أبي كما عرفته (1-10)

المقدمة

الحمدُ لله رب العالمين، أسعد قلوب المتقين بنفحات رَوْحه ورحمته، وأفرغ عليها لطائف أنسه وحكمته: أن توارثوا هذا الدين كابراً عن كابر، سلوكاً وتطبيقاً، بعد أن فقهوه نظراً وفكراً، فنبغ فيهم أساطين علم وريادة، وأعلام فضل وعبادة، والصلاة والسلام على نبيه الأمين منبع هذا الفيض الهتون، والرَّسَل المصون، وعلى آله وصحبه الغُرِّ الميامين، الصادقين المحسنين، وبعد:

ففي صيف عام 1409هـ الموافق 1989، تقدَّم لي أخي الشيخ: محمد الأمين، حين كنت قادماً للاعتمار، زائراً له في بيته في جدة، بغادية نبذة، أكتبها عن أبي فضيلة الشيخ محمد الحامد، ـ رحمه الله تعالى ـ.

إذ أنّ أحد المهتمين بالتراجم، لديه مشروع جمع معلومات عن أعلام القرن الرابع عشر الهجري، ليترجم لهم في كتاب يخصه بذلك، وقد عطف يستميحه أن يُقدِّم له ما يراه مناسباً لهذه الترجمة.

فوجدتني مندفعاً أن أسطر ملخصاً لنشأته وحياته ومرضه ووفاته، إلا أن هذا حفزني أن أشير، بل أوكِّد على مواقف ومساجلات غابت عمَّن ترجم له من قبل، وإن متَعت بها الإصداراتُ التي تلت، نقلاً عني، قبل أن يصدر كتابي هذا.

وهكذا تمادى بي الشأن أن أرقم فوق ما طلب مني؛ بل أسَهِّد فيه على غير ظنون الماتحين، ثم لم يكن قد استشرى طلب السائل بسوى اقتراء يسير، يحبَّر ضمن كتاب يجمع الكثير من الرجالات والأعلام.

ولما سلَّمت الترجمة لأخي حفظه الله تعالى أضاف إليها بعض عبارات، تتعلق بمراحل مرض أبينا الأخير، كنت قد أغضيت عنها اختصاراً.

ثم مرت السنون، ووجدتني أيضاً مندفعاً نحو نشر هذه الترجمة، إذ أنها ـ على اختصارها ـ قد مازت أموراً، وارتقت على سلَّم نادٍّ عن الترجمات التي سبقتها.

لاسيما بعض إضافات حَبِرتْ خفراتُها، قد نفثتها قواعدُ روحي، وتملَّقت لها أحشائي، مما يعانيه القريب الخَدين للمترجم له، بله أن يكون ولده اللصيق بتصرفاته ومكابداته، ومشاعره ومرتفقاته، ومنازعه ومسترَقاته، إبان أعلى مراحل حياته، توقداً وإنتاجاً، واطراداً في منازلة أعداء الدين، على مدى ربع قرن.

فترجمتي عنه لا تحمل المعنى الموضوعي للكلمة، كالذي تعارف عليه المترجمون، في التبويب والتنزيل، واستقاء المراجع، واعتماد النقول والوثائق، بقدر ما هي ترجمة ذاتية، راصدة ومُصوِّرة، لما انطبع في مَراحات قلبي، وما ترسَّمته جوانحي، وما عَزَفت عليه تباريح روحي، واعتملته مُدخلات نفسي، ليشهد القارئ لوناً مختلفاً، وطعماً جديداً، وخيوطاً ربما تحتدم في مساحات، قد ينشدها المهتمُّ، ويصبو إلى حَرْفها المجترِح لفريد الكلم.

ثم اخترت عنوانه: «أبي كما عرفته» ليكون تعبيراً عما أشرت إليه.

إني أريد أن أبذل هذه الورقات، بعيداً عن إطناب الباحثين، أو اختزال المختزلين، غير العابئين، أصور فيه أحاسيسي وتصوراتي ونبضاتي، فيما أوفيت عليه، خلال دروب الحياة، إنصافاً لمواقف ومنازل، ربما لم يدركها ـ على سبيل الخصوص ـ أحد غيري.

على أني لا أدَّعي أني قد استوفيت فيه كل ما أدركته من أبي، مما استعفى على الأخَذات، وتساورته السافيات، غبَر على ذاكرتي، بعد مر الأعوام المديدة، بسوى ما أعانني الله تعالى عليه، من هذا القدر اليسير.

والله جل وعلا أسأل أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، نافعاً لمن يبتغي ترسُّم الخطا الصالحة، الناجمة للأفذاذ، رافداً لمسيرة أعلام المسلمين، عبر التاريخ، مما توارثوه خلفاً عن سلف، إلى حيث تتهادى عَرَصات الرَّوْح والريحان، من خيار هذه الأمة، وهو حسبنا وعليه التكلان، نعم المولى ونعم النصير، وقد قال تعالى:[وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ] {الأنبياء:105}. كما قال عزَّ وجل:[ وَاللهُ وَلِيُّ المُتَّقِينَ] {الجاثية:19}. رزقنا الله تعالى حسن تبيان سَنَنهم، وأن نسير على هذا النعت الكريم الذي نَحَلهم إياه في كتابه، آمين.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

الثلاثاء /9/من ذي الحجة /1428هـ.

18/12/2007

محمود الحامد

نشأته

إنَّ الحديث عن والدي ـ رحمه الله تعالى ـ شجي مؤرق تتقاذفه أمواج العاطفة، وتُذرفه سحائب الرحمات.

كان مولده بين العيدين: الفطر والأضحى عام 1328هـ ـ1910م.

لأب تقي صالح عالم أوتي حظاً من العلم والطريق، لكنه على سبحات الطريق أحنى وفي أعواده أمسك، ثم ما لبث أن مرض وتوفي في جوائح البؤس والمرض التي عمَّت بلاد الشام إبان الحرب العالمية الأولى، ففقد والدي أعزَّ مستمسك في نعومة صباه.

ثم توفيت بعد ذلك أمه بفترة يسيرة، فعاش يتيم الأبوين مع أخيه الأصغر عبد الغني، يرعاهما أخوهما الأكبر بدر الدين الذي كان في الخامسة عشرة عند وفاة أبويهم، فكان لهما نِعْمَ الأب والمربي والمهذِّب، وما زال والدي يذكر فضل أخيه بدر الدين عليه حتى فارق الحياة.

قاسى والدي في مبدأ حياته بؤس اليتم وشظَف العيش الشديد، وقد حدثنا من صور معاناته في صباه الشيء الكثير، مما تذرف له الدموع، وتتفطر من ذكره القلوب.

نشأ في مبدإ أمره خياطاً، يسترق من عمله لقمة العيش، ثم دخل دار العلوم الشرعية فكانت التحول الخطير في حياته،حيث سلك سبيل العلم الشرعي، وكانت تلك المدرسة مناراً حافلاً تخرج من على مقاعدها كثير من العلماء الذين نفع الله تعالى بهم الأمة، ثم تخرج فيها ليدخل المدرسة الخسروية في حلب، وكانت ـ كما وصف والدي ـ تعدل الأزهر في تبحُّر علومها التي كانت تُنال في أربع سنين، وإن تميز الأزهر عنها في الأسلوب والتنسيق والعراقة والتكوين العلمي، الذي يعتمد الجدل، وهكذا تخرج فيها، وكان معدوداً في الأوائل بين رفاقه والمقدّمين عند أساتذته، حيث كانت سنُّه تقارب السادسة والعشرين، وقد تعرف حينها على الشيخ الكبير والمربي الجليل والمرشد الفذ أبي النصر سليم خلف النقشبندي الحمصي قدس الله سره ونفعنا بحبه، فأخذ عنه الطريقة النقشبندية، وسلك على يديه، وتحوَّلت حاله إلى الذكر وموافاة أهل الله تعالى، على موائدهم، وأرخى عنانه في مراتعهم، متأثراً بأحوال الطريق، منجذباً في رياض القوم، حتى انقطع عن متابعة العلم سنة كاملة، وكانت سنه إذ ذاك السابعة والعشرين، قرأ خلالها الرسالة القشيرية، ونبذة جمَّة مما سطره أهل الطريق، ثم عاد بعدها إلى هدوئه الطبيعي ليتابع العلم من مظانه، ثم التحق بالأزهر في سنة التاسعة والعشرين فمكث به أربع سنين، ونال منه الشهادة العالمية في الشريعة، ثم سنتين في تخصص القضاء، فكان جماع مكثه في مصر ست سنين، تعرف في أربعها الأخيرة على الإمام الشهيد حسن البنا ـ رحمه الله تعالى ـ وعلى جماعة الإخوان المسلمين، فأصبح فرداً منهم وصديقاً حميماً لمرشدهم حسن البنا، وله معه مساجلات كثيرة يضيق عن ذكرها المجال، وقد كتب والدي عنه في كتابه: «ردود على أباطيل» فمن شاء فليعد إليه.

عاد والدي من مصر في سنِّ الرابعة والثلاثين، وتزوج بعدها بفترة يسيرة أي في عام 1363هـ ـ 1944م، ليستلم مهامَّ التدريس والخطابة، في جامع السلطان في حماة بشكل دائم، وكان قبلها يتردَّد عليه كلما عاد من مصر في الإجازات، كما استلم بعد رجوعه تدريس مادة التربية الإسلامية في التجهيز الأولى، كما كانت تسمَّى، ثم عدل اسمها إلى «ثانوية ابن رشد» فمكث فيها مدرساً تخرجت على يديه الأجيال متتابعة حتى تقاعد عن التدريس الحكومي قبيل وفاته بأقل من سنة.

يتبع