حكم انتهاج العنف مع سلطات الانقلاب

نص الاستشارة :

دار الجدال ولا زال يدور حول حادث المنصورة الذي وقع الاثنين 16/ 12/ 2013م، والذي دهست فيه سيارةٌ خمسة مواطنين منهم امرأة في حالة خطرة، ثم قتل المتظاهرون سائق هذه العربة، وقد اتخذه الإعلام ذريعة لتشويه الثائرين ونعتهم بالإرهاب والخيانة والتخريب ...الخ.

ويتساءل كثير من المتظاهرين : إلى متى نسلم لهم رقابنا؟ إلى متى نتركهم يقتلون منا العشرات والمئات؟ إلى متى نتركهم يعتقلون أطفالنا وبناتنا؟ ألا يجب أن تكون للحق قوة تحميه؟ ألا يجب أن نواجه هؤلاء بالسلاح، أم سنظل هكذا سلميين دون رد فعل، يقتل منا من يقتل ، ويحرق منا من يحرق؟

الاجابة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد،

فإن حادث السائق وما قام به من دهس للمتظاهرين بسيارته ترتب عليه قتلُه من قبلهم، هو حادث عشوائي لم يكن منظما من معارضي الانقلاب ولا مخططا له – كما بدا من المشهد – وإنما جاء عفويا طوعيا شعبيا دون إيعاز أو ترتيب من أحد.

وينبغي أن نقرر في البداية الفرق بين الحكم والفتوى، وأنه يتمثل في: أن الحكم هو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع.. وهذا من حيث الأصل، أما الفتوى فهي تتعلق بخطاب الوضع بخصوصه، الذي يؤثر فيه الشروط والأسباب والموانع والمآلات والأحوال والأشخاص، فقد يكون الحكم على تصرف ما من حيث الأصل حراما، ولكنه يباح بسبب خطاب الوضع المتعلق بما ذكرته: فأكل الميتة ولحم الخنزير حرام في الأصل لكنه مباح عند الضرورة بنص القرآن الكريم: " إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ۖ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ". ﴿سورة البقرة: ١٧٣﴾، التحالف مع الكفار حرام في الأصل، لكنه يباح إذا دفعنا به ضررا أكبر وعدوا أعظم، الحاكم المسلم قد يتخذ من التدابير ويفرض وظائف مالية تظلم بعض أفراد المجتمع ، وهو حرام في أصله لأنه ظلم، وهل تخفى على أحد النصوصُ من القرآن والسنة التي تحرم الظلم تحريما قاطعا؟ ولكنه يباح - بل قد يجب - إذا كان يعم نفعه على المجتمع وينقذه من خطر محقق، لا سيما إن كان الضرر الواقع على هذا البعض محتملا .. والأمثلة في هذا لا تحصى.

وفي مسألتنا – موضع الحديث – المتعلقة بالسلمية وواقعة المنصورة وغيرها، وهو أمر لا شك سيتكرر كثيرا بشكل عفوي طوعي غير منظم ولا مخطط له؛ لصعوبة التحكم في ردة فعل الجماهير، فالأصل أن نرد العدوان، ومن يعتدي علينا يجب القصاص منه، بل يجب شرعا أن نحمي أنفسنا بما يخيف الآخرين من الاقتراب منا، هذا هو الأصل في الحكم الشرعي للنصوص المعروفة، ومنها: "فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ". سورة البقرة: 194. وقوله تعالى: "وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ . إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ". سورة الشورى:40-41.

فإذا نظرنا إلى الواقع، وأدخلنا خطاب الوضع، وجعلناه يتفاعل مع خطاب التكليف الذي هو الأصل فلابد أن يتغير خطاب التكليف تبعا للحالة المسؤول عنها.

وفي حالتنا المطروحة للنقاش والحوار – في رأيي المتواضع – لا يجوز لنا استخدام أي نوع من أنواع العنف، ولا حمل أي نوع من السلاح، ولا الإقدام على هذه الأفعال من أي نوع، وذلك لما يلي:

أولا: أن القوة غير متكافئة، فأين الشعب الأعزل برجاله وشبابه ونسائه وأطفاله من قوات غاشمة مدججة بالسلاح والدبابات، من شرطة لا تخشى خالقا ولا ترحم مخلوقا، ومن بلطجية مستأجرين قُدِّر عددهم بـ (400000) بلطجي رباهم وزراء الداخلية في مصر جيلا بعد جيل، ووراء هذا كله جيش يعتبر ظهيرا وحاميا لكل هؤلاء، وهو أقوى قوة عسكرية في العالم العربي وربما الإسلامي؟!!

ثانيا: مآلات الاشتباك مع هذه القوة المسلحة والغاشمة هو الخسران والهزيمة القاطعة، فضلا عن مزيد من الدماء والقتل المضاعف، أجيب بهذا على من سيقول: "وهل نظل مكتوفي الأيدي أمامهم، ونسلم لهم رقابنا؟".

ثالثا: الظروف الدولية الراهنة – ويجب أن نقرأ الحدث في السياق الداخلي والخارجي معا – والقوى المؤثرة في الغرب تستحيي من إعلان تأييدها للانقلاب حتى هذه اللحظة، وعدد قليل من دول الخليج هي التي اعترفت به وأعلنت ذلك وقدمت الدعم المعلن، وأصبح النظام المصري الجديد في عزلة دولية بفضل استمرار السلمية.

رابعا: التأييد الشعبي والدولي الواسع في كل دولة، والتظاهر المستمر عالميا، وشعار رابعة الذي أصبح دوليا، من أين أتى كل هذا؟ لا شك أنه أتى من تجبر المتجبرين وقهر القاهرين وتسلط المتسلطين على السلميين العُزْل، ماذا لو كانت بنات الإسكندرية تلبسن بأسلحة أو ما شابه؟ هل كانوا سيحظون بهذا التأييد العالمي والظهير القانوني الدولي بعد أن صدر الحكم الأرعن والأحمق عليهن؟ بل إن هذا هو الذي دعا أمريكا وغيرها من الذين يدعمون الانقلاب "تحت الترابيزة" - ومن فوقها أحيانا دون تصريح رسمي معلن بموافقتهم على الانقلاب - دعاهم إلى التدخل فورا كما رأينا وتابعنا.

خامسا: الحصار الشعبي الدولي لأي رمز من رموز الانقلاب إذا سافر بالخارج، من السياسيين والمثقفين والحزبيين، وقد رأيتم نماذج كثيرة تم لفظها شعبيا في الدول التي سافروا إليها، وتمت محاصرتهم ورفض حديثهم، بل وصل الأمر إلى الطرد والتتبع في بعض الحالات.

سادسا: التأييد القانوني الدولي، وملف الثورة المصرية بالخارج من الناحية القانونية لم يكتب له النجاح إلا بفضل السلمية الخالصة، والآن أصبحت هناك أسماء معروفة ومعلنة مطلوبة للمحاكمة الجنائية الدولية، وتخشى من الخروج من مصر لأي مؤتمر أو نشاط خشية المحاكمة، وما المفتي السابق عنا ببعيد حين ألغى سفره إلى لندن.

كل هذه أسباب واقعية مرصودة – وهناك غيرها – ومآلات مُسْتشرَفة، وأسباب واضحة تنتقل بالحكم الشرعي الذي يبيح – في خطاب التكليف – أن نعتدي على من اعتدى علينا، وأن نرد على من يقتل بالقتل، ينقل هذا كله من الجواز والوجوب إلى المنع والحرمة، لما تلبس به من واقع يقتضي تغير الحكم، وهذا هو مضمون الفتوى، مع عدم الممانعة في دفع الضرر، أو دفع الصائل بما يمنع وقوع الضرر، وحسبنا ما جاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت إنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي، قَالَ: "فَلَا تُعْطِهِ مَالَك، قَالَ: أَرَأَيْت إنْ قَاتَلَنِي؟ قَالَ: "قَاتِلْهُ"، قَالَ: أَرَأَيْت إنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: "فَأَنْتَ شَهِيدٌ"، قَالَ: أَرَأَيْت إنْ قَتَلْته؟ قَالَ: "هُوَ فِي النَّارِ" رواه أحمد ومسلم.

والأستاذ الدكتور عبد الرحمن البر – عميد كلية أصول الدين بجامعة الأزهر بالمنصورة - له فتوى قيمة عن هذا الموضوع أحيل عليها، بعنوان: "حكم مدافعة البلطجية الذين يعتدون على الناس"، وهي منشورة ومتداولة على شبكة "الإنترنت".

على أننا لا نقيس تجربتنا أو واقعنا على واقع آخر، أو تجربة أخرى، تختلف عن تجربتنا في طبيعتها ومآلاتها، كتجربة الثورة الإيرانية وما حدث فيها، مع اختلاف الظرف التاريخي والسياق الدولي، فهذا هو الذي يحكمنا تحت ظل الأحكام الشريعة المعتبرة، مع أهمية الإفادة من التجارب إيجابا وسلبا في ضوء التقدير الصحيح للواقع.

وبناء على ما سبق أقول – وأدعو الله أن أكون موفقًا – إن أي استخدام للعنف أو السلاح أو أي شكل من أشكال الخروج على السلمية هو عمل يضر بثورتنا، ويؤخر انتهاء المشهد بالحسم ودحر القاتلين ومحاكمتهم، وإضاعة لحقوق الشهداء المقدَّرين بالآلاف، واستمرار للاعتقالات والفوضى، وتأخيرا لمكانة مصر الإقليمية والدولية، كما أنه يدعو إلى مزيد من سفك الدماء ومضاعفة العنف الدموي من السلطات الأمنية الغاشمة التي لا تفهم إلا لغة القتل وسفك الدماء سبيلا للحكم والسيطرة، ولا تقدر الثروة الشبابية التي هي أمل المستقبل، ولا ينتهون عما انتهى عنه أبو جهل فرعون الأمة، بل ربما يجهزون على أكثر من ثلث الشعب ليَسْلُس لهم قيادُ الأمور؛ بدعم خليجي، وتأييد صهيوأمريكي، وعدم ممانعة أوربية؛ فإن الذي قتّل وحرَّق الجثث لن يتورع عن أي ذنب، ولن يمتنع عن أي جريمة!

فيا معشر الثائرين والمرابطين: تمسكوا بسلميتكم، فهي أقوى من الدبابات والجنازير والزنازين والمحاكمات الهزلية والتهم الملفقة، وأظهر للحق وأدحر للباطل، وأدعى لكشف المزيد من العملاء والخونة، وتضاعف الالتفاف العالمي والحشد الدولي والقانوني حول قضيتنا العادلة، وإن أعظم أماني الانقلابيين أن يجرونا إلى العنف، ويستدرجونا إلى حمل السلاح، وهو ما لن يحدث بإذن الله، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وهو أعلى وأعلم وأحكم.


التعليقات