ذكرياتي مع سيدي الشيخ محمد نذير الحامد (5)

اللوحة الخامسة

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

وهذه اللوحة الخامسة من ذكرياتي مع سيدي الشيخ نذير الحامد تغمده الله بواسع رحمته وكرمه آمين. 

دخل إلينا ذات يوم وقال : قبل أن نبدأ درسنا عندنا مهمة :

ما رأيكم إذا أنجب رجل ولدا واعتنى به وربّاه وصار ذلك الولد - ونظر إلى طالب طويل - أطول من أبيه ، وزيّنه الله بشارب في وجهه - ونظر إلى طالب له شارب جميل-

ثمّ تابع أو اكتملت لحيته فأكرمها وأكرمته - ونظر إليّ-

أقول:أليس من غيراللائق بهذا الأب أن يستصغر ولده هذا أو يستهين به ؟

فأجاب الطلاّب بحماس : طبعا...طبعا…

فقال : عظيم . ومهما كبر هذا الولد ونال من الشهادات أليس معيبا أن يستهين بوالده . فوافق الجميع .

فقال: لقد طلبت الإدارة منّا إنجاز ( الوظيفة الشهرية ).

ومسألة : أن أعطيكم أسئلة تنقلون إجابتها من عاطف مثلا وأستلمها فأجد نفسي في مأساة تضيّع ثمين وقتي . أصحّح أجوبة متماثلة تصحيحها مُملّ جدا.عملية غير كريمة وغير لائقة في التعامل فيما بيننا .أليس كذلك ؟ 

قالوا : بلى .

قال فما رأيكم أن نقوم بوظيفة شهرية فيها التكريم اللائق من المعلّم لطلابه الشباب. وفيها الاحترام والمصداقية من الطالب مع معلمه . مع الفائدة المزدوجة .

قالوا : يامرحبا . كيف ستكون هذه الوظيفة ؟؟؟ 

قال : هذا ما فكّرت به طويلا حتى وصلت إلى الحلّ ، هو أن أعطي كل ّواحد منكم وظيفة خاصّة به مختلفة عن زملائه .

قالوا : موافقون . 

فما كان منّي إلاّ أن انكبّ وجهي على الطاولة فوق ذراعيّ وقلت : وا أسفاه لقد ورّط الشيخ نفسه . فنحن خمسمئة طالب من أين سيسدّ هذه الثغرة ؟ لكنّه تابع حديثه قائلا :وقلت لنفسي ما الوظيفة التي تستطيع تغطية هذا العدد ؟ فلم أجد إلاّ ( أعلام المسلمين) فطرت فرحا ، لقد نجح الشيخ فأعداد أعلام المسلمين أكبر بمئات المرّات منّا . ثمّ تابع قوله: لكلّ واحد منكم علم من أعلام المسلمين خاصّ به . فيستفيد هو من مطالعته ويتعرّف عليه . وأنا عند قراءة ورقته أستفيد أيضا ولا أشعر بالملل .

أبدى الطلاب إعجابهم بهذا الإبداع .

فقال : أتريدون أن أزيدكم سرّا ؟ قالوا : نعم . قال هامسا وكأنه يقول سرّا حقيقيا : أحتفظ أنا بهذه الأوراق عندي وكأنّي قد حصلت على كتاب مجّانا .صدّق الطلاب ما سمعوا . 

فقال : سأعطي الطالب اسم العلَم وأعطيه اسم الكتاب الذي سيأخذ منه المعلومات فإن وجد أكثر من ثلاث صفحات : يحقّ له الاختصار .وإن وجد ثلاث صفحات أو أقلّ ينقل الكتابة نقلا حرفيا ويأخذ الدرجة تامّة .

ثمّ شرع ينادي اسم الطالب ويعطيه اسم الصحابي أو التابعي ، ثمّ اسم الكتاب ، بل زاد على ذلك مكان الكتاب : دار الكتب الوطنية . المركز الثقافي العام . المركز الثقافي في الفردوس ...ويدون عنده .

فلمّا صاح اسمي قال لي : لا … أنت سأعطيك وظيفة غير هذه : لخّص لي أشراط الساعة . ولمّا أتمّ التوزيع . قال: ياشباب متى تحضّرونها ؟ قالوا: الثلاثاء القادم .

قال: بل أعطيكم مهلة للثلاثاء الذي يليه على أن تحضروها تامّة كاملة عمل رجال فإن احتاج أحدكم إلى استفسارخلالها أجبته .

وجاء درس التربية الإسلاميّة فرفع طالب يده قائلا : ياأستاذ أنا لم أجد الصحابي المطلوب . فسأله عن اسم الصحابي واسم الكتاب فأجابه والأستاذ يفكّر ثم قال : مستحيل موجود يقينا . كرر الطالب : لكنّي لم أجده . فقال له الأستاذ لعلّك وجدت قليلا من الكتابة عنه يعني : هو فلان ابن فلان ولد سنة كذا توفي سنة كذا… ؟ - وذكر له حوالي ستة أسطر عنه - فقال الطالب : نعم .قال الأستاذ: أليست أقلّ من ثلاث صفحات ؟ قال : نعم . فقال له : ونحن علام اتفقنا ؟ قال : أنقلها نقلا حرفيا .قال إذن نفّذ ولك الدرجة التامّة .

وسأل آخر فقال له كذلك . وسأل ثالث، فقال له: اسكت ولَكْ في أكثر من خمس صفحات وكان الطلاّب يدققون فيما يقول ويجدونه في منتهى الضبط فتمادوا...وهو يجيب لكنّه قاطعهم وقال ممازحا : ولك أنتم تمتحنونني ؟؟؟ أتحدّاكم ...

أستطيع أن أقول لكم: من أين يبدأ الحديث عن العلم في الكتاب من الصفحة اليمنى أم من اليسرى ؟ ومن أوّل الصفحة أم وسطها أم آخرها . قالوا : قبلنا التحدّي .قال أحدهم ممازحا: آه لوكان الرهن يجوز كنّا خسّرنا الأستاذ صينية كنافة . فقال الأستاذ: سنرى . أشعنا الخبر بين طلاّب المدرسة . فأخبر كلّ من سأله عن العلم المناط به . كما أخبره من أين يبدأ ولم نمسك عليه غلطة ولو صغيرة .

هنا تبيّن لنا عمق علومه . وأدركنا أنّه كان يداعبنا عندما قال أنّه سيحصل على مرجع بالمجان . وأنّنا ظننا أنّه سيستفيد كما نحن سنستفيد . وعلمنا أنّ من يخونه القلم فيغلط في معلومة ستشطب بالأحمر .

راح الطلاّب يتغنّون بتبجيل أستاذهم بعد هذا الموقف ، وقناعتهم أنّه ذو أفق في العلوم الدينية كلّها وعلوم اللغة العربية والفلسفة وبمثل هذا المستوى الذي اكتشفناه .

هذه الحادثة أردت أن أخصّ بها اللوحة الخامسة لتعريف من لم يسعد بالتعرّف على هذا العلاّمة الحبر في حياته .

وإلى اللقاء في اللوحة السادسة وما قبل الأخيرة لنتعرّف على أفق آخر من آفاقه لم يسبق الحديث عنه .

رحمة الله عليه، وجزاه الله عنّا كلّ خير آمين.

اللوحة الرابعة هنا