أبي كما عرفته (7-10)

عاطفة التحرق على الدين واعتمال أمر الجهاد على لسانه وقلمه

شاءت الأقدار أن تكون قمة كفاح والدي ـ رحمه الله تعالى ـ فيما بعد الحرب العالمية الثانية، على أنه كان قد بدأ قبل ذلك منذ بدايات شبابه الأولى.

فلندع له المقام أن يحدثنا عنها، فيما كتبه في مقدمة كتابه :«ردود على أباطيل» إذ يقول:

«ومن طريف ما اتفق لي ـ وأنا طالب في كلية الشريعة ـ إحدى كليات الجامع الأزهر في مصر ـ أني رأيت فيما يرى النائم أني تلقاء قبر النبي صلى الله عليه وسلم وعلى القبر الشريف أشياء غريبة، لم يرقْ لي وجودها عليه، بل لقد ثقلت على قلبي، فأقبلتُ على إزالتها بكلتا يدي مهتماً؛ وانتبهت من نومي، وإني لفي هذه الإزالة، فقصصت هذه الرؤيا على أحد علماء الأزهر العاملين بعلمهم فقال لي : إنك ستدفع عن هذا الإسلام أموراً ليست منه، وإني لأحمدُ الله تعالى على هذا التوفيق، إلى إحقاق الحق، وإزهاق الباطل بلسان الدين ويراع العلم »اهـ.

لقد صدَّق رؤياه ـ كما حدَّث هو عن نفسه ـ واقعه الذي استزفَّه على مرِّ السنين، فقد ورد في الحديث الذي رواه البخاري ومالك وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه : «لم يبق بعدي من النبوة إلا المبشِّرات، قالوا : وما المبشِّرات ؟ قال: الرؤيا الصالحة»(1).

وروى الشيخان والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة رفعه: «إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب، وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثاً، ورؤيا المسلم جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة....»(2).

وروى الترمذي وأبو داود عن أبي رزين العقيلي رفعه: «رؤيا المؤمن جزء من أربعين جزءاً من النبوة..»(3).

إلا أن منيع مواقفه الحارقة ، وانتهاض عنفوانه الخلاَّب كان بعد بعد بَذر الاحتلال ـ على خُتْر قبل أن يخرج ـ بذور التحزُّب المقيت الملحد، ليكون خلفاً له في تهديم كيان الأمة، فكان من الطبيعي أن يبدأ صدامه معها، منذ بدايات تفريخها، بُعيد الاستقلال، فكان هذا له بتوجيه من الله جلَّ وعلا، قال تعالى : [وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ] {العنكبوت:69}.

وقال تعالى أيضاً: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ] {الأنفال:29}.

وكان حقيقاً أن يبارح مقام الرضى على المنكر، والسكوت على الباطل، وينغمس في عاطفة التحرُّق على ضياع أعلام الدين، التي كتبها الله لخاصَّة أوليائه، ممن تمثلوا قول الله عزَّ وجل : [التَّائِبُونَ العَابِدُونَ الحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآَمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنْكَرِ وَالحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ] {التوبة:112}. 

وما جاء في الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : « من رأى منكم منكراً فلْيغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»، رواه مسلم وأصحاب السنن.

أو حديث حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم :«والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكنَّ الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يُستجاب لكم» رواه الترمذي.

أو حديث أبي بكر رضي الله عنه قال: «يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية، وتضعونها على غير موضعها : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ] {المائدة:105} . وإنا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن الناس إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب» رواه الترمذي وأبو داود.

أو حديث جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم :«أوحى الله إلى ملك من الملائكة أن اقلب مدينة كذا وكذا على أهلها، قال : إن فيها عبدك فلان، لم يعصك طرفة عين، قال: اقلبها عليه وعليهم، فإنَّ وجهه لم يتمعَّر فيَّ ساعةً قطّ» رواه الطبراني في الأوسط (4).

فأنَّى له أن يُهادن وقد كان يُردِّد على مسامعنا هذه النصوص وما يضارعها؟!...

ثم استمرَّت منحنياته في الارتفاع، على اشتداد الصراعات الحزبية، حتى وصلت أوْجها، بُعيد عهد الوحدة مع مصر.

ثم جاءت كارثة حكم عبد الناصر، التي أحرقت الأخضر واليابس، وصدر قانون حل الأحزاب، على أن هذا كان من حيث الظاهر، حيث لم تجد الأحزاب بداً من إلغاء مراكزها ومنتدياتها، وحذف شعاراتها المُعلنة، ومُتَردَّماتها وأعطافها المنتشرة، إلا أنها ـ في خفرات الباطن ـ كان الاحتدام بينها قائماً على أشُدِّه، يتهذرم في أخاديد الظلام.

ثم نشِطَت للظهور من جديد، في عهد الانفصال، الذي تلا انفصام عُرى الوحدة، لكن باحتدام أقل، إذ أُبعد في الفترات اللاحقة كثير من زعماء الفساد، خارج البلاد نتيجة للخلافات، والانقلابات العسكرية المتلاحقة، وإقصاء بعضهم لبعض.

إذ قضى الله عزَّ وجل أن يرتدَّ عبد الناصر عن حكم سورية، ذي الفترة اليسيرة التي لم تزد على ثلاث سنوات، بعد الانقلاب العسكري الذي قام عليه من الجانب السوري، وكان ذا حكم حديدي بغيض، مُحارب للدين، كابت للحريات، مُكمٍّ للأفواه.

كما أقصي أكرم الحوراني ـ الرأس المدبر ـ خارج البلاد، مع لفيف من المجرمين، وتتابع بعد هذا المنفيون، بعد كلِّ انقلاب يحدث.

كان هذا مما صنعه الله ـ جلَّت حكمته ـ لوالدي، فقد كان مثابراً في مُطارحاته الدينية، واحتراقاته الدعوية، فانكفأت على رِفْدها تغزو مساحات خالية، أُفرغت من مضمون رذائلها المُتهالِكة.

ولقد مرت بنا قبلها ليالٍ عصماء عصيبة فريدة، أشهد قَتامها المتربِّد، كأنه الجبال، يتلوَّن لها وجه والدي كمداً واحتراقاً، وانتزاعاً لأمثولة الحقِ، يُساخَط على مأدبة اللئام.

غير أن قصة الإيمان ورتَل الفطرة، كامنَين في أعماق النفوس الشاردة، راغَما ـ عند كثيرين ـ مع صرخات الحق، ونبرات الإياب إلى الله سبحانه، فعادا مُتوقِّديْن ناهدَيْن، وارتدَّ الباطل حسيراً، فاستنجز هذا التدافع دعائمه، بما ذكر الله تعالى في كتابه :[ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ] {البقرة:251}. 

إذ يدفع الباطل باحتراب أهله بعضهم ببعض، بينما يُمهِّد ذلك السبيل أمام أهل الحق، كما يُدفع الباطل بقوة أهل الحق، كيما يستقر الأمر لهم ـ ضمن حركيَّة هذا الدأب ـ في المآل؛ بثوابت نسبية أو مُطلقة، حسب نوعية الصراع.

إلى أن وقع انقلاب الثامن من آذار عام1383هـ ـ 1963م، فخضعت البلاد لحكم الحزب الواحد، وحُجزت الحريَّات، وكُمَّت الأفواه على أجنحة الريب، وأُرعدت تحت هذا الظلام الدامس.

وكان والدي ـ رحمه الله تعالى ـ تحت وطأة هذا كله يزداد حرقة وكمداً على ما آلت إليه الأمور، كما يزداد تألقاً وثقة وقوة على المستوى العام، شعبيا ورسمياً، وتزداد كلمته ثقلاً ونفاذاً في الجماهير، لاسيما بعد أحداث حماة الأولى، وهدم مسجد السلطان عام 1384هـ ـ1964م، كما يزداد رسوخاً في الأوساط الاجتماعية والثقافية، وهيمنة واعتماداً لدى الروافد النشطة من مثل النهضة الإسلامية، فضلاً عن نفاذه لدى تكتُّل الإخوان المسلمين، الذي أصبح يضرب عمقاً لدى الجماهير.

فتلبَّثت له منها أطواد فارعة ممتدة، تنطق بلسانه، وتدين له بالولاء، وتذود عن أفكاره.

وطفق يكتسح الساحة على أنقاض الأحزاب، إذ شرعت تميل بها الكفة نحو الهبوط، وإن لم يظهر هذا التحول وقتها للناس جلياً.

ويمكن القول إنَّ نهاية أجله في هذه الدنيا كان بداية تخطيِّها إلى دائرة الاندثار والانمحاق، إذ خفتَ بريقُ هذه الأحزاب لدى العامة، مُرفقاً تنامي اليقظة الإسلامية الشاملة التي رفعت أعلامها على مشارف العالم الإسلامي، تلكم التي يطلقون عليها اسم «الصحوة» وأربأ بنفسي من تسميتها بذلك؛ لأنَّ أعلام الدين قائمة في سائر الأزمان، بدليل الحديث الشريف:«... والجهادُ ماضٍ، منذ بعثني الله، إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال، لا يبطله جَور جائر ولا عدل عادل...»(5).

لكن أبي وافته المنية قبل أن تتألق عيناه بهذه النهضة.

وكان كثيراً ما يُردِّد مُتمزِّقاً ومُتلهِّفاً : « أتمنى قبل أن أموت أن أرى راية الإسلام خفَّاقة، ولو على قطر واحد من الأقطار الإسلامية».

غير أن حياته التي قضاها كانت إرهاصاً، لانبثاق حركة الجهاد في سورية، وما تبعه من تفجير حركة الجهاد في أفغانستان، ثم البوسنة والهرسك، ثم الشيشان، ثم تنظيمات الجهاد في شتى بقاع العالم الإسلامي.

وما يزال المسلمون يتقدَّمون نحو الهدف النهائي ـ النصر المبين ـ ببركة هذه البدايات الأولى، التي بدأها أبي وأمثاله في البلدان الإسلامية الأخرى، ممن لا يخفى على الناظر جهادهم...، وإنَّ من سار على الدرب وصل بإذن الله تعالى.

* * *

الحلقة السادسة هنا

====-

(1) محمد بن محمد بن سليمان : جمع الفوائد، ج2ص628. 

(2) هو جزء من حديث، المرجع السابق ج2ص626. 

(3 )هو جزء من حديث ، المرجع السابق ،ج2ص626.

(4)جمع الفوائد ج3ص36ـ38. 

(5) أخرجه أبو داود: جامع الأصول ج1ص155.