أبي كما عرفته(8- 10)

عواطف متأجِّجة، وترسُّلات رصينة

[أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] {البقرة:5}.

فليس سَلواً صعباً أن يتجرَّد الإنسان عن عواطفه، ريْب تأثير قاهر، أو أن يتقمص أناسٌ عبء شخصيات، مغايرة لما ازدلفوا عليه، ويُظاهروا عليه بصنائع مُبْهجة، وتصنُّعات فارهة، يَغرى لها الكثير من الناس، مهما ترامت بينهم المرامي، وتعدَّدت منهم الأهداف.

ذاك أن التفضُّل في العواطف تأجُّجاً وانحساراً، وتمثُّلاً واندثاراً، والتميُّز في المواقف لا يُمنحه إلا أفذاذ الرجال، وهذا فرع هداية الله تعالى لهم : [ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] {الأنعام:88} .[أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ] {الأنعام:90}.والهداية على درجات!!..

وهم الذين ليس في مِلاك غيرهم تصنُّع مراميهم، وتشبُّع مسالكهم، والتخطِّي في تنزُّلاتهم، ما خلا المبادئ العامَّة.

فالمنابع غير المنابع، والتأجُّج غير التأجُّج، والتلهُّف غير التلهُّف، كما قيل: « شتان بين النائحة المستأجرة، والثكلى » و«ويل الخلي من الشجي»، وعلى ما قال الشاعر:

صَاح شِمِّر ولا تزل ذاكر المو=ت فنسيانه ضلال مبين

وهو ما تملقته حمائل روحي، على مُسترسلات أبي ـ عليه الرحمة ـ ريثَ ترسُّلاته وحِكمه، ثم إنَّ مدارج الحياة ـ مع من شهدته على قرب ـ لا تكاد تُخفى عنك منه خبيئة، فيظهر لك منه التهاب جوانحه، وارتطام منائحه الدعوية:

علِموا أن يُؤمَّلون فجادوا=قبل أن يسألوا بأعظم سُؤْل

واستعار حمزاته، سواءً في قطبي الارتفاع والانخفاض، أو جانبي القبض والبسط، تماماً على ما ترشح عنه الشعر العربي قديماً على لسان زهير بن أبي سلمى حين قال :

ومهما تكن عند امرئٍ من خليقةٍ=وإنْ خالها تخفى على الناس تُعلم

غير أن انكشافها أو خفاءها خاضع لِنَسب تعتمل بين احتدام القرب أو تمادي البعد، والتوافق النفسي والسلوكي أو التخالف، ثم انفتاح الجَنان لمناطات ذلول، حذَقها المكتشف دون غيره، فأسلم إلى ارتواء، على ما قال الشاعر:

علِمتُك الباذلَ المعروفَ فانبعثت=إليك بي واجفات الشوقِ والأمل

وبهذا يدرك الأريب أن مكان الود من والده، والتلميذ من شيخه، والمأموم من إمامه، ليسوا في الفهم على سواء، [وَاللهُ يَقْضِي بِالحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ] {غافر:20}.

وبهذا يظهر معين من قد أركن من نفسه أنه الذائد عن دين الله تعالى، المطالَب بالدفاع عن شعائره وحُرماته، ففاضت إشرافات نفسه من أجل الله وإلى الله :[إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ] {يونس:9ـ 10}.

* * * 

عاطفة الغضب من الأعداء والمتربصين

هكذا ينطلق صوته كالرعد القاصف، كمن تَصطكُّ أرْدانه على غير هيْعة، وتُصالم أمواجه مُزبدة مُزمجرة، بعد أن كان في درسه الصباحي، ينساب مع النسيم البليل، انسياب الماء الرُّقاق على رفرف العشب، يفتق المسائل، ويحلل الغوائل المستعصية، على رُواء الأفهام، فتسلم بشراسيفها لما تُكابد، ناعمة بعذب هذا السلسبيل، عبر أروقة فقه الدليل، في كتاب شرح الإمام الزَّيْلعي على «متن الكنز» في فقه الحنفية، إذ يُعَدُّ من أعلى كُتب المذهب، بل من أعلى ما حوته المكتبة الإسلامية، في فلسفة الفقه ـ إن تجوَّزنا في التعبير، وفي تنضيد مناطات الأدلة على محالها، واستباق مرامات الردود على الرأي المخالف.

حتى إذا ندَّت خواطره، شاردة نحو الواقع الأليم، والمصاب المر الذي كان يُراود الأمة، في تلك الأيام العصبية، أو استدعى الأمر ذلك من سؤال بعض الحاضرين، انتبر ـ رحمه الله تعالى ـ على مثل ما قد وصفته، يفضح مثالب الأعداء، الذين يتغلَّفون على مثل جلود الضأن، وفي مُدَّخلاتهم يتغوَّر المكر، ويصطرف التحايل.

وما بليَّتُها إلا أنها غابت عن لسان فاهم ناصح، وانحرفت، بل تعامت على فهم جاهل غير عابئ بما حوله، حتى كادت تُودي به وبأمثاله إلى الهاوية، بل فَعَلتْ.

عن أبي رقية تميم بن أوس الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدين النصيحة» قلنا: لمن ؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» رواه مسلم (1).

وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: « بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم» متفق عليه.

وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه» متفق عليه(2).

وعن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضاً، وشبَّك بين أصابعه» أخرجه الشيخان والترمذي.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «للمؤمن على المؤمن ست خصال : يعوده إذا مرض، ويشهده إذا مات، ويجيبه إذا دعاه، ويسلم عليه إذا لقيه، ويشمته إذا عطس، وينصح له إذا غاب أو شهد» أخرجه الستة إلا مالكاً.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « مَنْ دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، ولا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً.» أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي (3).

فعلى تلكم المفاسد التي كانت مُسْتَشْرية، يظهر معين غضبه حيالها، راشقاً قتامها بوابل سهامه، وصبيب كلامه.

قال تعالى : [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] {آل عمران:104}.

وقال تعالى :[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ] {آل عمران:110}.

وقال تعالى :[خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ] {الأعراف:199}.

وقال تعالى :[وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] {التوبة:71}.

وقال تعالى :[لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي العَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ] {المائدة: 78ـ80 }.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ما من نبيٍّ بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أُمته حواريُّون وأصحابٌ، يأخذون بسنَّته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون مالا يفعلون، ويفعلون مالا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» رواه مسلم.

وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « مثل القائم في حدود الله والواقع كمثل قوم، استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرُّوا على من فوقهم، فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذِ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً» رواه البخاري.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل، فيقول : يا هذا، اتَّق الله، ودع ما تصنع، فإنه لا يحلُّ لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال:

[لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ(78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي العَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ(80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ(81) ]. {المائدة:78ـ81 } . ثم قال: « كلا والله لتأمرُنَّ بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر ولتأخذُنَّ على يد الظالم، ولتأطرنَّه على الحق أطراً، ولتقصرنَّه على الحق قصراً، أو ليضربنَّ الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعنكم كما لعنهم» رواه أبو داود والترمذي(4).

لقد كانت هذه الحوافز دافعة له ألا يهادن الباطل؛ ثم ما هي إلا ساعة، من هذه الثورة الجامحة، حتى يظهر الحق، إلى جلاء، ويحنَفَ الصواب الأبلج على مَضاء.

ثم تهدأ العاصفة، ويعود الانسياب على ما كان، بعد أن ازدَرَدَ الحاضرون لب الحقيقة، بعيداً عن زيف الزائفين، ووضعوا أقدامهم على المنطلق السليم.

كانت هذه النبرات الحادة، التي كان يصبُّها على أعداء الله، تتكرَّر بين الفينة والأخرى، وترواح على غير هدأة طيلة حياته، في المجالس التي يعقدها وفيما دونها، وفي كل مناسبة تفرض نفسها.

* * *

الحلقة السابعة هنا

==========-

(1) انظر الأربعين حديثاً النووية : الحديث السابع، ورياض الصالحين ص102. 

(2) رياض الصالحين للنووي ص102. 

(3) جمع الفوائد: محمد بن محمد بن سليمان ج3ص24. 

(4) النووي : رياض الصالحين ص103ـ108.