مفارقات بين الخنساء بنت عمرو والخنساء أم نضال فرحات

أد.صلاح الدين سلطان
 
خنساء الماضي هي تماضر بنت عمرو السلمية ولدت 575م، وتوفيت سنة 24هجرية/ 645م، ولقبت بالخنساء بسبب ارتفاع أرنبة أنفها، ولقد اشتهرت في الجاهلية بأعظم مرثية شعرية لأخويها صخر ومعاوية اللذين قتلا في الجاهلية، قال عنها نابغة الذبياني: "الخنساء أشعر الجن والإنس"، وذلك بعد أن سمع قصيدتها في رثاء أخيها صخر حيث قالت:
قذى بعينيك أم بالعين عوار     أم أقفرت إذ خلت من أهلها الدار
كأن عيني لذكراه إذا خطرت    فيض يسيل على الخدين مدرار
وإن صخرا لوالينا وسيدنا       وإن صخرا إذا نشتو لنحَّار
وإن صخرا لمقدام إذا ركبوا        وإن صخرا إذا جاعوا لعقَّار
وإن صخرا لتأتم الهداة به          كأنه علم في رأسه نار
جلد جميل المحيا كامل ورع        وللحروب غداة الروع مسعار
حمَّال ألوية هبَّاط أودية        شهَّاد أندية للجيش جرار
نحَّار راغية ملجاء طاغية           فكاك عانية للعظم جبار
وقد جادلها حسان بن ثابت في الجاهلية فقال لها: أنا أشعر منك ومن الأعشى، فطلب منها النابغة أن تجادله، فسألته: أي بيت هو الأفضل في قصيدتك فقال:
لنا الجفنات الغُر يلمعن في الضحى        وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
فقالت له: إن في هذا البيت سبعة من مواطن الضعف،قال: كيف؟فقالت الخنساء: الجفنات دون العشر، ولو قلت الجفان لكان أكثر، وقلت: "الغُر" والغرة بياض في الجبهة، ولو قلت: "البيض" لكان البياض أكثر اتساعا، وقلت “يلمعن”، واللمعان انعكاس شيء من شيء، ولو قلت “يشرقن” لكان أفضل، وقلت: "بالضحى" ولو قلت: "الدجى" لكان المعنى أوضح وأفصح، وقلت: "أسيافا" وهي دون العشرة، ولو قلت “سيوف” لكان أكثر، وقلت: "يقطرن" ولو كانت "يسلن" لكان أفضل، فلم يجد حسان كلمة يرد بها.
وقد أسلمت الخنساء مع قومها فاشتد بكاؤها على أخويها بعد إسلامها ولما سئلت قالت: كنت أبكي لهم من الثأر واليوم أبكي لهم من النار، وفي موقعة القادسية خرجت مع المسلمين في جيش عمر تقاتل مع أبنائها الأربعة وهم عمرة، وعمرو، ومعاوية ويزيد، وقبل بدء القتال أوصتهم فقالت: يا بَنيَّ لقد أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، ووالله الذي لا إله إلا هو إنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم.. إلى أن قالت: فإذا أصبحتم غدا إن شاء الله سالمين، فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها، وجعلت نارا على أوراقها، فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها عند احتدام خميسها، تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة.
وعندما دارت المعركة استُشهد أولادها الأربعة واحدا بعد واحد، ولما بلغ الخنساء خبر مقتل أبنائها الأربعة قالت: (الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته).
كما غيَّر الإسلام دمع الحزن من الثأر في الجاهلية لدى الخنساء إلى دمعات خشية على أخويها من النار، وحول الإسلام العظيم شعرها المدرار في رثاء أخويها إلى كلمات من نور تحفيزا لأبنائها أن يصبروا في القتال، وأن ينازلوا الأبطال ليخضوا غمار الحرب بالله مستنصرين؛ أملا أن يظفروا بالشهادة والكرامة في دار الخلد والمقامة، ولما قُتل أبناؤها الأربعة كان ردا عكسيا لبكائها على أخويها إذ تحول إلى فرح أن قدمت أولادها شهداء أوفياء كرماء أنقياء، وحمدت الله على تشريفه لها بقتلهم شهداء، وهي الأم الحنون لم تنس قلبها فدعت ربها أن يجمعها بأولادها في مستقر رحمته.
وكأني اليوم مع خنساء العصر مريم فرحات أم نضال تعيد إلينا ما قاله الشاعر السموأل:
إذا سيد منا خلا قام سيد     قؤول لما قال الكرام فعول
فها نحن اليوم أمام حالة فريدة في تاريخنا المعاصر إنها السيدة مريم محمد يوسف فرحات التي وُلدت سنة 1369هـ / 1949 بحي الشجاعية في مخيمات الأبطال الفلسطينيين، ولديها من الإخوة عشرة ومن الأخوات خمس، تفوقت دراسيا، ونجحت عائليا في تربية ستة من الأبناء وأربع من البنات، وكانت ناجحة رائدة في التدريس في مدرسة الزهراء، ورائدة في العمل السياسي في المجلس الفلسطيني الوطني، وترملت بعد وفاة زوجها وعاشت للجهاد وللقتال، وصناعة النساء والرجال، وخوض المعارك بكل صبر واستبسال، وقدمت بيدها ثلاثا من أولادها إلى الشهادة واحدا بعد الآخر، أولهم نضال الذي كان أول من صنع صاروخا في تاريخ الكفاح الفلسطيني ضد العدو الصهيوني، وقد حدثتني مشافهة في بيتها العامر في غزة، فقالت: صنع ولدي الصاروخ وكنت أتابعه يوما بيوم، واستحثه أن تنتقل المقاومة من الحجر إلى السكين ومنه إلى البندقية والصاروخ والطائرة الحربية، فلما أتم ولدها نضال صناعة أول صاروخ جاءها قبل غيرها مبشرا إياها باكتمال خطته بتيسير الله له أن يصنع الصاروخ الأول في تاريخ الحرب على الصهاينة صناعة مائة بالمائة في أرض فلسطين المحتلة، فاحتضنته ولم يكن بينهما إلا هذا الصاروخ الوليد (الصاروخ القسامي)، ثم ذهب به بعد أمه أولا إلى أبيه في التربية والتضحية والبطولة والجهاد الشيخ أحمد ياسين رحمه الله، واستأذنه أن يطلقه على الكيان الصهيوني، وكانت المفاجأة من بيت أم نضال تغيرت موازين المعارك والقتال، فمن صاروخ القسام الذي صنع على يد نضال وأم نضال تطور الصاروخ إلى 75 كم ليصل إلى العمق الصهيوني في 2012م في حرب سميت حجارة من سجين ليصل إلى 200م فقط من وزارة الدفاع الصهيونية، و300م من الكنيست الصهيوني، ودخل الصهاينة في تل الربيع (تل أبيب) كالجرذان إلى جحورهم!، ولم يتوقف نضال عند صناعة الصاروخ الأول بل أصر أن يكمل المشوار ليصنع طائرة بلا طيار لكي تحمل المتفجرات وتهبط منفجرة في المواقع الاستراتيجية في بني صهيون، لكنه قتل بانفجار جزء من طائرة صهيونية كانت قد فخخت له من خلال أحد الخونة، واستقبلت أم نضال خبر استشهاد ولدها بالصبر الجميل، والفرح الجزيل أن أكرم ولدها نضال بالشهادة أملا أن يكون في أعلى عليين في الجنة، ودفعت ببقية أولادها الستة إلى كتائب القسام وألبست بيدها محمد ورواد لبسة الحرب، وحمَّلتهم سلاح الضرب، وشجعتهم بكلمات الإيمان، والصبر والإقدام، والاستعداد للقاء الرحمن، والعرس في أعلى الجنان، وذهبا أمام ناظريها وهي تعلم أنها لن تراهما إلا في دار الخلد.
وهاهم بقية أولادها حسام ووسام ومؤمن أسودا في الميدان، ورجالا يحملون أمانة مشروع تحرير الأسرى والأقصى والقدس وفلسطين بكل إخلاص وتجرد ورجولة ومروءة وفتوة وحمية مستمدة من فيض الرحمن، ثم من هذه الأمومة الراقية القوية الفتية على أعداء الله، النقية الندية على المجاهدين والمرابطين أنصار الله، وبناتها الأربع يحملن الرسالة ويؤدين الأمانة بكل قوة وبسالة، فإذا دخلت البيت فهو بيت الجهاد والاستشهاد، بيت تفاجؤك فيه أول ما ترى أم نضال رحمها الله تدهش النور الرباني يكسو وجهها، فلا تستطيع أن تطيل النظر إليها حياء وتقديرا واحتراما، ثم ترى بسمة رائقة فيها لمسة من الحزن على أحوال أمتنا، وفيها نسمة من الأمل على مستقبل جهادنا لنصل إلى تحرير كامل التراب الفلسطيني بإذن الله، وننطلق منه إلى أمة القيادة والريادة والشهادة على العالمين، فإذا تكلَّمت أم نضال فلا تسمع إلا أرفع المقال، وكأن قوله تعالى: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (الإسراء من الآية:53)، قد تجسد في كلماتها الطيبات، وتشعر أنها ذائبة في حب الله، هائمة في حب رسول الله، مفعمة بحب الجهاد والشهادة في سبيل الله، وتلحظ فيها شخصيتين في روح واحدة، فهي شديدة التواضع والذلة للمؤمنين، شديدة الحدة على الصهاينة والظالمين، وكأنما فطرت من ربها على قوله تعالى: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (المائدة من الآية54).
