تأسيس الدولة البويهية الشيعية

 

حدث في الحادي عشر من جمادى الأولى 

 

في الحادي عشر من جمادى الأولى من سنة 334 دخل بغداد الأمير أبو الحسين أحمد بن بويه مؤسساً للدولة البويهية في العراق، ولتصبح الخلافة العباسية تحت وصاية وتحكم بني بويه المتشيعين، وجاء دخول أحمد بن بويه بعد أن ضعفت الدولة العباسية ضعفاً شديداً ،واضمحلت هيبة الخلافة والخلفاء.

 

وتعود قصة وصول بني بويه إلى بغداد إلى أيام الخليفة الراضي بالله، الذي تولى الحكم في منتصف سنة 322، بعد خلع عمه الملقب القاهر بالله، وكان دخل خزينة الخليفة ضعيفاً لاستبداد ولاة الأقاليم بأموال الضرائب التي يجمعونها في مناطقهم، ولتقاعسهم وتقصيرهم في إرسالها لبغداد، وكان ذلك يضع الخليفة في موقف حرج مع العسكر الذي كان يفور ثم يثور لتأخر الرواتب عنه، وكان الخليفة الراضي يواجه مشكلة مع واليين كانت مناطقهما الزراعية الخصبة من أهم مصادر دخل الدولة، وهما أبو عبد الله البريدي في الأهواز، ومحمد بن رائق في واسط، وإضافة لذلك كانت قبائل الديلم تأتي جنوباً من منطقة بحر قزوين طامعة في السيطرة على المناطق الجنوبية في الأهواز.

 

وفي سنة 323 هاجم الديلم الأهواز فادعى أبو عبد الله البريدي كذباً أن خزانة البلاد أضحت خاوية بسبب الهجوم والدمار الذي نتج عنه، ولذا لم يحمل للخليفة أية مبالغ، وأما والي واسط والبصرة محمد بن رائق فكتب إلى الخليفة يعرض عليه أن يجعله وزيره ويفوض إليه تدبير الدولة، وفي مقابل ذلك سيتولى ابن رائق نفقات الخليفة وأرزاق الجند.

 

وللدلالة على شدة الأزمة نذكر أن الراضي بالله ولى الوزارة أبا جعفر محمد بن الحسن الكرخي، فلما باشرها رأى قلة الأموال وانقطاع المواد فعجز عن تدبير الحال، وضاق الأمر عليه، وكثرت المطالبات ونقصت هيبته، فاستتر بعد ثلاثة أشهر ونصف من وزارته، فاستوزر الراضي أبا القاسم سليمان بن الحسن فكان في الوزارة كأبي جعفر في وقوف الحال وقلة المال! ولم يكن ذلك غريباً فقد قطع ابن رائقٍ مال واسط والبصرة، وقطع البريدي مال الأهواز وأعمالها، وكان البويهيون قد تغلبوا على فارس وقطعوا مالها.

 

وطمع البريدي في البصرة فسار إليها في سنة 325 واشتبك مع قوات ابن رائق وهزمها واحتل البصرة، فسار إليها ابن رائق بنفسه في جيشين في البر والنهر، ولما اشتد القتال وخشي البريدي أن تسقط البصرة سار إلى عماد الدولة ابن بويه واستجار به وأطمعه في العراق، فأرسل معه أخاه أحمد بن بويه، وصارت الأهواز في سنة 326 بيد آل بويه يتربصون الفرصة للاستيلاء على العراق، وهرب البريدي خوفاً على نفسه.

 

وكان البريدي قد ضمن الأهواز والبصرة من عماد الدولة في كل سنة بمبلغ 18 مليون درهم، فلما هرب كاتبَ معزَ الدولة أن يفرج له عن الأهواز حتى يتمكن من ضمانه، فرحل عنها إلى مكان يدعى عسكر مكرم، فعاد البريدي وطلب منه أن ينتقل إلى مكان آخر يدعى السوس ليبعد عنه ويأمن بالأهواز، فامتنع أحمد بن بويه، وعلم القائد بَجْكم الديلمي برفض أحمد فأنفذ من واسط جماعة من جنوده استولوا على السوس وجنديسابور، وبقيت الأهواز بيد البريدي، ولم يبق مع أحمد بن بويه من الأهواز إلا عسكر مكرم، فاشتد الحال عليه وفارقه بعض جنده وأراد الرجوع إلى فارس، فكتب إلى أخيه عماد الدولة يعرفه الحال، فأنفذ إليه جيشاً تقوى به، وعاد واستولى على الأهواز، وهرب البريدي إلى البصرة، وصار وزيراً للراضي في منتصف سنة 327، وبقي أحمد بن بويه في الأهواز أميراً عليها من قبل أخيه عماد الدين.

 

وكانت الخلافة والعراق قد أضحيا نهباً للنزاعات والمطامع، فقد مضت سنون والمتمردون من القرامطة يعيثون فيه فساداً، وبنو حمدان في الموصل والجزيرة يعاضدون الخلافة ما تلاقى ذلك مع مصالحهم، أما حاشية الخليفة وأقطابها البريدي وابن رائق وبجكم الديلمي فكانت منهكمة بتدبير المكايد وجمع الأموال من كل طريق، واستقل أمراء الأقطار بأقطارهم، ولم يبق للخليفة في بغداد أمر ولا نهي.

 

وفي سنة 328 جاء الحسن بن بويه، وهو أخو أحمد الأوسط، بقواته فاحتل الجانب الشرقي من واسط وكان البريدي بالجانب الغربي، فلما بلغ نبأ ذلك إلى بغداد، خرج الخليفة الراضي والقائد بجكم من بغداد نحو واسط يريدان حرب ابن بويه فعاد إلى الأهواز ثم إلى رامُهرمُز.

