أبي كما عرفته (2-10)

مرحلة الإنتاج المستمر والعطاء المتجدد

كانت المدة التي قضاها بعد رجوعه من مصر حتى تُوفي الفترة الذهبية في حياته، فقد امتازت بمظاهر ثلاثة، كان لها الأثر الكبير في التاريخ المعاصر.

أولها: ثباته في مواجهة ظاهرة الإلحاد الذي أرثه المستعمر قبل رحيله.

وثانيها: كتاباته ومؤلفاته التي كانت تظهر حسب الظروف المستدعية.

وثالثها: تكوينه جيلاً جديدة متميِّزاً عميق الجذور إسلامياً في وعيه وإدراكاته وتطلعاته.

ونشرح ذلك بشيء من التفصيل:

الأول: ثباته في مواجهة مظاهر الإلحاد وجهاده الطويل في ذلك:

لم يخرج المستعمر من البلاد حتى خلف وراءه حفنة من الملحدين والأشقياء تنعق بما ينعق به، وتجاهر بالعداء للإسلام، ضمن أفكار إلحادية منوعة، فكان من أشدِّهم على الإسلام الاشتراكيون، والبعثيون، والشيوعيون، والقوميون السوريون، فضلاً عن الأحزاب والفئات التي تأثرت بالمستعمر في ترك الإسلام منهجاً ودولة، من غير أن تنصب نفسها لعدائه، قصداً أو بغير قصد، كالوطنيين الذين استلموا البلاد فور خروج المستعمر، وأضرابهم، كحزب الشعب، الذي كان مركزه مدينة حلب في شمال البلاد.

وهكذا تمزقت الأمة شيعاً وأحزاباً بعد خروج المستعمر، حتى كان والدي يعدُّ لنا منهم أحد عشر حزباً سياسياً، تفتك في جسد الأمة، التي كانت محافظة على دينها وسلامة عقيدتها.

ولم يكن يقف في وجه هؤلاء جميعاً إلا جماعة الإخوان المسلمين، بمثابة حزب فعَّال، له أرضية في قلوب الجماهير.

فانبرى والدي يتصدَّى لأمواج الإلحاد هذه من على منبر جامع السلطان، وفي دروسه الخاصَّة والعامة، وكانت البؤرة المستحكمة التي اصطدم بها، وعاش يناهضها سنين طوالاً، حتى خسرت أرضيتها ووجودها النشط، بعد حوالي عشرين سنة من كفاحه، هي الحزب الاشتراكي، الذي تولى زعامته أكرم الحوراني.

وقد بدأ هذا الحزب دعوته بما سماه الدفاع عن حقوق العمال والفلاحين، فاعترَّ بدعوته البرَّاقة الكَذوب كثير من الناس، على مستوى محافظة حماة مدينة وريفاً، وكان انجراف الريف معه هو الطامة العاصفة، في إجهاض حركة أهل الخير، والوقوف مع أعداء الله تعالى.

ولا أزال أذكر السنين العجاف التي مرَّت على حماة، حين كنت في بداية نشأتي، أثناء طغيان المد الاشتراكي، وكان والدي رأس الحربة يناهضهم مستميتاً مقارعاً لهم، حتى هددوه بالقتل، وحاول أعداء الله نقله إلى مدينة درعا، عن طريق وزير المعارف آنذاك، حتى تخلو الساحة لهم، لكن الله تعالى ثبته، وأبقاه بأعجوبة، حتى يتم أمره في نصر دينه على يديه. 

ويطول الحديث بنا في ذكر تفاصيل معاركه المحتدمة مع الاشتراكيين، وقد بقي في الساحة وحده، إلا واحداً أو اثنين من إخوانه العلماء.

أما الآخرون من أصحاب العلم والوجاهة الدينية، فكانوا بين ساكت ومؤيِّد لهم، حتى اغترَّ الناس بمواقفهم الذميمة، وكانت فتنة عظيمة اشتدَّت شكيمتها من سحابة الستينيات الهجرية ـ الأربعينيات الميلادية، حتى أواخر السبعينيات الهجرية ـ الخمسينيات الميلادية، وبالتحديد حتى جاء عهد الوحدة مع مصر، وطبق نظام توزيع الأراضي فعلاً على الفلاحين، وأممت المصانع.

فبدأ الناس يفيقون على رذائل هذه الأنظمة البعيدة عن دين الله تعالى، بل اكتووا بنارها، وتلظوا بسعيرها.

فعاد والدي يكتسح الساحة، من غير استئذان، بفضل الله سبحانه وتعالى عليه، إخلاصاً وثباتاً، وحرارة صدق، وتوهُّج إيمان، وحنان عاطفة على المسلمين.

وكان قد تكوَّن له جيل من التلامذة، المواظبين الأوفياء، الذين وقفوا إلى جانبه، في شتى تقلباته المناهضة، مع أعداء الله تعالى، فلم يلق وجه ربه إلا وقد فُصِّصت الاشتراكية من جذورها وعُرِّيت، وتشتَّت أهلها وتمزَّقوا في كل وجه، وكاد بعضهم لبعض، حتى اقتتلوا من أجل الزعامة والأهواء.

وإن بقي منهم بقية، من أساطينهم، ليس لها أرضية شعبية، ولا مكانة تُذكر، ممن شاخت قلوبهم على عوج الاشتراكية، ودَخَنها الخبيث، فهؤلاء لا ينفع فيهم نصحٌ في الغالب، ولن تَطْهر الأرض منهم إلا بعارض الموت.

الثاني: كتاباته ومؤلفاته

بدأ والدي الكتابة الصحفية منذ أن كان في مصر، وكان الداعي له في كل كتاباته الرد على ما يرى من الانحرافات عن شرع الله جلَّ وعلا، والاستقامة على صراط الله القويم، ونقض ما يَتَلَجْلَج من شُؤم الأباطيل التي تظهر على أيدي الزائغين.

وكان يروي لنا رؤيا طريفة في مطلع شبابه، تزخم ما قد فطره الله عليه من الاستقامة على شرع الله تعالى، ومقاومة الباطل:

رأى نفسه في المنام أنه عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو يزيل منهمكاً أشياء غير لائقة، وجدها عند المقام الشريف، فقصَّ رؤياه على أحد مشايخه فقال له: إنك ستذبُّ عن هذا الإسلام أشياء ليست منه.

وبالفعل كان هذا دأبه ـ رحمه الله تعالى ـ في سائر حياته، حتى أرهق نفسه الإرهاق الشديد، ومعلوم أن الأباطيل والجهالات والأسواء التي تُنشر في الصحف والمجلات أو التي ينعق بها دعاة على أبواب جهنم هي من الكثرة والتتابع بحيث يضيق عنها جمع غفير من العلماء، إلا أن يكتب الله لهم تأييده وعونه، فضلاً عن أن يقوم بها شخص بمفرده.

لكن فضل الله تعالى على بعض عباده، ممن يختارهم لنصرة دينه على مر الأزمان فوق الحسابات والتقديرات، وكثيراً ما كان يروي لنا في هذا المقام الحديث الشريف: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين».

رحمة الإسلام للنساء

وكان أول كتاب له ظهر، من غير المقالات المتناثرة في الصحف والمجلات هو: «رحمة الإسلام للنساء»، وهو كتيب من القطع الصغير؛ بيَّن فيه فضل الإسلام على المرأة، وما حَبَاها الله تعالى به من الإكرام والحفظ، وذلك في خضمِّ دعوة المستغربين لما أطلقوا عليه «تحرير المرأة»، الذي هو في حقيقته استعباد المرأة وابتذالها سلعة رخيصة.

وأذكر أنه بُعيد تأليفه لهذا الكتاب كنت سائراً معه، في عصر أحد الأيام، أمام فندق أبي الفداء،في طريقنا إلى ساحة العاصي في حماة، فجاءه شاب، تبدو عليه آثار الهداية الحديثة، فسلَّم عليه بحرارة، وقبَّل يده، ووقف منه موقف الطالب المستمع السَّكين، وكلاهما لا يعرف الآخر من قبل، وبعد حوار والدي معه، ظهر أنه من سهوب الجزيرة في شرق سورية، وأنه قرأ كتاب والدي:«رحمة الإسلام للنساء» فتأثر به، وربما كان هذا بداية هدايته، كان هذا في أواسط السبعينيات الهجرية.

حكم الإسلام في الغناء

ثم تتابعت مؤلفات والدي بعد ذلك فكانت رسالته:«حكم الإسلام في الغناء» التي ظهرت في كتيب صغير أيضاً، وذلك رداً على ما نشر في مجلة النواعير الحموية، من إباحة للغناء الآثم، فبيَّن والدي فيها تفصيلاً ما يحلُّ منه وما يحرُم وما يكره مع عرض الأدلة بشكل وجيز.

القول في المسكرات

وألف رسالة في حكم المسكرات سماه:«القول في المسكرات» رداً على ما نُشر في مجلة العربي الكويتية، من افتئات على الحنفية، في هذا الشأن، وادِّعاء بأنهم أباحوا بعض أنواع المسكر، وحاشاهم، فبيَّن فيها أنَّ الأئمة المجتهدين متفقون على تحريم كل مسكر.

حكم اللحية في الإسلام

وألف رسالة في:«حكم اللحية في الإسلام»، وقد كان لهذه الرسالة الفضل الكبير، ولا يزال يتجدَّد، في تحويل أجيال، تلتزم هذه السنة الشريفة، بعد أن عمَّ حلق اللحية، أيام وجود الكفار المستعمرين في بلادنا، وبعد خروجهم، حتى فقدنا المظهر الإسلامي الذي ترتاح له النفس، ويأنس له القلب.

في كثير من البلدان:

فانتشرت سنة اللحية في تلامذته، ثم عمَّ خير رسالته بفضل الله تعالى، على كثير من البلدان، فلقد رأيت عياناً تأثُّر الناس بها في مصر، ولقد طبعت أثناء وجودي هناك، وبعده، مرات وكرات، في القاهرة والإسكندرية، حتى أضحت اللحية شعاراً واضحاً للملتزمين في مصر، بعد أن كانت قد افتقدت حتى عند كبار العلماء الأزهريين.

إلى رحاب الأزهر وعند الإسلاميين:

فعادت من جديد إلى رحاب الأزهر، كما رأيت مثل هذا التأثير لرسالته:«حكم الإسلام في الغناء»، عند الإسلاميين المصريين، فقد طُبعت مراراً أيضاً، في موجة العودة إلى الدين، التي رأينا بركتها هذه الأيام، في سائر بقاع العالم الإسلامي.

تحريم مصافحة المرأة الأجنبية

وألف رسالة في تحريم مصافحة المرأة الأجنبية، سماها:«حكم الإسلام في مصافحة المرأة الأجنبية»، رداً على ما نُشر من قبل بعض الذين ينتسبون إلى حزب التحرير، أحل فيه مصافحة المرأة، ولو لم تكن ذات محرم.

حكم نكاح المتعة

كما ألف رسالة بين فيها:«حكم نكاح المتعة في الإسلام»، رداً على ما نشره بعض الشيعة الاثنى عشرية في لبنان، بيَّن فيها رجوع ابن عباس عن فتواه بإباحتها.

حكم التنويرات في المساجد

كما ألف رسالة عن بدعة زيادة التنويرات في المساجد ليالي رمضان وغيرها، بغير حق، قال فيها: «ألف الناس هذا العمل، وعليه شبَّ الصغير، وشاب الكبير، حتى حسب أمراً مشروعاً، وهذا هو وجه الخطر في البدعة الملصقة بالإسلام.

وإن فقهاء الملة في القديم والحديث أولوه اهتمامهم، وأنكروه على فاعليه، من حيث إنه بدعة سيئة، فيها متابعة للمجوس المولعين بالنار الموقدة، والنور الساطع منها»( ).

آدم عليه الصلاة والسلام لم يؤمر باطناً بالأكل من الشجرة

وقد نشأ جدل عند بعض الصوفية، أو أقوال منافية للحق، في مسألة أكل آدم عليه الصلاة والسلام من الشجرة، فألف رسالة سماها:«آدم عليه الصلاة والسلام لم يؤمر باطناً بالأكل من الشجرة»، وهي رسالة نفيسة، قد لا يطلع على دقائقها إلا المتخصصون.

حسماً للفوضى الدينية

وألف في أخريات أيامه رسالة: «لزوم اتباع مذاهب الأئمة حسماً للفوضى الدينية»، وكان قد طلبها منه فضيلة الشيخ أحمد البيانوني ـ رحمه الله تعالى ـ، وضمَّنها كتابه:«الاجتهاد والمجتهدون» رداً على الذين يتحللون من مذاهب الأئمة، على غير دراية، بمسالك الأدلة، ولا فهم بمرامي الاستنباط، ولا التمسوا طريق أهل العلم، حتى يبلغوا درجة الإنصاف، قد غمرتهم مستنقعات الجهل، وتنطحوا لمنازل النبلاء والفضلاء، فترددوا في حمأة الخسار والبوار.

وقد طُبعت هذه الرسالة مستقلة عن الكتاب بعد وفاة والدي.

ثم جُمعتْ معظم رسائله، وطبعت في كتاب مستقل، من القطع المتوسط، تحت عنوان:«مجموعة رسائل العلامة المجاهد الشيخ محمد الحامد».

نظرات في كتاب اشتراكية الإسلام

ومن مؤلفات والدي أيضاً كتاب:«نظرات في كتاب اشتراكية الإسلام» وهو ردٌّ نفيس قويٌّ على كتاب «اشتراكية الإٍسلام» للدكتور مصطفى السباعي.

كان صدور كتاب السباعي في عهد الوحدة بين مصر وسورية، حين كان عبد الناصر يطبق الاشتراكية في سورية، وفريق من الناس مأخوذ بخداعها، فأراد السباعي إلباسها ثوب الإسلام، وشتان بين الثرى والثريا، والكفر والإيمان، ولكنه أُخذ بالموجة، التي سَرَتْ حينها، فانبرى العلماء للرد عليه، لكن أقوى رد، وضع الحق في نصابه، هو رد والدي عليه في كتابه:«نظرات».

كان لهذا الرد الأثر البالغ عند السباعي، ربما ضمن تأثيرات أخرى، تواردت حينها واعتراضات؛ فتولدت لديه الرغبة أن يضع كتاباً، يسميه:«أضواء على اشتراكية الإسلام».

وكان أبي يحدثنا بهذا تأييداً؛ إذ قد أفادنا به بعض زملائنا، ممن قد سمعه منه مشافهة، غير أن طيف المنون عاجله، فحال بينه وبين تأليفه.

كان السباعي صديقاً حميماً لوالدي، بيد أن حميم الصداقة لا ينأى عن وضع الحق في نصابه، لاسيما وقد تحلّى البيان برد علمي، يلتزم أدب المناظرة الرفيع، يصدر من فيض عالم رباني.

وخير ما يسعد في هذا المقام أن أقتطف بعض مقاطع، من مقدمة كتاب النظرات، فقد قال في شأن الدكتور السباعي، بعد توطئته لذلك: «... فإنه أخي وصديقي، أحبه ويحبني، وكلٌّ منا لدى صاحبه مكين أمين، والناس يعلمون هذا منا، وإني أعرف ما يتحلى به من خلق كريم، وسجايا حميدة، هذا إلى ما في نفسه من نية صافية، وهمة عالية، وعلم غزير جم، وأفق واسع في التفكير، فهو نابغة من كبار النوابغ...».

ثم قال:« النقد العلمي النزيه شأن السلف الصالح، من صحابة وتابعين وتابعيهم، فقد كانوا يختلفون في الفرعيات العلمية، في حب وإخلاص، وإنا ـ إن شاء الله ـ على هذا النحو سائرون.

وقد علم ـ وفقه الله ـ بنقدي لبعض آرائه، فكتب إليَّ يطلب مني أن ينشرها في مجلته (حضارة الإسلام) وهذا إنصاف واضح، ورحابة صدر ظاهرة، وإنه في كتابه:«اشتراكية الإسلام» أشاد بالحرية العلمية، وأفاض فيها إفاضة واسعة، إذن فليس هذا الموقف الشريف كثيراً عليه...

هذا وإني آخذ على فضيلة الدكتور السباعي، قبل كل شيء، تسمية كتابه باسم: «اشتراكية الإسلام» وإن كان قد مهد لها تمهيداً، وبرر لها بما يسلك في نفس قارئه، لكنه ـ وفقه الله ـ لو فطن إلى أن العناصر اليسارية، التي يدافعها أهل العلم الديني، وقاية لدين الله، وحماية له من تهديماتها، وبين الفريقين معركة فكرية مستعرة الأوار، وقد طارت هذه العناصر فرحاً بهذه التسمية، تستغل بها عقول الدهماء، التي لا تدرك هدفه من اختياره لهذا الاسم، أقول: لو فطن لهذا لكان له نظر في هذه التسمية، ولاختار لكتابه اسماً آخر، يحقق له مراده في احتراز من استغلال المضلِّلين( )».

هذا وقد استمرت صداقتهما ملتحمة، حتى رحلا من هذه الدنيا.

ردود على أباطيل

أما أوسع مؤلفات والدي فهو كتاب:«ردود على أباطيل»، وهو عبارة عن ردود والدي التي نشرها في الصحف والمجلات، وأجوبته على الأسئلة الفقهية، وبياناته وتوضيحاته لبعض المشكلات والمواقف.

فكَّر والدي في جمعه في أوائل الثمانينيات الهجرية ـ الستينيات الميلادية، وقد طبع القسم الأول منه في حياته عام 1385هـ ـ1965م، وطبع القسم الثاني بعد وفاته عام 1397هـ ـ 1977م، ثم طبع القسم الثالث عام 1424هـ ـ 2003م.

وفي العام التالي لهذا صدر آخر كتاب له، عنوانه:«كلمات وأحاديث الجمعة» تضَّمن بقية مقالاته وبحوثه.

الحلقة الأولى هنا