في وداع العالم المجاهد نافع العلواني ( كلمات في رثائه) (5)

كتب تلميذه ومحبُّه عمر بن صلاح الدين أبو ربيع (أبو صقر) على صفحته في سلسلة تحت عنوان:" مقتطفات من حياة الشيخ نافع العلواني" أنشرها مصححة منقحة تباعًا:

إنَّ الذي تأخذه أحبُّ إليَّ من الذي تتركه 

قبل سنوات كنت أعمل في مجال التوزيع ، وكنت حينها معتمداً تماماً على نفسي فقط ، وفي تلك الفترة مررتُ بضائقةٍ ماليَّةٍ وتعطّلت سيارتي، وكان يجب عليّ دفع ثمن محرِّك السيارة وأجرة التصليح سلفاً 

وقد كلفني ذلك وقتها كل ما أملك من مال .. 

خرجتُ من محل تصليح السيارات، وكان عليَّ إحضار مستلزمات أساسية للمنزل والعائلة .. فشعرت حينها بالعجز والضّيق لأنني ما كنت أملك قرشاً واحداً .. لم أدرِ ما أفعل وأنا لم أطلب شيئاً من أحدٍ في حياتي كلها .. وفجأةً إذا بالهاتف يرن وكان المتصل حينها الشيخ نافع عليه رحمة الله ورضوانه ( وقد كان من النادر أن يتصل بأحد) . 

فسألني : " أين أنت ؟؟" فأجبته: إني على الشارع الرئيسي، فقال : تعال إليّ .. فقلت له : حاضر شيخي .. 

ذهبت إليه وجلست عنده لفترة، وعندما أردت الذهاب سألني : " هل ينقصك شيء؟" 

فأجبته : أبداً يا شيخ، أموري تمام ولله الحمد.. شعرت بالخجل حينها من أن أخبره عن وضعي .. فنظر إليّ وابتسم تلك الابتسامة الجميلة، ثم قال : " والله ما صدقت " دخل إلى غرفة أخرى في منزله، وقال لي انتظرني ، ثم خرج بعدها وفي يده مبلغ مالي وناولني إيّاه وقال: خذ وافعل به ما شئت ، ثم قال :"والله إنَّ الذي تأخذه أحبُّ إليَّ من الذي تتركه ". 

خرجتُ من عنده مودِّعاً إياه، وعندما عددتُ المبلغ المالي، وجدته ألف دولار، فاتصلت به مباشرة، وقلت له : " شيخي هذا مبلغ كبير ماذا أفعل به ؟ " فأجابني : " هو لك فاصنع به ما شئت " .. 

رحمك الله شيخنا وكبيرنا وعالمنا .. كان يرى ويشعر ما بداخلنا وكأنه كان ملهماً بذلك ..

ما رأيتُ في حياتي ولا صاحبتُ من هو أطيب منه خُلُقاً ولا من هو أكثر منه كرماً. 

كرم وسخاء: 

أحد الإخوة تعسَّرت أموره كثيرًا وهو يُجهّز لزواجه، ولم يساعده إلا القليل من أهله، وذات يوم ذهبت كعادتي بين الأذانين الأول والثاني لصلاة الفجر إلى بيت الشيخ نافع، لكي آخذه للمسجد، وذكرت له قصه هذا الأخ. والشيخ طبعا يعرفه معرفة قوية، وقبل أن نصل إلى المسجد قال الشيخ : ائتني به معك على صلاة الظهر، وفي موعد صلاة الظهر أخذت هذا الأخ، وذهبنا لبيت الشيخ، وعندما خرج الشيخ وجلس في السيارة ، أخرج من جيبه مبلغا وأعطاني إياه وقال لي : اعدد هذا المبلغ يا عمر ، فعددته وإذا به ألف دينار أردني ، فأخذها الشيخ وأعطاها للشاب .

قال الشاب : ما هذا ؟ ( والأخ لا يعلم ما جرى بيني وبين الشيخ) فقال الشيخ : هم لك ... اصنع بهم ما تشاء !!!

هذا هو الشيخ نافع يا سادة ... كريم ، سخيّ ، إذا أطعم أحدًا أشبعه، وإذا أعطى أحدًا كفاه، برغم وضع الشيخ المادي المتوسط.

رحم الله شيخنا وعالمنا الشيخ نافع العلواني.

الصورة للشيخ نافع رحمه الله في أوائل التسعينيات في دولة الإمارات:

إذا أطعمت فأشبع 

في إحدى الأيام وبعد صلاة العشاء ، طلب الشيخ نافع العلواني رحمه الله منا ( كنت أنا ومازن النونو وليث دعنا ) طلب منا أن نأتي معه للبيت، وفي بيت الشيخ أخرج لنا كيسا كبيرا فيه لحم جمل طازج ( تقريبا خمس وعشرون كيلو ) ثم قال : خذوا لكم وقوموا بتوزيع الباقي، ذهبنا وبدأنا بتقسيم الحصص ، وزعناها على ما يقارب العشرين عائلة ، وعندما ذهبت لأخذ الشيخ على صلاة الفجر، أخبرته مسرعًا فرحا بأننا وزعنا كل اللحوم على ما يقرب من عشرين عائلة ، فقال الشيخ بلكنتة السورية الرائعة : ( ولي علينا ) ثم قال : سامحكم الله وزعوها على أربع أو خمس عائلات ، إذا أطعمت فأشبع !!! أنتم وزعتموها على عشرين عائلة، لكن ما أشبعتم أحدًا منهم ، ثم قال : يا شيخي إذا تصدَّقت أو أحببت أن تطعم أحدهم فلا تتصدق بالقليل .

رحم الله شيخنا الشيخ نافعا العلواني كان هذا مبدؤه في الحياة إذا أطعم أحدًا أشبعه ، وإذا تصدَّق على محتاج كفاه ، لكي لا يسأل الناس من بعده .

أشهدك أني قد سامحته

عندما جاء الشيخ نافع العلواني رحمه الله إلى الأردن في أوائل التسعينيات، طلب هاتفا أرضيا ، جاء العامل من شركة الاتصالات لكي يقوم بتوصيل الهاتف الأرضي لبيت الشيخ ، يقول الشيخ : وكان أحد الإخوة قد أعطاني مبلغا (على ما أذكر ألف دينار) أمانة لشخص آخر، وكنت أضع المبلغ على الطاولة ، عندما دخل عامل الهاتف قام بتوصيل الهاتف الأرضي، وخرج مسرعًا بعد أن انتهى ، يقول الشيخ : فقدت المبلغ وبحثت ولم أجده ، عرفت أن الذي أخذ المبلغ هو عامل الهاتف، لأنه لم يدخل بيتي غيره، فقلت في نفسي : يا رب إني أشهدك أني قد سامحته ( لكي لا يحاسب يوم القيامة ويدخل النار بسببي ) ، وفي ثاني يوم يدق باب بيت الشيخ نافع ، فيفتح الشيخ البابَ، وإذا به عامل الهاتف يقول : سامحني يا شيخ أنا من أخذت المبلغ ، أغراني الشيطان وسوَّلت لي نفسي ، قال الشيخ : والله أني قد سامحتك من البارحة، وإني أشهد الله أني وهبتك هذا المبلغ كهدية لأنك تبت من ذنبك . 

حدثنا الشيخ بهذه القصة بعد مرور أكثر من عشرين عاما عليها ، يقول الشيخ : وما زلت أراه في المسجد الى يومي هذا ، وقد حسن حاله ، وكلما رآني سلم علي وقبَّلني.

آه يا شيخي.. أتعبت من جاء بعدك. 

رحمك الله ... لا تلوموني إذا قلت: كلما رأيت الشيخ أحسست أني أرى أبا بكر الصديق رضي الله عنهما ، فالشيخ إنسان غريب في هذا الزمن العجيب، وصل إلى درجة من الورع والزهد والتقوى ،كم أتمنى أن أصل لعشرها.

في زيارة الشيخ محمد راتب النابلسي لشيخنا الشيخ نافع بعد وفاة زوجته 

لأن أخطئ في العطاء خير من أن أخطئ في الحرمان

في بداية الأحداث السورية ونزوح إخواننا السوريين للأردن قررت أنا وأخي عماد الجيوسي رحمه الله وثلة من الشباب المتطوع، قررنا أن نحاول المساعدة بشتى المجالات .

من ضمن البيوت التي زرناها شخص طلب منا أنبوبة غاز ، وبالفعل ذهبنا ورجعنا ومعنا أنبوبة الغاز وسلمناها للرجل ، عندما خرجنا قال لي عماد ( وكان عماد صاحب بصيره وعنده خبره بالرجال) قال: هذا الرجل غير صادق لم أرتح له ،وطلب مني رقم الرجل وكلمه بعد نصف ساعة تقريبا وقال له: إنه من جمعية خيرية، وسأله إن كان يريد شيئا ، فطلب الرجل أنبوبة غاز !!! 

ونحن قبل نصف ساعة أعطيناه أنبوبة الغاز. 

فقال عماد الجيوسي رحمه الله : الله المستعان لن نعطي هذا الرجل شيئا بعد الآن لأنه كاذب ومستغل ... 

وبعد مرور أسبوع تقريبا كنا أنا وعماد نصلِّي العشاء في مسجد خليل الرحمن، وكعادتنا نجلس بجانب الشيخ نافع العلواني رحمه الله ، بعد الصلاة قام نفس الرجل الكاذب، وقال : إخواني جئناكم من سوريا، والوضع سيء جدا، وأخذ يشكي همومه، ثم ذهب لباب المسجد ،( ولله الحمد لأكثر من خمس سنوات كنت تقريبا مواظبا على أخذ الشيخ نافع العلواني من منزله للمسجد في الصلوات الخمس وثم أرجعه للبيت رحمه الله) وبحسب علمي بالشيخ إذا رأى محتاجًا يعطيه بسخاء ، عندما قام الشيخ نافع لكي يخرج من المسجد ، قلت له : هذا الرجل كاذب، وقد فعل كذا وكذا قبل أسبوع ، فقال الشيخ : وما أدراك أنه الآن صادق أم كاذب ؟ قلت: لا أدري لكن كذب علينا واستغلَّ وضعه قبل أسبوع. فقال رحمه الله : لأن أخطئ في العطاء خير من أن أخطئ في الحرمان، وأخاف أن يكون بالفعل محتاجا. في هذا الوقت. وأنا الآن لديَّ المال فأخاف أن يسألني الله عنه، ويقول لي: لمَ لمْ تعطه المال مع أنك كنت تملك المال !!! 

فذهب الشيخ نافع لهذا الرجل وأعطاه بسخاء مبلغا جيدا ، ثم ركبنا السيارة وأعاد نفس كلامه تقريبًا، ثم قال لي : شيخي إذا كانت القضية قضية مال فالأمور سهلة إن شاء الله.

هكذا كان الشيخ : كريمًا ، سخيًّا ، آخر ما يفكر به هو المال ، ولا يردُّ محتاجا قط، وإن كان السائل كاذبًا ، فهو يتصدق بنيَّتة رحمه الله تعالى.

أيكذب من أجل مال ؟!! 

كان أخو زوجتي (عبد الله) يلعب على الدراجة الهوائية، دهسته سيارة ولاذت بالفرار، أخذنا عبد الله إلى مستشفى الجامعة الأردنية كونه مؤمَّنًا تأمينا صحيًّا هناك ، وكان والد عبد الله في رحلة دعوية، اجتمعنا في المستشفى أكثر من عشرة أشخاص من أقرباء وأحباء ، أحد الإخوة وكان ملتزمًا دينيا ، قال : قولوا لقسم الإدخال إن ما جرى ليس حادث سير بل قولوا: إنه وقع من الدرج، لأن التأمين لا يتعرف على الحوادث، طبعا بالنهاية قلنا الحقيقة، ودفعنا مبلغا مقداره مئة وثلاثون دينارا تقريبًا بدل فحوصات وتصوير إشعاعي ، دفع كل منا قسطا من المبلغ، رجعنا لبيوتنا وانتهى الموضوع .

عند صلاة الفجر وفي مسجد خليل الرحمن ، أخبرت الشيخ نافعًا العلواني رحمه الله بالقصة ، وأخبرته أن فلانا اقترح أن نقول: إنه وقع على الدرج وليس حادث سير، قاطعني الشيخ وكان وجهه كله عجب وقال : أيكذب من أجل المال ؟؟؟ ثم سألني: كم دفعتم ؟ قلت : مئة وثلاثون، أخرج من جيبه مبلغا وقال: خذ هذا المال وأرجع لكل شخص ماله ، ثم أعاد كلمته اكثر من عشر مرات وهو متعجب ويقول : لا حول ولا قوة إلا بالله!! أيكذب من أجل مال ؟؟ ويعيدها وكأنه يكلم نفسه ، حتى إنني تعجبت من الشيخ ومن طيبة قلبه وكنت أقول في نفسي: ( اااه يا شيخ لو ترى المعاملات التجارية بين الناس الكل يكذب من أجل المال ) ، عندما عددت المبلغ وجدته مائتين وخمسين دينار، فقلت للشيخ: هذا المبلغ أكثر مما دفعنا، قال : أعطهم لعبد الله، قلت : عبد الله لم يذهب للعمرة. هل أحجز له عمرة معي الشهر المقبل ؟ قال : نعم وإذا نقص أي مبلغ أخبرني وإن لم تخبرني لن أسامحك .

رحم الله الإمام الشيخ نافعا العلواني 

كان يكره الكذب ... ويقول دائمًا : نحن في أزمة أخلاقية أهمها كثرة الكذب وقلة الصدق.

إذا كانت القضية قضية مال فليست هناك قضية

بعد مرور عام تقريبا على الأزمة السورية ، كان من المستحيل أن تجد بيتا فارغا في الأردن ، علمت بوصول عائلة سورية ، استقبلتهم في منزلي المتواضع لحين وجود منزل لهم ، كنت أذهب للمسجد ويرافقني الأخ السوري الضيف ، كان الشيخ نافع في كل مرة يسألني: هل وجدتم بيتا ؟ وكان الرد المعتاد: لسا يا شيخي ، وبعد أسبوع وجدنا غرفة واحدة مفروشة مع حمام، وطلب صاحب المنزل إيجار مئة وستون دينارا (وهذا مبلغ فلكي بالنسبة لإيجارات البيوت في منطقتنا) ، قلت للشيخ ما حصل ، قال: في كل زمان هناك تجار الحروب بدل أن يخفض السعر لهؤلاء اللاجئين يضاعف سعر بيته ؟ ثم قال : ليست مشكلة إذا كانت القضية قضية مال ، ثم أخرج من جيبه مئة وستون دينارا، وقال لي : استأجر البيت لهم لمدة شهر لعلهم يجدون بيتا أفضل ، فقلت للشيخ : حرام أن ندفع هذا المبلغ لصاحب هذا البيت الجشع ، دعهم في بيتي فأنا غير متضايق ، قال الشيخ : إذا كنت أنت غير متضايق فما يدريك عن أحوال ضيوفك ؟ لعلهم هم متضايقون ، افعل ما قلته لك .

رحم الله شيخنا ... كان يفكر في الآخرين أكثر من نفسه ، ويقولها دائمًا: إذا كانت القضية قضية مال فليست هناك قضية. 

الحلقة الرابعة هنا