وأشهد الله أنني ما وجدت حنانا وحبا وتقديرا بعد وفاة أمي مثلما وجدته من أمي أم نضال رحمهما الله تعالى، وقد قالت أم دعاء صديقتها الحميمة ما أبكاني وأشجاني نقلا على لسان أم نضال: "والله لقد دخل عليَّ الكثير، فما وجدت أحدا أحدِّثه كما أحدِّث "ولدي نضال" مثل صلاح سلطان"، وقد نقل إليَّ ولدها حسام مثل هذا مرارا، وقد كانت أول امرأة تتصل بي بعد عدد من البرامج الفضائية، شاكرة في أدب جم، مقدرة في حب متدفق، كنت به مغتطبا سعيدا لأنه من أمي الربانية أم نضال.
ولما كنت في غزة هاشم كان يحلو لي مع دعواتها الكريمة أن أذهب لأتناول السحور عندها في رمضان، لكن لم أكن أذهب جائعا بل متعلما راغبا في أن يمسح الله على قلبي بدعواتها، وأن أشد من عزمي بكلماتها، ولما مرضت في غزة ونقلت إلى المستشفى طلبت أولادها من ساحات الرباط لكي يكونوا بجانبي فجاؤوا يخبرونني أن الأم في البيت تبكي، فخرجت من المستشفى إلى المسجد أولا، ثم ذهبت إلى بيتها مباشرة أطمئنها علي فلم أر إلا عينا باكية مشفقة كأنها حقا أمي التي ولدتني!.
وكم حزنت أن أتأخر عن جنازتها لكني استرجعت روحها، وقلت لو كانت أمي أم نضال حية وسألتها أن أترك لقاء هو لله أولا، ثم لمصر ثانيا، ثم لاستثمار واسترداد الأوقاف المسلوبة ثالثا، في لقاء مع رئيس الوزراء د.هشام قنديل، والعالم الرباني وزير الأوقاف الشيخ د.طلعت عفيفي، والقائد الرباني العالم المهندس د.محمد علي بشر وزير التنمية المحلية وآخرين من الوزراء والوكلاء، وصبَّرت نفسي تقديما لمصلحة أمتي وبلدي وخرجت من مجلس الوزراء مباشرة إلى غزة هاشم، ووصلت في العاشرة ليلا، وتوجهت إلى أبي العبد إسماعيل هينة دولة رئيس الوزراء لأقدم له العزاء، فوجدته بين آلاف الشباب جاؤوا من كل بلاد العالم في مؤتمر حاشد تحت عنوان: "دور الشباب بعد الربيع العربي في خدمة القضية الفلسطينية" وتوجهت مع أخي أبي العبد وأخي المجاهد صفوت حجازي إلى الأسير المحرر أيمن الشراونة الذي كان قد جاء لتوه منذ خمس دقائق من السجون الصهيونية بعد إضراب عن الطعام 260 يوما لم يأكل طعاما قط، ولم يشرب إلا الماء ونزل وزنه 50 كيلو جراما، وحدثنا فقال لقد كان يضع الصهاينة دائما أشهى الطعام أمامي ومارسوا كل الضغوط، وصبرت وصابرت واحتسبت، لكن المفاجأة أنني عندما انحنيت لأقبَّل يده ورأسه حبا وتقديرا، فقام من رِقدته ليقبَل يدي ويعصرها كأنه أسد جاء من الميدان، فقلت حقا إن فيها قوما جبارين، وإنهم لبني صهيون لغائظون، وأيقنت أن أبي في الله الشيخ أحمد ياسين وأمي في الله أم نضال قد تركوا وراءهم أعظم الرجال وأصلب الأبطال، وسوف تقرُّ أعينهم بتشريد الصهاينة الأنذال مغادرين أرض فلسطين يجرون الأذيال من الخزي والهزيمة والعار.
وذهبت بعدها إلى البيت العامر بيت أم نضال لألقى أولادها يبتسمون للقدر الرباني، وكأنهم قد تيقنوا أن أمهم لم ترحل، وإنما انتقلت من دار الفناء إلى دار الخلد، ومن عيش الأرض إلى جوار الله تعالى استئناسا بقوله عز وجل: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (آل عمران: 169)، ولا غرو أنها كانت في مصر تعالج ثم رأت رؤيا كما حدثني ولدها حسام أنها رأت الشهيد عماد عقل الذي تربى في حضنها وقتل أمام بيتها، وسمت حفيدها من نضال عماد عقل، قد جاءها في المنام وقال لها: أريد أن أراك في غزة، فأيقنت أنها سترحل إليه من بوابة غزة رمز العزة، فأصرَّت أن تعود في اليوم التالي، وهي التي كانت ويشهد الله تقول نثرا وشعرا في حب مصر وأهلها وقيادتها الآن.
رحم الله خنساء الماضي تماضر بنت عمرو وخنساء الحاضر أم نضال فرحات، وأملنا أن تكون النساء اليوم مثل خنساء الماضي والحاضر وأن يكون الرجال مثل أولادهم عمرة، وعمرو، ومعاوية ويزيد، ونضال، ومحمد، ورواد، وحسام، ووسام، ومؤمن، وكرام الشهداء والمرابطين.
معا على طريق الجهاد فإما النصر أو الاستشهاد.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين