ذكرياتي مع سيدي الشيخ محمد نذير الحامد(3)

اللوحة الثالثة

إليكم اللوحة الثالثة من ذكرياتي مع فضيلة الشيخ نذير حامد قدّس الله روحه ونوّر ضريحه :

كلّما مرّت الأيام، ازددنا بفضيلته معرفة، وازددنا به تعلّقا وإعجابا ، صار لنا شغف وترقّب للدرس . وبدون اتفاق مسبق صارت لنا جلسة بعد الدرس نستمتع فيها بالمعلومات التي قدّمها والأساليب التي أمتعنا بها ونفكّر ونحلّل ما وصلنا إليه . وإليكم الأمثلة :

ذكرت لكم في اللوحة الماضية كيف قال للطالب : أنت من أسرة كريمة والدك ….. جدك …..

إذا لديه معلومات موثقة عن كثير من الأسر، وعندما كان يسأل الطالب في التعارف عن اسمه واسم أبيه وأسرته كان له أهداف بعيدة لم تظهر لنا إلاّ بعد حين . لقد كان لكلامه هذا أثر بليغ عند الطالب كما رأينا .

2) عندما سألني ماذا عملت في العطلة الصيفية؟ قلت: الراحة والاستجمام فقط . قال مداعبا :إذا عينتك نائبا للمدير العام للشركة . قلت : أيّ شركة ؟ قال : شركة الدوران الأهليَّة .

- مثل هذا التعبير في ذلك الوقت كان شبابيا إبداعيا - وعندما سأل آخر . قال للأستاذ : (قضيتها في بطون الكتب بين دار الكتب الوطنية والمركز الثقافي)، ثم أخرج دفترا بحجم الكفّ فيه مئة صفحة وشرع يظهر للأستاذ أنّه قد امتلأ من الفوائد. فتبسّم الأستاذ وقال له : عظيم جدّا إذا ستساعدني في التدريس . وصدّق صاحبنا هذه الدعابة . لكنّه عمليا كلّما ذكر الأستاذ شاهدا أخرج دفتره وشرع يقرأ منه، لكنّ الأستاذ يزيد من ذاكرته على ماكتبه الكثير الكثير مع تشجيعه للطالب . حتى قال لنا زميلنا : اشتهيت مرّة واحدة أن أكون قد وفّيت الأبيات .

وبعد أن أنهى الأستاذ بحث إثبات وجود الله وصفاته، دخل في موضوع الطهارة، فذلل صعابها، وهوّن فعلها للطلاّب، وقد أعربوا له أنّ أصعب شيء يعترضهم هو فضيحتهم بأنّهم على جنابة . وخاصّة أمام أفراد الأسرة .

فكيف قدّم العلاج لهم ؟

أوّلا : أثنى على خجلهم وامتدحهم به .

ثانيا: بيّن لهم الخجل الممدوح والمذموم . والخجل إنّما يكون من السوء إذا جناه الإنسان بنفسه وهذا الأمر لاحيلة للإنسان به. 

ثالثا : هذا أصاب الأولياء والصديقين والشهداء والصالحين . 

رابعا : الصورة السوداء المقيتة ممّن لا تصيبه الجنابة . هل هو شاذ ؟ أم يصرف ماءه بطرق ملتوية ؟

والعلاج : إذا استيقظت جنبا ، فتناول إبريق الشاي واملأه ماء وضعه على النار ، هذا لا يلفت الأنظار إليك . متى غلى ، خذه إلى الحمّام ، انْو الاغتسال، أزل النجاسة ثم توضّأ وضوء الصلاة ، صبّ الماء الذي في الإبريق في الحوض وعدّله بالماء البارد ثم ابدأ برأسك ثم شقك الأيمن فالأيسر فبقّية الجسم مع الدلك ، وهكذا تكون قد أتممت طهارتك .

ثم داعب الطلاب مبتسما فقال : أأقول لكم سرّا ؟ والدك لا يقيم لك اعتبارا وينقلك من الطفولة إلى الرجولة إلّا عندما يسمع منك قرقعة طاسة الحمّام . (وهذا أيضا تعبير شبابي لاتصل إليه مهارات الشباب ).

هبّ أحدهم واقفا وقال: يا أستاذ لقد عزمت على التمسّك بالصلاة فضربني جدّي وشتمني وقال : ولك الصلاة ماهي لعبة . بدّك تصلي ؟ لازم تمسكها صحّ . يا أستاذ والله لا يمكن أن أعمل مثله .

يخرج من المرحاض وهوممسك جهاز البول مع ورقة النشّاف ويقوم بعرض واستعراض لعملية الاستبراء من آثار البول هي فضيحة بجلاجل لايمكن أن أعملها . وهو لا يقبل منّي أن أصلّي إلاّ إذا قمت بهذه الحركات ...وإلاّ…

قال له الأستاذ: لكنّ الله يقبلها منك . وأنت ترفض طريقة جدّك هذه لأنّك صاحب ذوق رفيع، فالإسلام أمر بالطهارة ولم يأمر بهذه الأعمال المشينة، بل ذكرت كتب الفقه أنّ من آداب قضاء الحاجة أن يخرج الإنسان من المرحاض غير محتاج لزرّ أزرار بنطاله فإن فعلها أمام الناس فقد أخلّ بآداب قضاء الحاجة .ثمّ أنت تصلّي لله لا تصلّي لجدّك، فإن عارضك فقل له : هكذا علّمني الأستاذ، فإمّا أن تذهب إليه وإمّا أن أحضره إليك . أمّا أن تترك صلاتك لهذا السبب فلا وألف لا .

كانت نتائج توجيهاته تلك أن غصّ مسجد المدرسة بالطلاب . والصلاة صارت على دفعات لكثرة المصلين .

أدركنا كم كانت أساليبنا متخلّفة في دعوة الشباب إلى الطهارة والصلاة، وكم كانت فجّة في معالجة الأمور.

بعد أن كنت أسرع للإجابة وإبداء الحلول لما يطرح من أسئلة أو شبهات حول الإسلام . صرت أحيل كلّ ذلك على الأستاذ مطمئنا واثقا أنّني سأتلقّى الجواب الشافي ومن أقرب الطرق وأوضح الأساليب .

3) دخل الدرس - رحمه الله - ذات يوم .ولمّا بدأ وضع كلتا يديه على طاولة الطالب - كنّا نسميها :(رَحْلة) بفتح الراء - ثم ضغط عليها ، فزقزقت لأنها قديمة .فقال لنا : أطّت المنضدة . ثم كرّر العمل والقول .وقال لطالب : هل سمعت أطيطها ؟ قال : نعم . قال لنا : لماذا أطّت ؟ قلنا: لأنّك ضغطت عليها . قال : صحيح .

ثمّ قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "أطّت السماء وحقّ لها أن تئطّ .مافيها موضع شبر إلاّ وفيه ملك ساجد للّه.." إلى آخر الحديث.

ذكرت لطلّابي من الأساتذة فيما بعد أنّ هذا الفعل فعل ( أطّ يئطّ ) ما مرّ معي نهائيا منذ خمس وعشرين سنة . ولم أنس معناه لأنّه رحمه الله غرسه بهذه الطريقة الرائعة .

وأكتفي اليوم بهذا القدر فإلى اللوحة القادمة وفيها المزيد من الأمثلة على إبداعه وتميّزه رحمة الله عليه .

الحلقة الثانية هنا