أبي كما عرفته (4-10)

مرضه ووفاته 

كان لأحداث عام 1384هـ ـ 1964م التي وقعت في حماة، واعتصم فيها الشهيد مروان حديد ـ رحمه الله تعالى ـ مع إخوانه في جامع السلطان، وهُوجِمَ المسجد من قبل السلطات، وهُدم فوق أهله، وسقطت مئذنته، ثم ما تبع ذلك من أحداث، حيث زُجَّ الكثير من أهل حماة في السجون، وحُكم على بعض الإخوان بالإعدام والسجن المؤبد، وجميعهم من تلامذته ، ثم طلب رئيس البلاد آنذاك أمين الحافظ وساطة والدي لحل المشكلة، وتهدئة الحال، وقد سعى والدي بالإفراج عنهم جميعاً، حين خرج إليه في مقرِّه في دمشق، على رأس وفد، من وجهاء البلد.

وكانت ساعة مباركة، تأثر المجتمعون بموعظة والدي الحكيمة، بما فيهم أمين الحافظ، فأصدر لساعته عفواً عاماً شاملاً، وقرر إعادة بناء المسجد على نفقة الجيش الذي قام بهدمه، وانتهت المشكلة بسلام، في حين لم يمكث الناس في السجون أكثر من شهرين بعد الأحداث.

أقول: كان لهذه الأحداث أثر عظيم، على والدي في سنواته الخمس الأخيرة، إضافة إلى ما عانى من مشكلات، في حربه مع أعداء الدين، حيث بدأ المرض يدب إليه، وأظن أن تشمُّع الكبد بدأ معه في تلك الأحداث، ثم استشرى متدرِّجاً في سائر كبده، حتى قضى عليه، لأن والدي كان يُخبرنا أن الدم كان يتصبب من أمعائه أثناء تلك الفترة، وتكررت هذه الظاهرة نفسها في مرض الموت، بشكل أوضح، حيث كان يقيء الدم بمقادير هائلة، في نوبات حادة، تتخللها فترات هدوء نسبي، ويسارع إخواننا، جزاهم الله خيراً، بالتبرع بالدم له تعويضاً، لكنها لم تمهله إلا بضعة أشهر، بقيت من عمره، رحمه الله تعالى رحمة واسعة.

كان مروان حديد واحداً من تلامذته، الذين أخذوا من توجيهاته الجانب الجهادي، وغلَّبوه على غيره، إضافة إلى تأثر الشهيد مروان بجهاد الإخوان المسلمين في مصر، وقتالهم في فلسطين وحرب القنال.

وقد رأى والدي أن الوقت حينذاك لم يحن بعد للقيام بجهاد مسلَّح ضد السلطات، مع إيمانه بضرورة ذلك حين يكون الوقت مناسباً وتتوفر شروطه الفقهية، فلما قام مروان حديد بالاعتصام في المسجد، مناوئاً للسلطة، رأى والدي أن هذا كان نتيجة توجيهاته ودروسه في المسجد التي تحثُّ بشكل مباشر وغير مباشر على حمل راية الجهاد، في سبيل الله تعالى، لإعلاء كلمة الإسلام التي تكالبت عليها قوى الشر والبغي، على المستوى الداخلي، المتمثِّل في الأحزاب الهدامة، والسلطة الباغية، وعلى المستوى الخارجي، في اجتماع أهل الكفر جميعاً، للقضاء على الإسلام.

لكن حماس الشباب وتعجُّلهم سبق توجيهات والدي الحكيمة، البعيدة النظر، فوقعت الكارثة، وكان والدي مفرط الحساسية، متوقِّد التأثُّر، مرهف العاطفة، بالغاً منها مبلغاً، لم أكد أعهد له نظيراً في مثل هذا إلا على نَدْرة.

فبكى والدي على تلامذته الذين زُجِّ بهم في السجون، أبلغ ما يبكي والد على ولده، وكان يدعو لهم في سجوده أن يفرج الله عنهم، فتمَّ له ذلك ـ والحمد لله تعالى ـ بسرعة تفوق أمثالها، لكن ذلك كان ضريبة دفعها من جسده وصحته.

ولعله بذلك، وبثمرة عمله المبارك المديد، يبلغ عند الله تعالى المنازل الرفيعة العالية، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فضلاً من الله ونعمة، وأسأل الله تعالى له ذلك، وهو البر الرحيم.

فلما اشتدَّ به المرض حُمل إلى بيروت، لإجراء عملية جراحية كبيرة له، لفصل الكبد عن الدورة الدموية، استمرت قراب سبع ساعات، لكن ذلك لم يُفِد، ولبّى داعي الله تعالى، بعد أن أُعيد إلى حماة، قبل موته، بثلاث، فكانت وفاته ليلة التاسع عشر من صفر، بعد العشاء بثلث ساعة تقريباً، الساعة التاسعة وثمان دقائق أو تزيد قليلاً بالتوقيت الزوالي، عام 1389هـ الموافق 5 أيار 1969م.

اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنَّا بعده، وارفع مقامه عندك في أعلى عليين. آمين والحمد لله رب العالمين.

* * *

الحلقة الثالثة هنا