ذكرياتي مع سيدي الشيخ محمد نذير الحامد (4)

اللوحة الرابعة :

وهذه اللوحة الرابعة من ذكرياتي مع أستاذنا الحبيب فضيلة الشيخ نذيرالحامد وتتضمن ثلاثة مواقف من مواقفه النادرة

الموقف الأوّل :

سأله طالب فقال : لماذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلّم : ( سوداء ولود خير من حسناء لاتلد ) لاتقل لي: تكاثروا تناسلوا...الدنيا كلّها تسير في طريق تحديد النسل وتنظيم الأسرة .

فابتسم لسؤاله . علما أن غيره من معلمي التربية الإسلامية عندما تعرّض لمثل هذا الشرط ، وبّخ السائل، وقال : ومن قال لك أنّي سأجيبك ؟

إذا نطق السفيه فلاتجبه ===وخير من إجابته السكوت.

أتردّ قول الرسول وتريدني أجيبك؟؟؟

لكنّ شيخنا رحمه الله استجاب له فقال :

يابنيّ خلق الله الذكر بصفات معيّنة ، وخلق الأنثى بصفات أخرى ، وجعل بينهما مودة ورحمة ، يجد كل منهما السكن في الجنس الآخر ، بقدر ما يتحلى الجنس بخصائص جنسه .

فالمرأة العقيم ينقصها ركن عظيم من أركان أنوثتها له منعكساته على مجمل حياتها .أمّا الولود فلديها هذا الركن المهم فأحرى بالرجل أن يجد لديها السكن فالأنوثة التامّة ومنعكساتها تطغى على الحسن الشكلي . وهذا أمر يغفل عنه كثير من الناس يشغلهم الجمال الظاهر .لهذا - وغيره - أرشدنا الحديث إلى وجه الصواب .

أعلن الطالب عندها عن قناعته بهذه الوجهة .

انصرفنا ذلك اليوم من المدرسة فمررت في طريقي لألتقي بصديقي في دكان والده . لنتفق على الدراسة في تلك الليلة .

دخلت الدكان فرحَّب بي والده وجلست أنتظر مجيء صاحبي فذكرت لوالده هذا السؤال وإجابة الأستاذ عليه أريد أن أتحفه به وأشغل الوقت حتى يصل صاحبي .لكن ما أتممت الجواب حتى صار الرجل في حال عجيب فهبّ واقفا رافعا كلتا يديه إلى الأعلى وكبّر بأعلى صوته ثلاثا وقال : (هذا اللي بتنباس إيدو..ثلاثا ) ماشاء الله .ذهلت أنا من شدّة تأثّره بما سمع، لكنه تابع، فقال لي : يا عاطف أنت مثل ولدي فلان لاتتعجب من ردّ فعلي ياولدي عندما توفّيت أم صديقك . عزمت أن أتزوج امرأة عقيما .هكذا قال لي عقلي كي لا تظلم أولادي من المرحومة .وبحثت جهدي حتى وصلت إلى زوجتي هذه تمّ طلاقها من زوجها الأوّل لأنّ الأطباء أجمعوا أنها لاتلد .

ووالله ياولدي هي سيدة فاضلة قائمة بواجبها تجاه بيتي وأولادي .لكنني أعاني معاناة شديدة لنقص أنوثتها وخاصّة أني لا أنفكّ أقارن بين أنوثة المرحومة أمّ الأولاد وتصرفاتها هي الخالية من الأنوثة . والله يا ولدي سأظل أبكي المرحومة كلّما صدر من هذه ما يؤذيني في هذه النقطة فأنا أفقد الكثير من السكن . ليت هذا العالم قابلني قبل توّرطي في زواجي هذا ونوّر بصيرتي لكن الآن لايسعني إلاّ الصبر .

عدت في اليوم التالي لأحدّث زملائي بهذا فتتجلّى حكمة جواب الأستاذ - رحمه الله -

الموقف الثاني :

سأله طالب فقال: يا أستاذ لماذا حرّم الإسلام أو كره الألعاب التي تعتمد على الحظّ كالنرد والورق وغيرها مادام الإنسان يلعبها للتسلية لا القمار ؟ أنا لم أفهم الحكمة من ذلك . وأيّده عدد من الطلاّب .

فقال له : لو ذهبنا معا ، وركبنا الحافلة ( الباص) ونزلنا في ( العرقوب ) حيث مختلف المعامل لو دخلنا ثالث معمل على اليمين هل تعرفه ؟ فقام أحد الطلّاب وقال : نعم هذا معمل ( الجينكو ) لصاحبه فلان .

قال : أحسنت .

لو دخلنا وأذن لنا صاحبه أن نتصرّف . فتناولنا قطعة صفيح من الحديد ( الصاج ) وذهبنا بها إلى الآلة التي يسمونها ( الطعّاجة ) وشكّلناها بشكل معيّن فحوّلناها إلى شكل ( نونية ) أطفال ثم ذهبنا بها إلى قسم البخّ فبخّها وأدخلها الفرن فخرجت نونية جديدة من الجينكو لم تستخدم قط في السوء لأنّنا صنعناها بأيدينا . لو وضع فيها إنسان طعاما وقدّمها لك أتأكل منه ؟

فأبدى قرفه وقال : لا طبعا . 

فقال الأستاذ له : لماذا وأنت تعرف تاريخها ؟ قال : لأنّها تستخدم في قضاء حاجة الأطفال.

فقال له الأستاذ : أحسنت كلّك ذوق . لأنّها تستخدم في السوء كرهت استعمالها . لأنّها تستخدم … وهذه الألعاب لأنّها تستخدم . كرهها الشارع الحكيم .فكم هتكت أعراض، وكم أهانت رجال وأقل مافيها أنّها تعود الإنسان على التواكل على الحظّ وعدم إعمال العقل .

فقال الطالب : والله بدأت أشعر بالقرف منها .

أمّا الموقف الثالث : فقد قام مجموعة من الطلّاب بطرح فكرة : زعموا أنّ المرأة مثل الرجل تماما لا فرق بينهما فلماذا ميّز الإسلام بينهما ؟ هذه المرأة اقتحمت ميادين الرجال وقامت بأعمالهم بنجاح .

فقال لهم : لنأخذ مثلا من أعظم امرأة في السياسة في عصرنا الحاضر ؟

فقالوا : ( أنديرة غاندي )، وهمس أحدهم فقال : ( كولدا مائير).

فقال لهم : نعم ( أنديرة غاندي )، والطالب الذي ذكر ( كولدا مائير ) لم يبتعد عن الصواب فهي رئيسة وزراء العدو الصهيوني .فهذه أو تلك دخلت مجال الرجال وعملت وأثبتت وجودها كما يقولون لكن ما الثمن الذي دفعته وخسرته للوصول إلى ما وصلت إليه ؟

إنه أنوثتها التي لاتعوّض .وتقولون أثبتت وجودها، ولكن الحقيقة الثابتة أنتم ستقولونها . بالله عليكم كم أنديرة غاندي سنضع في كفّة الميزان لتساوي واحد مثل الرئيس جمال عبد الناصر رحمه الله !!!(وكان له شهرة كبيرة في ذلك الوقت).

فدوّى الصفّ بالاستنكار هذا يقول: (فشرت)، وذاك يقول: ( ولا مئة منها )،وآخر يقول: ( خسئت).

فقال لهم: أرأيتم كم الفرق كبير ؟

يابنيّ الشرع الحكيم لم يفرّق بين الذكر والأنثى إلاّ فيما يخصّ كلّ جنس منهما، فالرجل يكمّل الأنثى وهي تكمّله، لكلّ منهما خصائصه وطبيعته . وهو محتاج إلى الآخر .إن كان شهادة امرأتين بشهادة رجل فهذا تكريم للمرأة لأنّه يتناول شهادتها فيما يخصّ الرجال . أمّا ما يخصّ النساء فلا .أي شهادة رجلين بشهادة امرأة في الولادة والرضاع وما يخصّ النساء .

هذه ( ماري كوري ) يزعمون أنها هي التي اكتشفت البولونيوم . والحقيقة أنّ زوجها هو الذي اكتشفه ونسبه إليها تكريما لها لأنّ بلدها بولونيا قد مسحت من الخريطة في ذلك الحين. وكان من نتائج تفانيها في المعامل وأعمال الرجال أنّها لم تنجب وفقدت أنوثتها آخر عمرها فضمر ثدياها وخرج الشعر في وجهها وأصيبت بمرض نفسي عضال إذ اعتبرت أنّ هذا من غضب الآلهة عليها .

هذه المعلومات كنّا قد درسناها في مقرّر اللغة الفرنسية فنحن قسم الأدبي ندرس نفس كتاب العلمي ونزيد عليهم ( القصّة )، وكانت قصّة ماري كوري التي كتبتها ابنة أختها عنها هي المقرّرة . فأكّد له الطلاّب ذلك وتعجّبوا من أين حصل الأستاذ على هذه المعلومات ؟

وخرج الطلاّب من الدرس وقد غسلوا ما علق في أذهانهم من ترّهات حول هذا الموضوع. لكن حام في ذهني أفكار لا تخطر لبقيّة الزملاء . 

كيف يقول عن هذا الفرعون رحمه الله ؟ وهو يعرفه حقّ المعرفة ويكرهه أشدّ الكره ؟

لم يطل ذلك فقد ذهبت إلى فضيلة الشيخ أحمد القلاش لأحضر درس السيرة، وكان يقرأ علينا (المواهب اللدنية) فتناول حادثة موت رأس المنافقين عبد الله بن أبيّ بن سلول وكيف أنّ الصحابة لم يخبروا رسول الله بموته، لكنّه علم فأسرع إليه فوجدهم يدخلونه لحده فأمرهم بإخراجه وتفل على يده الشريفة ومسح بها صدره، ثم كفّنه بعباءته وصلّى عليه .

هنا لا أدري ماصدر منّي من قول، فزجرني الشيخ رحمه الله ووبّخني، وكرّر قوله : كلّ ما يفعل الجميل جميل .

اعتذرت وقلت: والله لقد أخذتني الغيرة على عباءة رسول الله التي نتمنى لو قبّلنا أطرافها من أن تكون كفنا لهذا البدن المنتن .

فقال لي الشيخ : كلامك ظهرت منه نغمة الاعتراض أكثر من نغمة الغيرة . ثمّ قال الشيخ : والسؤال الذي يطرح نفسه: ما مصير المنافقين الموجودين في المدينة ؟ ؟ ؟

لم يبق لهم أثر. لقد ذوّبهم رسول الله بفعله هذا.

وفعلا هكذا أستاذنا استغلّ عواطف طلاّبه ليذوّب ما أصابهم من الباطل ويغسله من عقولهم .

وأختم هذه المواقف بموقف صغير لطيف بعد أن أذاع علينا درجات اختبارذات يوم قال له أحد الطلّاب :(أيوه ياأستاذ عمنو عاطف عامل دقن بتعطي عشرين من عشرين ولأنو أنا حليق بتحطّلي درجة واطية )

فضحك الأستاذ وقبض يده اليمنى وراح يدقّ بها على راحة كفّه اليسرى ويقول له : طق..طق...بدي أحط له عشرين وأحط لك درجة واطية .

ضحك الطالب وقال : والله العظيم ما حدا بيحسن عليك يا أستاذ...لأنّه هو قالها من باب المشاغبة .

لكن لوقالها لغير أستاذنا لتشنّج الأستاذ وتطهبج واجلوذّ وانتفخت أوداجه واعتبرها طعنا في استقامته وإهانة له. وقال : شوف ورقتك وشوف ورقته ….الخ حتى لم يقل له: لقد أخذ عاطف في أوّل اختبار مثل درجتك .

رحمة الله عليه بمثل هذا ملك قلوب الطلاّب وحاز ثقتهم وقناعتهم به رحمة الله عليه .

وإلى اللوحة الخامسة بإذن الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته . 

اللوحة الثالثة هنا