 

ولما توفى الراضي في أوائل سنة 329، عن 32 سنة، كان القائد بجكم الديلمي في واسط هو المتحكم بالأمور، فأرسل إلى القضاة والأعيان ليختاروا خليفة فاختاروا إبراهيم بن الخليفة المقتدر، وكان عمره 34 سنة، صاحب صوم وعبادة، فتلقب بالمتقي لله، وبعدها بثلاثة أشهر جرى نزاع بين بجكم وبين الوزير أبي عبد الله البريدي قُتل فيه بجكم، وفي سنة 230 بدأ القحط يعم البلاد وغلا الطعام غلاء فاحشاً حتى أكل الناس الحيوانات والجيف، وعزل المتقي وزيره البريدي، فغضب وشق عصا الطاعة، وجمع جيشاً ليستولي على بغداد فواجهه الخليفة في جيش سرعان ما انهزم، وهرب المتقي وابنه إلى بني حمدان في الموصل، واستولى البريدي على بغداد.

 

وكان أمراء بني حمدان مع الخليفة يرقبون كل التطورات، فلما انشق قائد يدعى توزون عن البريدي والتحق بالخليفة في الموصل، اعتقدوا أنها اللحظة المناسبة للقضاء على البريدي، ولما استطاع محمد بن حمدان قتل حليفه محمد بن رائق الذي كان أمير الشام، جعله الخليفة المتقى محله، ولقبه ناصر الدولة، ولقب أخاه سيف الدولة، وزوَّج المتقى لله ولده بابنة ناصر الدولة، وجاء القائد توزون من واسط إلى الخليفة المتقي فخلع عليه ولقبه أمير الأمراء، ثم ما لبث أن ترك الخليفة توزون وانحاز إلى بني حمدان، فجاء توزون واستولى على بغداد، وهرب البريدي إلى البصرة التي هي قاعدته، وأقبل ناصر الدولة الحمداني في جمع كبير من الأعراب والأكراد، فهزمهم توزون ولحقهم إلى الموصل، ثم اجتمعوا ثانية فهزمهم توزون فانسحبوا إلى نصيبين وتوزون على إثرهم.

 

وشعر الخليفة المتقي أن بني حمدان لا يريدون متابعة القتال، فراسل الإخشيد واليه على مصر طالباً منه العون، فجاءه إلى الرقة، وكذلك راسل المتقي في نفس الوقت توزون، فأعطاه المواثيق والعهود ليعود إلى بغداد، فصدقه المتقي رغم تحذير الإخشيد له، وسار إلى بلدة هيت فالتقى بتوزون الذي حلف له، فلما اطمأن الخليفة قبض عليه توزون وسمل عينيه، ورمى به في السجن، وأحضر عبد الله بن الخليفة المكتفي فبايعه وتلقب بالمستكفي، وكان عمره آنذاك 41 سنة، وجرى ذلك في أول سنة 333.

 

جرى ذلك كله والقحط ضارب أطنابه وغلاء الأقوات لا يتوقف، وجشع الحاشية يفتك بالناس فتكاً أشد من ذلك كله، فقد توفي البريدي في تلك الأثناء فكانت تركته مليوني دينار و11 مليون درهم، ولما توفي في سنة 362 سُبكتكين حاجب معز الدولة، خلّف موجودات كثرة بلغ النقد منها مليون دينار، و10 ملايين درهم، وكان في بغداد لص اسمه حمدي، ضَمِنَ اللصوصية في الشهر بمبلغ 25.000 دينار، فكان يسرق الدور والأسواق دون خوف ولا وجل، وكانت القهرمانة علم الشيرازية تأمر وتنهى وتتصرف في الأمور، ولذا لم يكن غريباً أن يستخف الأمراء بالخلافة، فقد وصل ما يجري في العراق إلى مسامع الأمير الأموي الناصر لدين الله في الأندلس، فتلقب بأمير المؤمنين وقال: أنا أولى بإمرة المؤمنين! وكان قبل ذلك، يقال له: الأمير، كآبائه. وفي نفس الوقت أصيب القائد توزون بالصَرَع فأثر ذلك على صحته وإمارته.

 

وكان أحمد بن بويه قد استولى على الأهواز والبصرة وواسط، وسار نحو بغداد، فبرز لمحاربته توزون، وجرت بينهما حرب خفيفة الوتيرة، هُزم فيها توزون، ولكن أحمد عاد إلى الأهواز بسبب القحط وعجزه عن إطعام الجيش، ثم مات توزون في أول سنة 334، فتسلط على الوزارة أبو جعفر محمد ين يحيى بن شيرزاد، وكان وزيراً سابقاً في أيام القائد بجكم، فصادر التجار والكُتاب، وسلط الجند على الناس، فهربوا بأنفسهم وأموالهم من بغداد، ولذل ما عاد أحد يجلب إليها الأرزاق لقلة المشتري وضعف الأمان، فأضحت بلداً خالية من الناس.

 

واستعمل ابن شيرزاد على واسط رجلاً اسمه ينال كوشه، فراسل أحمد بن بويه في الأهواز، ودخل في طاعته، فسار إليه أحمد بن بويه، ثم اتجه من واسط إلى بغداد، فهرب الأتراك منها إلى الموصل، واستتر الخليفة المستكفي وووزيره ابن شيرزاد، ونزل معز الدولة أحمد بن بويه بضاحية الشِمَّاسية من بغداد نزول مقيم غير محارب، ولما ابتعد الأتراك ظهر الخليفة المستكفي، ودخل بغداد وزير معز الدولة الحسن بن محمد المهلبي فاجتمع بالخليفة الذي أظهر سروره بمقدم ابن بويه، وأعلمه أنه إنما استتر ليتفرق الأتراك، ويحصل الأمر لمعز الدولة بغير قتال.

