المقاصد الاقتصادية الإسلامية - حفظ المال وتنميته (2)

بعد أن تناولنا مقصد الاستخلاف كأول مقصد للمقاصد المالية الإسلامية في عدد سابق من هذه السلسلة، نتناول في هذا العدد المقصد الثاني؛ وهو مقصد «حفظ المال وتنميته»؛ حيث إن حفظ المال ونماءه بتحقيق أرباح تحميه وتكتب له الاستمرارية من قوام كليات الشريعة؛ فحفظ المال هو أحد الضروريات الخمس التي جاءت الشريعة برعايتها، وهي: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال.

حفظ المال من الأهمية بمكان لباقي الضروريات لقدرته على المساهمة في تحقيقها؛ فالمال يساهم في حفظ الدين من خلال توجيهه لنشر الوعي بالدين، فضلاً عن أهميته في تحقيق أركان الإسلام؛ فالصلاة تحتاج إلى ملبس لسد العورة ومسجد للصلاة فيه، والمال هو ما يوفر ذلك، والزكاة قوامها المال، وسهم المؤلفة قلوبهم في الزكاة له قدرة كبيرة على تأليف القلوب والدخول في الإسلام، والصيام يحتاج للمال إفطاراً وسحوراً، والحج من موجباته الاستطاعة وفي مقدمتها الاستطاعة المالية.. إلخ.

والمال يحفظ النفس من الوقوع في براثن الفقر الذي قد يصل بالإنسان للانتحار بقتل النفس والكفر؛ لذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر» (رواه أحمد)، كما أن المال يعمل على تنمية العقل من خلال الاستثمار في التعليم والصحة ونحوها، فضلاً عن دوره في حفظ النسل من خلال تمكينه للإنسان من الزواج ومن ثم تكوين الأسرة المسلمة.

سبل حفظ المال

يقول الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: «أصل حفظ المال قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ﴾ (النساء: 29)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا» (رواه ابن ماجة)، وقوله: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس» (رواه الدارقطني)، وقوله: «من قُتل دون ماله فهو شهيد» (رواه البخاري)، وهو تنويه بشأن حفظ المال وحافظه وعظم إثم المعتدي عليه، وإذا كان ذلك حكم حفظ مال الأفراد، فحفظ مال الأمة أجلّ وأعظم».

ويضيف: «ونظام نماء الأموال وطرق دورانها هو معظم مسائل الحاجيات كالبيع والإجارة والسلم.. والمقصد الأهم هو حفظ مال الأمة وتوفيره لها، وأن مال الأمة لما كان كلاً مجموعياً، فحصول حفظه يكون بضبط أساليب إدارة عمومه، وبضبط أساليب حفظ أموال الأفراد، وأساليب إدارتها، فإن حفظ المجموع يتوقف على حفظ جزئياته، وإن معظم قواعد التشريع المالي متعلقة بحفظ أموال الأفراد، وآيلة إلى حفظ مال الأمة؛ لأن منفعة المال الخاص عائدة إلى المنفعة العامة لثروة الأمة، فالأموال المتداولة بأيدي الأفراد تعود منافعها على أصحابها، وعلى الأمة كلها، لعدم انحصار الفوائد المنجزة إلى المنتفعين بدوالها، وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً﴾ (النساء: 5)، فالخطاب للأمة أو لولاة الأمور منها، وأضاف الأموال إلى ضمير غير مالكيها، لأن مالكيها عناهم السفهاء المنهي عن إيتائهم إياها، وقوله: ﴿الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً﴾ يزيد الضمير وضوحاً ويزيد الغرض تبياناً، إذ وصف الأموال بأنها مجعولة قياماً لأمور الأمة».

كما أرسى الاقتصاد الإسلامي عدم تبديد الأموال في الطرق غير المشروعة، فأمر باختبار اليتامى قبل تسليمهم أموالهم، ونهى أولياءهم عن أكلها بالإسراف قبل أن يكبر أصحابها فيتسلموها، وحث غنيهم على العفة عن هذه الأموال، وفقيرهم عن الأكل منها بالمعروف، قال تعالى: ﴿وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيباً﴾ (النساء: 6).

ومن أجل حفظ المال شرع الإسلام أحكاماً تحميه في يد صاحبه، فحرم السرقة والنهب والغصب وشرع الحدود التي تكفل ذلك، كما حث على توثيق العقود المالية، وقد تعددت أساليب توثيق تلك العقود في الاقتصاد الإسلامي لتشمل الكتابة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾ (البقرة: 282)، ﴿وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ﴾ (البقرة: 282)، والشهادة ﴿وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾ (البقرة: 282)، والرهن ﴿فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ﴾ (البقرة: 283)، والضمان أو الكفالة ﴿وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ﴾ (يوسف: 72).

وكل هذه الوسائل تؤدي إلى تحقيق ما ذكره القرآن الكريم ﴿ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ﴾ (البقرة: 282)، فتوثيق العقود وكتابتها، والإشهاد عليها، وأخذ الضمانات لحمايتها أمر ضروري لحفظ المال، واستقرار المعاملات، وإيفاء الحقوق، وإغلاق أبواب النزاع والشقاق بين الأفراد، وقد استثنى الشارع الحكيم من الكتابة التجارة الحاضرة لطبيعتها القائمة على السرعة تيسيراً على المتعاملين ﴿إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا﴾ (البقرة: 282).

يقول السرخسي: «إنما شرع التوثيق بالكتابة لحِكم كثيرة، منها المحافظة على الأموال، ومنها قطع المنازعة بين المتعاملين، ومنها التحرز عن العقود الفاسدة، ومنها رفع الارتياب، ومنها التذكير بالحق».

تنمية المال

كما عُني الشارع الحكيم بتنمية المال من خلال الحث على الاستثمار والسعي في الأرض، ففي الترغيب في ذلك آيات كثيرة منها قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ (الملك: 15)، ﴿وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ﴾ (المزمل: 20)، كما روي أَنَسٍ بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَزْرَعُ زَرْعاً، أَوْ يَغْرِسُ غَرْساً، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ، أَوْ إِنْسَانٌ، أَوْ بَهِيمَةٌ إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ» (رواه البخاري).

كما ربط الاقتصاد الإسلامي بين الملكية الفردية والعمل على تنمية المال، فأجاز التملك عن طريق العمل، وعن طريق الاستثمار المشروع الذي يحقق الرفاهية للفرد والمجتمع، وفي سبيل ذلك حث المسلم على تحقيق ربح يرضي نفسه -دون جشع أو أثرة أو طمع– ويلبي طموحه في استمرارية ونمو مشروعه، ويحقق معادلة «نعم المال الصالح للمرء الصالح» (رواه أحمد).

ويبدو حرص الاقتصاد الإسلامي على تنمية المال وتحقيق الربحية من خلال إيجابه استثمار المال وعدم تركه عاطلاً، وقد روى الإمام مالك في الموطأ أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه كان يقول: «اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة»، وفي قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً﴾ (النساء: 5) دعوة واضحة لتنمية المال؛ ففي الآية «ارْزُقُوهُمْ فِيهَا» وليس «منها»؛ وهو ما يعني استثمار المال ليكون الإنفاق عليه من الربح لا من رأس المال حتى لا يستهلك وينفد، كما أن من المبادئ الفقهية المعروفة أن «الربح وقاية لرأس المال»، وأن «الخسارة مصروفة إلى رأس المال»، وأن «النفقة مصروفة إلى الربح».

فالربح هو الذي يقي رأس المال من النقصان، وتحقيق الربح أمر ضروري لتغطية نفقات الاستثمارات، وتحقيق عوائد مرضية، وبدون هذه الأرباح ستتحمل الاستثمارات بتغطية نفقات تشغيلها، واستمرارية هذا الوضع سيؤدي تدريجياً إلى تناقص وتآكل رأس المال، ومن ثم تصفية تلك الاستثمارات.

والاستثمار في الاقتصاد الإسلامي يقوم على الربح الاحتمالي والتقليب والمخاطرة؛ لذلك فهو يوازن بين العوائد والمخاطر، ويأخذ في الاعتبار كل الوسائل اللازمة للمحافظة على المال، وعدم الدخول في مخاطر تؤدي إلى ضياع رأس المال، وفي هذا يقول الإمام الزمخشري في تفسيره: «إن الذي يطلبه التجار في متصرفاتهم شيئان؛ هما سلامة رأس المال والربح، والتجارة سبب يفضي إلى كل من الربح والخسران.. ومن لم يسلم له رأس ماله لا يوصف بالربح».

كما أن تنمية المال وتحقيق الأرباح في الاقتصاد الإسلامي ليست كلأ مستباحاً بكافة السبل دون مراعاة للاعتبارات الإيمانية والأخلاقية، فإذا كان الأصل في المعاملات الإباحة، فإن الاقتصاد الإسلامي تحكمه مجموعة من التدابير التي تحمي من الانحراف بالمال عن مقصده، وتؤدي إلى أكله بالباطل، وأهم هذه التدابير تحريم الربا، والقمار، والغرر، والاحتكار، والغش والتدليس والخديعة، والاكتناز، والإسراف، والتبذير، والترف وغيرها.

يتبع...

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين