أبي كما عرفته (6-10)

الصدق والحرارة في الدفاع عن دين الله

ما علمت ولا رأيت خلال عمري رغِباً، وقد رادفت العقد السادس، في عصرنا هذا، رجلاً من أهل العلم، تتأجَّج منه الحرارة الشؤبوب، والتنزل الهتون، والصدق المتلهِّف في الدفاع عن دين الله تعالى، ما رأيته من أبي، نوعاً خصيصاً، عِلْماً أن أمثال ما قد رأيته متواجدون، وأن الأرض لا تترزَّح عنهم.

لكأنه قد ألظَّ، على غَدَق ما قد قال الله تعالى في كتابه: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ] {التوبة:119}.أو قوله سبحانه:[مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا] {الأحزاب:23}.

أو قد أنجب مُجهداً على مسيس هؤلاء الذين ذكر الله عز وجل: [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ(146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ(147) فَآَتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآَخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ(148) ]. {آل عمران}.

أو قد أسْغب على مباعدة ما قد نفاه عنهم بقوله:[مَا كَانَ لِأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] {التوبة:121}. فقد كان ـ رحمه الله تعالى ـ مرابطاً في الذبِّ عن شرع الله، ودحض الأفكار الضالة بلسانه وقلمه.

كان هذا منذ أن تفتَّحت عيناي على رهف نور الحياة، وأنا أشهده تتدفق عليه في بيتنا جموع الشباب، المتحلِّي بالإيمان، والمتوثِّب للعمل، يملؤون رَحْب غرفة استقباله، ويستمعون إلى إرشاداته وتوجيهاته، في فترة أعقبت قشيب عهد الاحتلال، عصيبة ذات رواعد، تتحكَّم فيها الحزبيات وتصارع زعانفُ الأهواء والفتن سلامة الرأي العام، وتَنْقصه من أطرافه؛ كما قال تعالى:[إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ] {الأنعام:159}.

وعن العرباض بن سارية  رضي الله عنه  قال: وعظنا رسول الله  صلى الله عليه وسلم  موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مُودِّع، فأوصنا، قال: أوصيكم بتقوى الله عزَّ وجل، والسمع والطاعة، وإن تأمَّر عليكم عبد، فإنه مَنْ يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوّا عليها بالنواجذ، وإيَّاكم ومُحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة»، رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح(1).

وعن معاوية  رضي الله عنه  قال: قام بينا رسول الله  صلى الله عليه وسلم  فقال: « ألا إنَّ من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين فرقة، وإنَّ هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة »، زاد في رواية:«وإنه سيخرج في أمتي أقوام تَتَجارى بهم الأهواء، كما يتجارى الكلَب بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله»، أخرجه أبو داود(2).

وعن ابن مسعود  رضي الله عنه  قال: إنَّ رسول الله  صلى الله عليه وسلم  قال: «ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعن جنبتي الصرِّاط سوران، فيهما أبواب مفتَّحة ، وعلى الأبواب ستور مُرْخاة ، وعند رأس الصراط داعٍ يقول: استقيموا على الصرَّاط ولا تعوجوا، وفوق ذلك داعٍ يدعو، كلَّما همَّ عبد أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفْتحهُ، فإنك إن تفتحه تَلجْه، ثم فسَّره، فأخبر أن الصراط هو الإسلام، وأن الأبواب المفتَّحة: محارم الله، وأن الستور المُرخاة: حدود الله، والداعي على رأس الصراط هو القرآن، وأن الداعي من فوقه هو واعظ الله في قلب كل مؤمن» أخرجه الإمام أحمد في المسند (3).

هذا والثابتون في الساحة، مع والدي من أهل العلم قليل، بل لم يقف مُناهضاً لانحرافاتهم، أو مؤيِّداً لمواقفه صدقاً وصراحة وجلاء للحق، إلا واحد أو اثنان في بلدنا، والآخرون مابين ساكت أو مُؤيِّد لخساراتهم، أو مُربِّت على أكتاف دعاة الإلحاد بعامة، والاشتراكية بخاصَّة، إذ طغت على الفكَر حينها، بحيث أصبحت مفاهيمها المقيتة، ورذائلها القبيحة تلبس ثوب الإسلام، وتخترف من مَخْرفه، وتتنهَّد كُفريّاتُها على ضلوعه، ويتزيى بزيها أصحاب العمائم، ممن غفلوا حتى عن تسرُّب بوادر الطوفان من تحت أرجلهم، كان هذا قبل أن ينكفئ حسيراً كليلاً، وتتهشم جُمَّته، بعد قراب أربعين عاماً، على يد الزعيم السوفياتي غورباتشوف، في العقد الأول من القرن الخامس عشر الهجري، الثمانينيات الميلادية، وينكشف عواره ودناءته.

لقد سحر هؤلاء العلماء دعاةُ الاشتراكية حينها برفل الوعود، ورشف الورود وأطافوا بأبصارهم، دون أن يصوبوا النظر، إلى هذه المعاول الهدَّامة، وكانت فتنة دهماء ماحقة، تستشرف الرجال إلى أتونها الوبيل، يذكر المرء فيها الحديث الشريف الذي رواه أبو داود عن حذيفة  رضي الله عنه  فيما قاله  صلى الله عليه وسلم  عن بعض الفتن:« فتنة عمياء صمّاء عليها دعاة على أبواب النار...»(4).

غير أنَّ الله عزَّ وجل قد أكرم والدي ـ رحمه الله تعالى ـ، أنْ قد كان الأول في الساحة، يقرع الآذان منذراً بالخطر الداهم، ويُحرِّك الإيمان الكامن، بين الجوانح، ويشعل جذوة الحق بين الشباب، ومن قد كُتب له الإصاخة للحق من غيرهم، يستزلفُهم من على أعواد المنابر، وتحت أروقة الدروس الخاصَّة والعامة، في المساجد، وقاعات النوادي، التي يطلب منه أن يلقي كلماته فيها، كمركز الإخوان المسلمين، وجمعية النهضة الإسلامية، ومن خلال تدريسه لمادة التربية الإسلامية، في الثانويات الحكومية، إذْ كان مكلفاً في التدريس فيها، دأْباً ثاقباً، لا يعرف الكَلال، واعتماداً على الله جل وعلا، وتوكلاً على جنابه العظيم، لا يساوره هَدْأة ولا مَلال؛ استمر هكذا مكافحاً إلى أن لقي ربه.

ثم لم تذهب الليالي كَدْحاً عليَّ، حتى بان لي ـ بعد أن امتدت حياتي بعده عشرات السنين ـ أنه كان من أوائل العلماء المعدودين ـ بل ربما كان الأول فيهم ـ على مَراح العالم الإسلامي، وليس على محيط بلدنا فحسب، استشرف على هذا الموقف، ضد مد الاشتراكية، الذي اكتسح ـ حينها ـ أرجاء ما كان يسمى دول الكتلة الشرقية «دول حلف وارسو» تحت زعامة الاتحاد السوفياتي، كما اكتسح بلداناً كثيرة غيرها، حتى ترشَّح غافِياً، إلى حكومات بعض البلاد العربية كسورية ومصر والعراق وليبيا والجزائر، إبان فترة ما كان يُطلق عليها «الحرب الباردة».

وما أن كَرَب أمرها ـ كما ذكرنا ـ إلى تصدُّع، حتى أدرك الناس، المستولهون لبريقها، أنهم كانوا في التصفيق لها، والتزحلق على متونها، والالتفاف حول زعاماتها، على عماية وضلال.

ولا يُراغَم صِدق الموقف، إلا بما يُساوره، ولا يُدرَك حجم المعاناة التي لقيها إلا بترديات المواقف من حوله، وبتصدُّع هياكل الهشيم رماداً، بعد أن ظُنَّ  أنه أطواد شامخة.

هكذا تجلَّى معنى الصدّيقيَّة فيه في عزيز المواقف، تلكم التي أمر الله تعالى بها في كتابه بقوله الكريم:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ] {التوبة:119}. والتي تجلَّى زفيفها في حديث ابن مسعود  رضي الله عنه  عن النبي  صلى الله عليه وسلم  قال: « إنَّ الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإنَّ الكذب يهدي إلى الفجور، وإنَّ الفجور يهدي إلى النار، وإنَّ الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً» متفق عليه (5).

نسأل الله تعالى التحلِّي بجميل الصدِّق، بمنِّه وكرمه آمين.

* *        *

الحلقة الخامسة هنا

=====

(1) انظر الأربعين حديثاً النووية.

(2) مجمع التفاسير:ج2ص516.

(3) انظر جامع الأصول: ابن الأثير الجزري، ج1ص184ـ185.

(4) ابن الأثير الجزري: جامع الأصول ج10ص416.

(5) رياض الصالحين للنووي: ص44.