 

وهكذا دخل معز الدولة البويهي بغداد في الحادي عشر من جمادى الأولى من سنة 334 دون حرب أو قتال، وجاء إلى الخليفة فألبسه الخلعة وبايعه على إمرة العراق ولقبه بمعز الدولة، ولقب أخاه الأكبر الحسن: ركن الدولة، ولقب أخاه الأوسط عليا: عماد الدولة، وضربت أسماؤهم على السكة، وكان الوزير ابن شيرزاد على اتصال بمعز الدولة الذي طلب من الخليفة أن يأذن له في استكتابه، فأذن له، فولاه أمر الخراج، ونزل أصحاب معز الدولة في دور الناس، فلحق أهل بغداد منهم شدة عظيمة، وقرر الوزير مع معز الدولة تخصيص مبلغ لنفقات الخليفة مقداره 5.000 درهم يومياً، وبعدها بشهر، في 22 جمادى الآخرة سنة 334، عزل معز الدولة الخليفة المستكفي وسمل عينيه، ورماه في السجن إلى أن مات سنة 338.

 

وأحضر معز الدولة الفضل بن الخليفة المقتدر، فجعله الخليفة ولقبه المطيع لله، وكان عمره 34 سنة، وقرر له معز الدولة 100 دينار يومياً لنفقته، وهو مبلغ زهيد جداً لأن الغلاء كان على أشده والموتى من الجياع في الطرقات، وبيع العقار بالرغفان .

 

واعتقد ناصر الدولة ابن حمدان أنه أحق بالسيطرة على بغداد والخلافة، فجاء بقواته إلى سامراء، واصطدم عندها مع معز الدولة، واستطاع هزيمته ودخول بغداد والسيطرة على الجانب الشرقي منها في جمادى الآخرة سنة 334، ومنع العلف والميرة عن الديلم، ودام الأمر ستة أشهر حتى فكر معز الدولة في العودة إلى الأهواز، ثم قام بمناورة ناجحة استطاع بعدها عبور دجلة تجميع جيشه، ومعه الخليفة المطيع لله، وانهزم جيش ناصر الدولة ابن حمدان، ودخل معز الدولة إلى الجانب الشرقي من بغداد، ونهب جنوده أموال الناس، وقُدِرَ ما نهبوه بمبلغ 10 ملايين دينار، وأمرهم معز الدولة بالتوقف فلم يستجيبوا له، ولم يستتب الأمان في بغداد إلا بعد أرسل معز الدولة وزيره مع بعض الجنود فقمعوا المجرمين وقتلوهم بعضهم وصلبوا بعضهم الآخر.

 

وما لبث العسكر أن شغب على معز الدولة بسبب تأخر رواتبهم، فبدأ في فرض الضرائب الباهظة والمصادرات، وأقطع الأراضي التي كانت للسلطان، فازداد الخراب في البلاد زيادة على ما كانت الحروب والقحط قد فعلاه بها من قبل.

 

ثم سار معز الدولة إلى الموصل لقتال ناصر الدولة ابن حمدان، فتجنب ابن حمدان أن يلتقي معه في معركة مباشرة، وفضل اللجوء إلى الكر والفر والاستنزاف، فرفع أمواله إلى قلعة الموصل، ولم يترك في البلد قوتا ولا علفا، ولما قرب معز الدولة إلى الموصل فارقها ناصر الدولة، وسار فكان تارة بنصيبين وتارة بآمد وتارة ببلد، وصار هو وبنوه يغيرون على سرايا وقوات معز الدولة، لا يجدون سرية إلا هزموها، ولا قافلة إلا نهبوها، فإذا خرج معز الدولة في طلبهم هربوا من بين يديه، وما لبث ناصر الدولة ابن حمدان أن حصل على ما يريد وجنح معز الدولة البويهي للسلم واصطلحا في سنة 335.

 

وكان أمر البصرة لا يزال مع آل البريدي الذين أظهروا موالاة معز الدولة، ولكن البريدي أظهر بادرة تمرد أثناء انشغال معز الدولة بحرب بني حمدان، فأرسل إليه معز الدولة جيشاً هزمه، ثم سار إليه في أول سنة 336 مع الخليفة المطيع لله، فاستسلم جيش البريدي، وهرب هو لاجئاً إلى القرامطة، وسار معز الدولة من البصرة إلى الأهواز حيث التقى بأخيه الأكبر عماد الدولة، فقبل الأرض بين يديه وأبدى الطاعة المطلقة له، ثم عاد إلى بغداد.

 

ولم يفت القرامطة أن يجسوا نبض معز الدولة ونواياه تجاههم إذ صار في أراضيهم، فأرسلوا إليه رسولاً بكتاب منهم يلومونه على عبور أراضيهم دون استئذانهم، فلم يجبهم عن الكتاب، وقال للرسول قل لهم: ومن أنتم حتى تُستأذنوا في سلوك البرية؟! وكأني أنا أقصد البصرة؟! قصدي إنما هو بلدكم، وإليكم أخرج من البصرة بعد فتحي إياها بإذن الله تعالى، وستعرفون خبركم. وأدى هذا الموقف إلى توتر العلاقات بين معز الدولة وبين القرامطة، رغم أنه لم يكن أكثر من تهديد وتخويف يعبر عن طبيعة معز الدولة، فلم يكن في مخططاته فتح معركة مع القرامطة، كما لم يكن لدى القرامطة نية للتوسع في أراضيه، ولم يكن بينهما عداء شديد ولا تعاون  وثيق.

 

وفي أواخر سنة 337 نقض معزّ الدولة اتفاقه مع ناصر الدولة ابن حمدان وقصده في الموصل، ففرّ ابن حمدان إلى نصيبين، فظلم معز الدولة أهل الموصل وأخذ أموالهم عسفاً، فكثر الدعاء عليه، وكان في نيته الاستيلاء على جميع بلاد الحمدانيين، ولكن أخاه ركن الدولة أرسل إليه أن عساكر خراسان قد قصدت جرجان والري، ويطلب منه المدد لمواجهتهم، فاضطر إلى مصالحة ناصر الدولة واتفقا على أن يؤدي ناصر الدولة عن الموصل والجزيرة الفراتية والشام مبلغ 8 ملايين درهم سنوياً، وأن يخطب في جميع بلاده لبني بويه، وعاد معز الدولة إلى بغداد.

 

واستغل الروم في الدولة البيزنطية هذا التناحر بين بني بويه وبين بني حمدان وانشغال بعضهم ببعض، وكان الحمدانيون على ثغور الروم، في جنوب تركيا اليوم، فبدأت غارات البيزنطيين على المناطق التابعة لبني حمدان تزداد جرأة، ثم تحولت إلى محاولة احتلالها وضمها للدولة البيزنطية، ونجحوا في الاستيلاء على مرعش سنة 337، ولما تصدى لهم سيف الدولة في سنة 339 تمكنوا من هزيمته بعد أن كاد يقع في الأسر، وكان سيف الدولة وناصر الدولة يتعاونان في صد الروم، فلما انشغل ناصر الدولة مع البويهيين، فترت عزيمة سيف الدولة عن مهاجمة الروم بعد أن هزمهم غير مرة، ثم شنوا غارة مفاجئة احتلت حلب في آخر سنة 351 وفتكوا بأهلها ومكثوا فيها أسبوعاً ثم تركوها.

 

وفي سنة 338 توفي عماد الدولة الأخ الأكبر لمعز الدولة، وكان يلقب بأمير الأمراء، فآل هذا اللقب إلى الأخ الأوسط ركن الدولة، وبقي معز الدولة معه على الطاعة والولاء، بمثابة نائب له في العراق، وفي منتصف سنة 339 توفي الوزير أبو جعفر محمد بن أحمد الصيمري، فاستوزر معز الدولة بعده نائبه أبا محمد الحسن بن محمد المهلبي، وكان خبيراً بأموال الدولة وعمل الدواوين، وصاحب تقوى ومروءة، فظهرت أمانته وكفاءته، فأطلق يده معز الدولة لثقته به، فأحسن السيرة وأزال كثيراً من المظالم.

 

وفي سنة 341 جرت معارك بين معز الدولة وبين القرامطة الذين أرادوا احتلال البصرة، وذلك بتشجيع من يوسف بن وجيه صاحب عمان، الذي كانت علاقاته سيئة مع البويهيين، ذلك إنه تحالف مع القرامطة وجاءهم في سفنه على أن يتولوا هم أمر حرب البر، فعجل معز الدولة بإرسال الوزير المهلبي من الأهواز على رأس جيش سبق المهاجمين إلى البصرة، ثم أمده بمدد آخر، فهزم القرامطة واستولى على مراكب أهل عمان وعُددهم.

 

وفي سنة 345 واجه معز الدولة عصياناً كاد أن يطيح بمملكته لأنه جاء من داخل صفوف الديلم، ومن صنيعته وثمرة إحسانه، فقد خرج عليه روزبهان بن ونداد خورشيد الديلمي أحد قواده المقربين، واجتمع إليه أخواه في الأهواز، فـأرسل لمحاربته الوزير المهلبي فانشق جنوده من الديلم وانحازوا إلى روزبهان، فتركه المهلبي، وتجهز معز الدولة بنفسه إلى محاربته، ولكن الأحوال لم تكن مبشرة له بخير، فقد مال الديلم بأسرهم إلى روزبهان، بل وتجرأوا على معز الدولة بما يكره، ولما سار معز الدولة عن بغداد، جاءها ناصر الدولة ابن حمدان ليستولي عليها في غيابه، فلما بلغ ذلك الخليفة خرج من من بغداد، فأعاد معز الدولة الحاجب سبكتكين وغيره ممن يثق بهم من عسكره إلى بغداد ليحفظوها، فنقص عدد جنوده، وزاد الطين بلة أن شغب عليه الديلم الذين ببغداد، فوعدهم بأرزاقهم فسكنوا وهم على قنوط منه.

 

وهنا أيس معز الدولة من الديلم، وهم عصبيته، وتحول إلى من يثق بهم من الأتراك ومماليكه ونفر يسير من الديلم، وصار يختلق الأعذار ليبعد الديلم عن ساح الحرب خشية انشقاقهم أو غدرهم، فلما التقى الجيشان أكثر معز الدولة من استعمال النشاب تعويضاً عن قلة جنوده حتى فنى نشاب الأتراك في آخر النهار، وخمد وطيس المعركة إلى صباح اليوم التالي، وأدرك معز الدولة أن الهزيمة وشيكة محتومة، واتفق مع أصحابه أن يحملوا حملة واحدة في الغد، وهو في أولهم، فإما أن يظفروا وإما أن يُقتَل أول من يقتل، فطالبوه بالنشاب، فقال: قد بقي مع صغار الغلمان نشاب، فخذوه واقسموه.

 

وكان صغار الغلمان هؤلاء عدد لا بأس به من المتدربين تحتهم الخيل الجياد، وعليهم اللبس الجيد، لم يأذن لهم معز الدولة في الحرب، وقال: إذا جاء وقت يصلح لكم أذنِتُ لكم في القتال. فأومأ معز الدولة إليهم بيده أن أقبلوا منه وسلِّموا النشاب، فظنوا أنه يأمرهم بالحملة، فحملوا وهم مستريحون، فصدموا صفوف روزبهان فخرقوها، وألقوا بعضها فوق بعض حتى صاروا خلفها، فسارع معز الدولة وحمل بمن معه، فكانت الهزيمة على روزبهان، وأخذ أسيراً وقتل من أصحابه خلق كثير، ولما بلغ الخبر بغداد لم يصدقه الناس لما علموا من قوة روزبهان وضعف معز الدولة، فعاد إلى بغداد ومعه روزبهان ليراه الناس ثم قتله، وبدأ في سياسة توازن بين الأتراك وبين الديلم.

 

وفي سنة 347 سار معز الدولة بجيشه إلى الموصل، وذلك لأن ناصر الدولة ابن حمدان تأخر في حمل المال المفروض عليه، ففارقها ناصر الدولة إلى نصيبين، ودخلها معز الدولة، ثم سار منها إلى نصيبين، ففارقها ناصر الدولة، وتوجه إلى أخيه سيف الدولة بحلب، فراسل سيف الدولة معز الدولة في الصلح، فامتنع من الاتفاق مع ناصر الدولة لخلفه معه، فتعهد سيف الدولة بذلك وأخذ من أخيه مقابل ذلك ديار مضر، وهي اليوم شريط الحدود بين سوريا وتركيا، وعاد معز الدولة إلى بغداد في أول سنة 348.

 

قال ابن كثير في البداية والنهاية بعد أن ذكر هذا الخبر: قد امتلأت البلاد رفضا وسبا للصحابة من بني بويه وبني حمدان والفاطميين، وكل ملوك البلاد مصرا وشاما وعراقا وخراسان وغير ذلك من البلاد، كانوا رُفَّضا، وكذلك الحجاز وغيره، وغالب بلاد المغرب، فكثر السب والتكفير منهم للصحابة.

 

وفي سنة 350 جعل معز الدولة منصبي قائد شرطة بغداد ومحتسبها لمن يدفع أكثر، بل تعدى ذلك إلى أن منح وظيفة القضاء لمن يدفع له المال، وكان هذا أمراً مقصوراً في السابق على من يضمن الخراج، وهو أمر له ما يبرره، ولكن معز الدولة تعداه إلى وظائف الدولة حتى هدم به هيبة القضاء، وكان أبو العباس عبد الله ابن الحسن بن أبي الشوارب أول قاض أعطى على توليته مبلغ 200.000 درهم، فتألم الخليفة المطيع لله من هذا العمل الذي استهدف أهم ركن في الدولة، ورفض أن يأتي القاضي إليه ليلبسه خلعة القضاء ومنعه من حضور مواكبه.

 

وما لبث معز الدولة أن عزل أبا الشوارب، بمسعى من أبي عبد الله ابن الداعي العلوي، أكبر علماء الشيعة في دولته، فقد دخل عليه وسأله: أنت تعظم حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم، فقال: هلا أعطيت جدي وآله مئتي ألف، فقال مستغرباً: كيف؟ فقال: لأنك قد ضمنت القضاء لابن أبي الشوارب بمئتي ألف، والناس ترشوه في الشهوات والخمور، وما بقي من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وشريعته إلا الحكم، فلو تركت مئتي الألف هذه له! فقال: قد فعلت، ولكن انظر من يصلح للقضاء، فأثبته لي حتى أوليه لمن يعمل فيه بالواجب. فمضى أبو عبد الله ابن الداعي وسأل عالماً من أهل السنة فاقترح بعض علماء بغداد فاختار المعز أحدهم، وعرض المنصب على قاضي القضاة السابق أبي الحسن بن أم شيبان، فاستعفى وامتنع، وقال: لا حاجة لي بقضاء بغداد، إذ صار بالتعهدات!

 

وبالطبع فإن هؤلاء المتعهدين كانوا لا يريدون إصلاحاً أو تيسيراً بل كان كل همهم أن يسترجعوا ما دفعوه لمعز الدولة أضعافاً مضاعفة بظلم وحرمان العامة من حقوقها في العدل والإنصاف، وبدأ كذلك يصادر أموال المواريث وبخاصة إن خلف المتوفى مالاً وفيرا ، فصادر 300.000 دينار في سنة 351 من تركة دَعْلَج السِّجْزِي أغنى رجل في بغداد حينذاك، ومن أطرف مصادرات معز الدولة مصادرته لأبي علي الحسن بن محمد الطبري، صادره على خمسمئة ألف دينار، فلما مات الوزير الصيمري طمع الطبري في الوزارة وبذل فيها مالاً عظيماً، قدم منه أول نوبة 300.000 دينار، فلما أخذها منه معز الدولة أعطى المنصب للوزير المهلبي!

 

وكان أحد الأسباب وراء هذا الظلم المقيت أن معز الدولة باشر في بناء دار في الشِماسية ببغداد، صادر لأجلها  دور الناس وأملاكهم، وكانت هائلة المساحة واسعة العمار، وتضمنت الدار اصطبلات لخيوله التي زادت على 10.000 فرس، ولتوفير موادها هدم سور الحبس في بغداد ونقض قصر المعشوق بسامراء وحمل الآجُر إلى داره ليبنى به، وقلع أبواب حديدية كانت على مدينة أبي جعفر المنصور داخل بغداد، وقلع كذلك أبواب الرصافة وقصر الرصافة، ونقلها إلى داره، وجعل لها مُسناة، أي سداً، كبيرة عرضها 100 آجُرّة لترد دجلة من أن تفيض على الدار، وكلفت الدار 40 مليون درهم، وهو مبلغ لم يكن موجوداً في خزانته، فأخذ يجمعه بمصادرة الناس والتجار، وتضمين المناصب بشكل يندى له الجبين، وبقيت هذه الدار قائمة قرابة 55 سنة، ثم نقضها أسلافه من البويهيين في سنة 418، فجاء من تعهد شراء ما في سقوفها من الذهب فقط بمبلغ 8.000 دينار.

 

وإذ تحدثنا عن البناء نقول كذلك إن معز الدولة بدأ في سنة 355 في إنشاء مستشفى في بغداد على شاطئ دجلة، وأوقف عليه الأوقاف ولكنه مات قبل أن ينتهي المشروع، ويبدو أن بغداد عاد إليها الازدهار والعمران بعد سنوات القحط والعذاب، فقد ذكر إبراهيم بن هلال الصابي كاتب معز الدولة أن ركن الدولة الأخ الأكبر لمعز الدولة كتب إلى أخيه: ذُكِر لنا كثرةُ المساجد والحمامات ببغداد، واختلفت علينا فيها الأقاويل، وأحببنا أن نعرفها على حقيقة وتحصيل، فتعرِّفَنا الصحيح من ذلك. فأمر معز الدولة بعدِّ المساجد والحمامات، فبلغ عدد الحمامات بضعة عشر ألف حمام، فلما قال الصابي لمعز الدولة عددها، قال: اكتبوا لأخي في الحمامات أنها أربعة آلاف. تقليلاً من عددها لإشفاقه أن يحسده أخوه على بلد هذا عِظَمُه وكبره. قال الصابي: فأما المساجد فلا أذكر ما قيل فيها كثرة.

 

وفي سنة 351 أمر معز الدولة الشيعة أن يكتبوا على أبواب المساجد لعن الخلفاء الراشدين والصحابة، فلما كان الليل محاه بعض الناس، فأراد معز الدولة إعادته، فأشار عليه الوزير المهلبي أن يكتب مكان ما محى: لعن الله الظالمين لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يذكر أحداً في اللعن إلا معاوية، ففعل ذلك.

 

ثم أمر معز الدولة الناس في العاشر من المحرم من سنة 352 أن يغلقوا دكاكينهم، ويبطلوا الأسواق والبيع والشراء، وأن يظهروا النياحة، ويلبسوا ثيابا عملوها من المسوح، وأن تخرج نساء الشيعة منشرات الشعور مسودات الوجوه قد شققن ثيابهن، ويدرن في البلد بالنوايح، ويلطمن وجوههن على الحسين بن علي بن أبي طالب، ففعل الناس ذلك، وهو أول من استحدث النوح واللطم في عاشوراء.

 

وفي 18 ذي الحجة من سنة 352 أمر معز الدولة بالاحتفال بيوم غدير خُمّ، بإظهار الزينة في البلد، وأشعلت النيران بمجلس الشرطة، وأظهر الفرح، وفتحت الأسواق بالليل، كما يفعل ليالي الأعياد، وضربت الطبول والبوقات، وقد ورد في غدير خم حديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر لنا، فنزلنا بغدير خم، ونودي الصلاة جامعة، وكُسِحَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرتين، فصلى الظهر، وأخذ بيد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: ألستم تعلمون أنّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى، قال: ألستم تعلمون أنّي أولى بكل مؤمن من نفسه؟ قالوا: بلى، فأخذ بيد علي وقال: من كنت مولاه فعليٌّ مولاه؛ اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه. قال: فلقيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: هنيئاً لك يا ابن أبي طالب، أصبحتَ وأمسيتَ مولى كل مؤمن ومؤمنة.

 

ومع هذا فإن الدولة البويهية على تشيع سلاطينها، ورغم ابتداعها للنياحة واللطم في عاشوراء، وللاحتفال بيوم الغدير، لم تحاول في أغلب الأحيان فرض مذهبها على الرعية أو نشره بينهم، بل تركت القضاء والمدارس على حالها في أيدي علماء السنة، وتعاملت معهم بكثير من الاحترام والتقدير، وكانت الدولة الفاطمية في مصر دولة شيعية كذلك، والمنطق الشرعي يقتضي من البويهيين أن يدينوا للفاطميين لأنهم في الظاهر ورثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن حتمت مصالح الحكام أن تكون العلاقات بين الدولتين أميل إلى البرودة والتباعد رغم بعض مظاهر المجاملات التقليدية.

 

وينبغي أن نشير هنا إلى الديلم كانوا قد أسلموا على يد أحد الدعاة من الشيعة الذين جاءوا من العراق، وسبب ذلك أن العباسيين لما تولوا الحكم ضيقوا على العلويين الذين كانوا يعتقدون أنهم أحق بالولاية من بني العباس، فخرج كثير من العلويين يلتمس إيجاد دولة في أطراف المملكة، وقصد عدد منهم قزوين وخراسان وأذربيجان، وقامت لهم فيها ثورات ودويلات قضت عليها الدولة العباسية، فلم يكتب لها البقاء، وقد ذكرنا من قبل أهم شخصية شيعية في عصر معز الدولة؛ ابن الداعي محمد بن الحسن بن القاسم الحسني العلوي الطالبي، المولود سنة 304 والمتوفى سنة 359، والذي ولد في بلاد الديلم، وكان يتكلم لسانهم لأن أمه منهم، ونشأ بطبرستان، وكان معز الدولة يبالغ في تعظيمه حتى أنه قبل يده مرة، مستشفيا بها، وهو مريض، قال عنه الإمام الذهبي في السير: كان فيه تشيع بلا غلو، كان يمتنع من الترحم على معاوية رضي الله عنه، ولا يشتم الصحابة. وفي آخر أمره خرج ابن الداعي في غياب معز الدولة إلى بلاد الديلم فبايعه جماعة فيها وأسس دويلة تلقب فيها بالإمام وتركه البويهون فلم يواجهوه، ثم مات مسموماً من منافس له.

 

ولا بد أن نذكر هنا أن بني بويه ومن معهم من الديلم، كانوا يرون أن بني العباس قد غصبوا الأمر من العلويين، وأن معز الدولة عزم على تحويل الخلافة إلى العلويين، واستشار أصحابه فكلهم أشار عليه بذلك، إلا رجلا واحدا من أصحابه، كان سديد الرأي فيهم، فقال: لا أرى لك ذلك. قال: ولم ذاك؟ قال: لأن العباسي خليفةٌ ترى أنت وأصحابك أنه غير صحيح الإمارة، حتى لو أمرتَ بقتله قتله أصحابُك، ولو وليتَ رجلا من العلويين اعتقدتَ أنت وأصحابك أن ولايته صحيحة، فلو أمرتَ بقتله لم تُطَع بذلك، ولو أمر هو بقتلك لقتلك أصحابك. فأعرض معز الدولة عن الأمر وبقيت الخلافة في بني العباس.

 

وفي سنة 352 بدا لمعز الدولة أن يفتح عمان لخصومة استحكمت بينه وبين صاحبها يوسف بن وجيه، فأرسل الوزير المهلبي على رأس جيش، ولكنه اعتل علة شديدة، فأعيد إلى بغداد فمات في الطريق، وصادر معز الدولة أمواله وذخائره، واستخلص أموال أهله وأصحابه وحواشيه حتى ملاحيه ومن خدمه يوما واحدا، فاستعظم الناس ذلك واستقبحوه، فكانت خسارة مزدوجة لمعز الدولة، خسر فيها وزيره الفاضل الصالح، وخسر فيها احترام الناس له.

 

وفي منتصف سنة 353 خرج معزّ الدولة إلى الموصل غضباناً على ناصر الدولة ابن حمدان، فملكها وهرب ناصر الدولة إلى نصيبين، فتبعه معز الدولة، ففارقها وبعث أولاده إلى الموصل لقتال من فيها، فرجع إليهم معز الدولة فهربوا، فسار نحو بغداد، فجمع ناصر الدولة أولاده وهاجم الموصل، فأسروا من قادة معز الدولة حوالي 70 قائداً و600 جندي، واستولوا على 130.000 درهم، فأخذها ناصر الدولة وخرج من الموصل ومضى إلى حلب عند أخيه سيف الدولة، وجرت محادثات للصلح انتهت بالاتفاق على إطلاق الأسرى وردِّ 80.000 درهم، وعاد ناصر الدولة إلى الموصل، ولم يزل بها إلى أن خلعه ابنه سنة 356.

 

وفي سنة 354 سير معز الدولة جيشاً إلى عمان بعد سماعه بوفاة حاكمها، فدخل الحاكم الجديد في طاعة معز الدولة وضرب اسمه على الدراهم والدنانير، ولكن ما أن غادر جيش معز الدولة عمان حتى ثار بعض وجهائها وطردوا الحاكم وأدخلوا القرامطة إلى البلد، فسار الحاكم إلى معز الدولة وكان في منطقة البطائح يقاتل المتمرد عمران بن شاهين، فجهز جيشاً حمله في مئة مركب، واستعان بابن أخيه عضد الدولة فأرسل له جنداً وأبحر الجميع من ميناء سيراف في الجانب الفارسي من الخليج، فساروا إلى عُمان وفتحوها في آخر سنة 355، وخطب فيها لمعز الدولة وصارت تابعة له.

 

وفي أوائل سنة 356 كان معز الدولة في واسط يحارب أحد الخارجين عليه، فأصيب بعلة الذّرب، أي الإسهال الدائم، فعاد إلى بغداد للاستشفاء، فبقي فيها شهرين والمرض يتفاقم، ولما شعر بدنو منيته استحضر بعض العلماء ليسأله عن التوبة ورد المظالم، فسأله عن الصحابة فذكر له سوابقهم وأن علياً زوّج ابنته من فاطمة بعمر رضي الله عنهم، فاستعظم ذلك وقال: والله ما علمتُ بهذا قط! وتبرأ مما كان قد فعله من قبل، وأعتق مماليكه وتصدق بأكثر ماله، وردَّ كثيراً من المظالم، وأدركته المنية في بغداد  في 17 ربيع الآخر سنة 356 ، ودفن في داره، ثم نقل إلى مشهد بني له في مقابر قريش.

 

ونعود هنا القهقرى لنتحدث عن نشأة معز الدولة وإخوته، فنقول: ولد أحمد بن بويه بن فَناخسرو في سنة 303، ويذكر المؤرخون له نسباً طويلاً ينتهي إلى الملك سابور ذي الأكتاف وبيت المُلك العريق في فارس، وكان أصغر إخوة ثلاثة بدأوا في عامة الناس وانتهوا إلى الإمارة، وكان أحمد بن بويه في أول أمره يحمل الحطب على رأسه ليبيعه، وتذكر بعض المصادر قصة عن والده بويه الملقب بأبي شجاع، وأنه كان صياداً وأن منجماً أخبره بعد وفاة زوجته أن أولاده الصغار سيكونون ملوكاً يملكون الأرض ويعلو ذكرهم في الآفاق، وهذه القصة وأمثالها مما يشيع كثيراً حول الملوك والأمراء الصاعدين، ولعلها وأمثالها مما أشاعه المتسلطون أنفسهم تمكيناً لهم في نفوس العامة وتوطيداً لسلطانهم في المجتمع.

 

وخرج الوالد بأولاده، علي والحسن وأحمد، إلى خراسان فعملوا في عسكر مرداويج بن زيار الدَّيْلَمِي، إلى أن صار عليّ قائداً، فأرسله يستخرج له مالاً من الكُرْجِ، وهي جورجيا اليوم، فاستخرج خمسمئة ألف درهم، فأخذ المال وأتى همدان ليملكها ويستقل عن مرداويج، فغلّق أهلها في وجهه الأبواب، فقاتلهم وفتحها عَنْوةً وقتل خلقاً، ثم تحرك منها إلى إصفهان ثم أرجان وتنقّل في النّواحي، وانضم إليه خلْق، فأخذ الأموال، وصارت خزائنه خمسمئة ألف دينار، فقصد شيراز واستولى عليها، ولما تمكنت له الأمور راسل الخليفة العباسي الراضي في بغداد وطلب منه تقليده هذه الأقاليم استكمالاً لشرعيته، على أن يحمل مبلغاً من المال إلى خزانته في كل سنة، فأجابه الراضي لذلك وأرسل له رسولاً بالخلعة واللواء.

 

وبسط أخوه الحسن سلطانه على أصبهان والري وجميع عراق العجم، وفي المعارك التي خاضوها برزت شجاعة الأخ الأصغر أحمد بن بويه، ويرد أول ذكر له في سنة 322 في الموقعة التي استولى بعدها أخوه عماد الدولة على شيراز.

 

ولما تمكن أخواه أرسلاه في سنة 324 إلى إقليم كرمان ليستولي عليه ويصير أميره، فلما وصلها سمع به أميرها فتركها ورحل إلى سجستان من غير حرب، فملكها معز الدولة، وكان بتلك النواحي طائفة من الأكراد قد تغلبوا عليها، وكانوا يحملون لأمير كرمان في كل سنة شيئاً من المال بشرط أن لا يطأوا بساطه، فلما وصل معز الدولة سير إليه رئيس القوم، ويدعى علي كلويه، وأخذ عهوده ومواثيقه بإجرائهم على عادتهم، ففعل ذلك، ثم أشار عليه كاتبه بنقض العهد وأن يسري إليهم على غفلة ويأخذ أموالهم وذخائرهم، ففعل معز الدولة ذلك، وسار إليه في عدد غير كبير، ولكن علياً كان قد وضع الجواسيس على معز الدولة، فلما علم بغدره كمن له في مضيق ثم هاجمه فقتل أغلب أصحابه أو أسروا، وجرح معز الدولة عدة جراحات، وأصابته ضربة في يده اليسرى، فقطعتها من نصف الذراع، وأصابت ضربة أخرى يده اليمنى فسقط بعض أصابعه، وسقط إلى الأرض مثخناً بالجراح، ورآه في اليوم التالي علي فأحضر له الأطباء، وبالغ في علاجه،  وأرسل إلى أخيه الكبير عماد الدولة يعرفه عذره في الهجوم عليه بسبب غدره، ويؤكد طاعته للبويهيين، فقبل منه عماد الدولة ذلك وصالحه.

 

وعاد معز الدولة فيما بعد لينتقم من علي كلويه، فقتل منهم عددا كثيرا، وانهزم عليَ، وكتب معز الدولة إلى أخيه عماد الدولة بما جرى له معه، فأرسل إليه أخوه رسولاً يأمره بالوقوف مكانه وألا يتجاوزه وأن يعود إليه إلى فارس، فعاد إلى أخيه، وأقام عنده حتى جاءهم أبو عبد الله البريدي منهزماً من ابن رائق وبجكم، وأطمع عماد الدولة في العراق، فسير معه معز الدولة الذي رأينا كيف استولى في النهاية على العراق بجهوده ومثابرته وكذلك بضعف الدولة التي نخرها التسلط والفساد.

 

وبقيت الدولة البويهية إلى سنة 447، حين جاء الملك السلجوقي طُغرل بك من فارس إلى بغداد وقبض على الملك الرحيم آخر ملوكها وسجنه حتى مات، وكانت دولة السلاجقة تتبع المذهب السني وتعاملت مع الخلفاء باحترام زائد وتعظيم لا مثيل له.

 

كان معز الدولة حديد الطبع، بذيء اللسان، يكثر سب وزرائه وحاشيته، سهل الاستثارة، سريع الغضب، ضرب وزيره المهلبي 150 مقرعة على المظنة، وكان إذا غضب جداً يأمر بالقتل، ويكره أن يتم ذلك، ويعجبه أن يُسأل العفو، فإذا برد غضبه وسكن تدارك ما فرط منه.

 

ومما استجد في زمانه رياضتان: هما المشي السريع والمصارعة، أما المصارعة فكان معز الدولة يهواها ويقيم لها حلبة في ميدانه، ويقيم قربها شجرة يابسة على أغصانها الجوائز من الثياب الفاخرة وتحتها أكياس فيها دراهم، وكان يأذن للعامة في دخول الميدان بالطبول والزمور يشجعون من ينحازون إليه من المتصارعين، ثم تجري المباراة على قرع الطبول الرسمية فمن غلب أخذ الثياب والشجرة والدراهم، وصارت رياضة المصارعة الشغل الشاغل لشباب بغداد، فصار في كل موضع حلبة، فإذا برع أحدهم، صارع بحضرة معز الدولة، فإن غلب، أجريت عليه المكافآت، وانتقل الأمر من المصارعة للتنافس في السباحة، فتعاطاها أهل بغداد حتى أحدثوا فيها الطرائف، فكان الشاب منهم يسبح قائماً، وعلى يده كانون فوقه حطب يشتعل تحت قدر، إلى أن تنضج، ثم يأكل منها، إلى أن يصل إلى دار السلطان.

 

أما المشي السريع فقد نشأ من حاجة معز الدولة لتبادل الرسائل مع أخيه ركن الدولة في الري، فكان السعاة، ويسمى واحدهم الفيج، يقطعون المسافة من بغداد إلى أصفهان في مدة قريبة، وكان معز الدولة أول من استحدثه في الدول الإسلامية، وكان يثيب السعاة الجيدين بالمكافآت، فحرص أحداث بغداد وضعفاؤهم على ذلك، حتى انهمكوا فيه وأسلموا أولادهم إليه، وكان عند معز الدولة ركابيان، يعرف أحدهما بمرعوش، والآخر بفضل، يسعى كل واحد منهما ما يزيد على 30 فرسخاً في اليوم، أي 150 كيلومتراً، وكان أحدهما من السنة والآخر من الشيعة، فتعصب لكل منهما فرقة من الناس.

 

وكما كان معز الدولة محظوطاً بالوزير المهلبي في مروءته وتدبيره، كان محظوظاً في كاتبه الذي كانت تصدر رسائله عنه؛ أبو اسحق الصابىء، إبراهيم بن هلال، صاحب الرسائل المشهورة والنظم البديع، وكان في هذا الفن أمة، وكان كلدانياً متشددا في دينه، وكان يصوم شهر رمضان، ويحفظ القرآن الكريم أحسن حفظ ويستعمله في رسائله، واجتهد به معز الدولة أن يسلم فلم يفعل.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين