظة على البقاء، وعادةً ما تستثار على إيقاع مؤشراتٍ تؤذن بخطرٍ خارجيٍّ أو تعلُّقٍ بمجهولٍ مرغوبٍ فيه أو عنه؛ فيغدو الفردُ عُرضةً لخيالات وشبهات وشكوك تؤزه أزًّا وتَأْطُره أطرًا للتخطيط والإقدام على سلوكٍ يدرأ به ما يحاذر أو يجلب به ما يتوقع ويطمع، فالخوف من البرد والجوع والفقر والحرب يحملنا على البحث عن أسباب الوقاية والكفاية والدِّفاع، إنَّه ذعر سائغ تفرضه ضرورات السعي لحفظ المهج والأرواح والعرض والأرض والمال، وكلما استبد الخوف بالناس حملهم على البحث عن طرح تصورات وخطط فردية أو جماعية جزئية أو شمولية يرون فيها ملجأً أو مُدَّخلا أو مغاراتٍ؛ يأرِزون إليها عند الهلع زَرافاتٍ وَوُحْدَانًا، ويفرضونها على ساسةِ الحربِ يوم الفزع وانصرام السِّجال ورجحان كِفَّة العدوِّ وحلفائه كما وقع في داريَّا لا كما حَبَكَتْ أحابيل غرفة الموك في درعا.

هذا هو الخوف الحامل السائق الباعث على البحث عن أسباب البقاء والحياةِ والكرامة ومقومِّاتها، أمَّا الخوف المانع العائق فهو الذي يولِّد الأمراض النفسية والعجز وارتقاب المصير المحتوم واستشراف النهاية البائسة والاستسلام النفسي والعقلي والعملي لمظانِّ الرعب، فذاك مرضٌ وبائيٌّ فيه جرثومة عدوانية تحمل في طياتها عدوى ناشرة عابرة تتغذى بثلاثيةِ داء الرُّهاب:

أ‌- الشائعات وقيل وقال {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) } [الأحزاب: 12]. وغيرُ قليل منها أكاذيب تدسُّها الجيوش الإلكترونية البعثيَّة الشيعية الشيوعية على نطاقٍ واسعٍ حتى إنَّها لتغدو مسلَّمات تتداولها ألسنة المضطهدين واللاجئين وبيوتاتهم ومخيمَّاتهم، وتحملهم على ما لا يتوقع ولا يحمد من سلوكيات وانعكاساتِ ردود الفعل.

ب‌- تثبيط المرجفين ومَعَاريضُهم ومعاذيرُهم {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا}[الأحزاب: 13]. والمرجفون في سورية ضروب شتَّى فيهم القريب والغريب، والعجيب أن منهم فصائل مقاتلة بعقلية مغلقة وأحلام خُلَّبيَّة صدَّت كثيرين عن السبيل، أو قل: إنها منحت القاعدين والمخلَّفين ذرائع يحاجُّون بها عن أنفسهم بحقٍّ أو بباطل.

ت‌- الخيانة ونقض العهود {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا } [الأحزاب: 15]. وأيُّ عهدٍ أوثق من أن يقيم بين ظهراني المضطهدين الأحرار في إدلب وغيرها قومٌ يأكلون خيرهم ويتقون بهم ذُلًّا ومجاعةً وعبوديَّةً ووحشيةً أَسَدِيَّةً فتَّاكةً غادرةً لا تحيط بها لغات العالم وصفًا، وما إِن تكشف الحربُ عن ساقها حتى يتبين أنهم وشاةٌ وعيونٌ لمخابرات الاحتلال الروسي الشيعي البعثي، يُشيعون الفتنة ويعيثون في الأرض فسادًا وتقتيلًا بما يتبرعون به للسفاحين من بيانات ومعلومات؟!

3. المخابرات وحرب الأخبار

إنَّ عيون العدوِّ تفتك بالمستضعفين وتغزونا في عقر إدلب خاصَّةً وفي كل بقاع الأرضِ، فينبغي أن نقف على سرِّ الفتور وعواملِ القصور في إعداد جهاز مخابراتٍ خبير أمين لديه مَجْمَعُ معلوماتٍ سريةٍ؛ لنأخذَ بفضلِهِ حِذْرَنا بقدرِ ما يتغلغل في حُجَيرات الاحتلال الروسي الشيعي البعثي ويقنص جراثيمَه المستنبتة في زيتون إدلب وغيرها، وليضبطَ إعلامَنا ووثائقَنا العسكرية ضبطًا يحولُ دون استغلالِ العدو لسرية المعلومات، وليَقِيَ نفوس المستضعفين من الانخداعِ بالمبالغات، ويَحُدَّ من خداع المبالغات وتزييف الوعي في ميادين عدة كالحكم المطلق على كل مقيم بين ظهراني الاحتلال الإسرائيلي أو الروسي الشيعي وشبيحته بأنه عدوٌّ وبأنَّ كل من سواهم ثوريٌّ مقاوِم، ولنا في مسلمي مكة قبل الفتح عبرة، قال تعالى: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 25]. عن جنيد بن سبع قال: (قاتلت رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أول النهار كافرًا، وقاتلت معه آخر النهار مسلمًا، وفينا نزلت: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} قال: كنا تسعةَ نفرٍ سبعةَ رجالٍ وامرأتين)(5).

والفضل كل الفضل يوم الخندق وقبلَه أيامَ كان الأحزاب يتحزبون وبعده يومَ ولَّوا مدبرين كان لخلايا استطلاعٍ تكتمُ إسلامها لتغزو بصمتٍ قريشًا واليهود والمنافقين، فهم مراسلو المدينة وعيونها وأمناؤها وجرسُ إنذارها، عن جابر أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قال يوم الأحزاب: («من يأتينا بخبر القوم» فقال الزبير: أنا، ثم قال: «من يأتينا بخبر القوم». فقال الزبير: أنا، ثم قال: «من يأتينا بخبر القوم» فقال الزبير: أنا، ثم قال: «إن لكل نبي حواريًّا، وإن حواريَّ الزبير»)(6). وكذلك فعل حذيفة من قبلُ عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم يستكشف أخبار الأحزاب؛ ففاز بالمرافقة (قال رجل من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان: يا أبا عبد الله، أرأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتموه؟ قال: نعم يا ابن أخي، قال: فكيف كنتم تصنعون؟ قال: والله لقد كنا نجهد، قال فقال: والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض ولحملناه على أعناقنا. قال فقال حذيفة: يا ابن أخي، والله لقد رأيتنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالخندق، وصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هَويا من الليل، ثم التفت إلينا فقال: من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع -يشرط له رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجعة- أسأل الله تعالى أن يكون رفيقي في الجنة؟ فما قام رجل من القوم من شدة الخوف وشدة الجوع وشدة البرد، فلما لم يقم أحد دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم -فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني- فقال: يا حذيفة، اذهب فادخل في القوم، فانظر ماذا يصنعون، ولا تحدثن شيئًا حتى تأتينا. قال: فذهبت فدخلت في القوم والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل، لا تُقِرُّ لهم قدرًا ولا نارًا ولا بناءً، فقام أبو سفيان فقال: يا معشر قريش لينظر امرؤ من جليسه؟ قال حذيفة: فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي، فقلت: من أنت؟ قال: فلان بن فلان)(7).

وبعد أحدٍ (اشتدت شفقتهم من أن يُغير المشركون على المدينة فتهلك الذراري والنساء، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لسعد بن أبي وقاص: ائتنا بخبر القوم، إن ركبوا الإبل وجنَّبوا الخيل فهو الظَّعْن، وإن ركبوا الخيل وجنبوا الإبل فهي الغارة على المدينة؛ والذي نفسي بيده، لئن ساروا إليها لأسيرنَّ إليهم ثم لأناجزنَّهم. وقال له: إن رأيت القوم يريدون المدينة فأخبرني فيما بيني وبينك، ولا تفت أعضاد المسلمين... فرجع إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو كالمنكسر، فقال: وجَّهَ القوم يا رسول الله إلى مكة، فقال: ما لي رأيتك منكسرا؟ قال، فقلت: كرهت أن آتي المسلمين فرِحًا بقفولهم إلى بلادهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن سعدًا لمجرِّب!) (8)فأين سعدٌ هذا من بثِّ الرعب والإحباط واليأس والشك والرجم بالغيب أو النصر الموهوم والتقدُّم المزعوم وفتح الأندلس والقدس وروما والصِّين في إعلام ثوَّار وسائل التواصل الاجتماعي وقنوات السبق الإعلامي، وإنك لتُلفي في فوضى إعلامنا وتهويله أو تهوينه للوقائع عونًا للعدوِّ ووهنًا في صفوفنا، يتبعه منِ بعدِه ذُعرٌ وشكٌّ وتخوين وتِيهٌ وضياعٌ ينفرط به عقد الوحدة والتضامن بين العامَّة والمقاتلين، وحسبكَ لبيان فداحة هذا الإعلام وأثرِه القتَّالِ ما آل إليه أمر بعض الصحابة يوم أحد بعدما أُشيع أنَّ محمدًا قد قتل! وأنت خبيرٌ أنَّ طامَّةً كهذه ما كانت لتكون لولا أطماعٌ أعلنَتْ مبكِّرًا نصرَ الصحابة على قريشٍ، فاغترَّ بذلك الرُّماة على الجبل، وكان ما كان مما أنت في غنًى عن ذكرِه.

1 الشهرستاني: الملل والنحل (1/ 22).

2 الواقدي: المغازي، (2/ 445)، المباركفوري: الرحيق المختوم، ص277.

3 ابن سعد: الطبقات، 9/320.

4 الشاطبي: الموافقات، (5/ 220).

5 ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، (7/ 344).

6 صحيح البخاري: 64 - كتاب المغازي، باب غزوة الخندق وهي الأحزاب، رقم (4113)، (5/ 111).

7 ابن هشام: السيرة النبوية، (2/ 231).

8 الواقدي: المغازي، 1/ 299.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين