أبي كما عرفته (3-10)

الثالث: اهتماماته بالتربية وتلامذته

لم ينقطع والدي عن دروسه العامة المسائية، في مسجد السلطان، التي كان يقيمها كل ليلة، إلا ليلة الجمعة، ودروسه الخاصَّة الصباحية، التي تبدأ مع شروق الشمس، طيلة حياته، إلا عن سفر أو مرض.

الدرس المسائي

كان الدرس المسائي يبدأ بعد المغرب، ويستمر حتى ما بعد آذان العشاء، بثلث ساعة في المتوسط، يزيد وينقص، حسب ما يقتضيه انهماكه في تقرير المسائل، وفراغه من أسئلة الحاضرين.

وقد وزعه على ليالي الأسبوع: ليلتين للتفسير، وليلتين للفقه، وليلتين للحديث الشريف، أو السيرة، أو كتاب في المواعظ والرقائق.

في التفسير:

وكان في التفسير يضع بين يديه تفسير الخازن، لكنه كان يطالع قبل الحضور للدرس أمهات كتب التفسير، كابن جرير الطبري، والفخر الرازي، والقرطبي، وروح المعاني للآلوسي، وابن كثير، وأحياناً تفسير آيات الأحكام، من مقررات كلية الشريعة الأزهرية في زمنه، إن كان الأمر يتعلق بآيات الأحكام.

وهكذا كان درسه المسائي موسوعة علمية، تضرب في شتى شؤون المعرفة، يتعرض من خلاله لبيان آفاق الإسلام الواسعة، وامتشاق أدلته في ميادين الحق، داحضة عن شبهات الخصوم، مسترسلة في إبطالها، منوَّعة الطعوم والثمرات، حسب كل موقف، ومطابقة للشؤون حسب كل منزل.

وهكذا أثمرت توجهاته واختياراته في جَذْب كثير، إلى رحاب الدين، وانخراط الشباب خاصَّة، في سلك الدعوة الإسلامية، والمنافَحة عن دين الله تعالى، أمام الأحزاب والكتل المعاندة، التي تَحْطِم في جسد الأمة.

بعد طول الدأب والمثابرة

أذكر أن درسه في بدايات أمره كان غالب حاضريه من الكهول وكبار السنّ، ثم انقلبت الآية، بعد طول الدأب والمثابرة، فأصبحت أكثريتهم الساحقة من الشباب، ومن ذوي الثقافة المتخصِّصة، يُحضرون كتبهم بين أيديهم، ويأخذون العلم عنه أخذاً مشيخياً، كالذي عرفه المسلمون، على مرِّ الأعصار، وساهم في حفظ علوم الدين، وازدهارها وتجدُّدها إلى أيامنا هذه، بل وستبقى كذلك بإذن الله مستمرة، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق، وهكذا أصبح هذا الدرس العام خاصاً عند أغلب تلامذته، يستفيدون منه استفادة منهجية، بل مدرسية إن صح التعبير.

وفي الفقه

أما في الفقه فكان يدرِّس كتاب: «رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار»، الجزء الأول في العبادات لفترة طويلة، ثم انتقل بعد انتهائه منه، لتدريس: «الهدية العلائية»، وهي كتاب مختصر على مذهب الإمام أبي حنيفة، وكان يعلق عليها، موضحاً ومذيلاً ومفصلاً، بحيث أصبحت تعليقاته كتاباً مضافاً إليها، يستفيد منه الطالبون.

وليالي الحديث والسيرة

وفي ليالي الحديث والسيرة، فقد قرأ كثيراً من الكتب؛ أذكر منها «الترغيب والترهيب» للحافظ المنذري، و«السيرة الدحلانية» للشيخ: أحمد زيني دحلان.

ثم قرأ في أخريات أيامه: «مختصر التذكرة القرطبية» للشعراني، وكان لا يبدأ في كتاب حتى ينتهي من سابقه، بحيث إن الدرس يكون مخصصاً للحديث فقط أو غيره تبعاً للكتاب المقروء.

الدرس الصباحي

أما درسه الصباحي في المسجد الجديد، فقد كان يقيمه في غرفته التابعة للمسجد، التي عاش بها حياته قبل الزواج، وكان درساً خاصاً حافلاً ما عهدت مثله طيلة حياتي الدراسية، لا في جامعة، ولا غيرها، مهما حضرت من محافل علمية.

كان عماد الدرس مادة الفقه، وربما قرأ بعده في الجلسة نفسها كتاباً في النحو أو التصوف، وكان درسه هذا لا ينقطع صيفاً ولا شتاءً على مدار السنة.

في الشتاء

إلا أنه في الشتاء يكون قصيراً، حيث يخرج منه إلى عمله في ثانوية ابن رشد من الصباح الباكر، فالفرصة غير مناسبة إلا لهذا الوقت القصير، السابق للتدريس المدرسي.

في الصيف

أما في الصيف، أي بعد انتهائه من امتحانات الطلاب في المدارس الحكومية فقد كان ربما يستمر ثلاث ساعات، أو أكثر، ينال فيه مجده، في تناول المسائل الفقهية، مع أدلتها مُمحِّصاً ومناقشاً ومُعلقاً ومُذَلِّلاً، ويتكاثر الراغبون من تلامذته، المستفيدين منه علمياً ودعوياً.

يعالج قضايا الساعة:

وربما تعرض له مشكلة من مشكلات الساعة، حول قضايا المسلمين، فيترك الدرس ملتفتاً لها، ومهتماً بها، ومنهمكاً أشد ما يكون الانهماك، حتى يخرج بحل، أو طريقة عمل، أو فيض قناعة، يفيض به على الحاضرين، بعد مناقشة تطولُ أو تقصر، حسب حجم المشكلة. 

وقد أفاد الخُلَّص من تلامذته كثيراً من هذه الدروس، وكانت لهم شحناً مكيناً، وزاداً عتيداً، وجدوه في مستقبل أيامهم.

الحلقة الثانية هنا