وصية لقمان الحكيم (1)

[ليس عليها تاريخ، وأقدر أنها مما أذيع في الرياض حوالي عام 1395= 1975].

أيها المستمع الكريم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد.

فعنوان حديثي إليك اليوم: وصية لقمان الحكيم

ما زال العقلاء من الناس يتوارثون الوصايا العظيمة الراشدة، ويتناقلونها بينهم، ويتنافسون في حفظها وروايتها، ذلك لأنها من طُرَفِ العقول ونِتاج الألباب، ومن ثمار الـخِبَر والتجارب والأزمان، ومن أجل هذا دُوِّنَت كتبُ المواعظ والإرشاد، ليستفيد الأحفاد بعقول الأجداد، وينتفع الخالف بما استفاده السالف، وفي مثلِ هذا المقام وفضلِ ما يفيده الوقوف على تجارب العقلاء قال الشاعر وهو يتحدث عن أمتع المتع الباقية بين الناس:

وما بَقِيَتْ من اللَّذات إلا=محادثةُ الرجال ذوي العقول

وفي حديثي هذا، سأسترشد للأبناء بالعبد الصالح لقمان الحكيم رضي الله عنه، فقد كان عبداً حبشياً أسود اللون مملوكاً لسيده، وكان يعمل نجاراً، وقد آتاه الله الحكمة ينطق بها ويعلمها الناس، وأثنى الله عليه وذَكَرَه في القرآن الكريم، وجعل موعظته لولده قرآناً يتلى على مسامع البشر، وذَكَرَهُ سبحانه بأحسن الذكر، وحكى من وصاياه ما يسترشد به اللبيب الأريب، وفي هذا دَلالةٌ بالغة على سَدَاد عقله ونصاعة فكره وعظيم إخلاصه فيما أوصى به ولده وأرشده إليه، ولذا أثنى الله تعالى عليه وسَجَّلَ وصاياه الحكيمة بقوله سبحانه: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِالله إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ * وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ﴾.

وإرشادات لقمان الحكيم رضي الله عنه: إرشادات الوالد الأمين الذي لا يريد لولده إلا الخير، وما يكون الوالد العاقل لولده إلا ناصحاً أميناً، والنصيحة من الوالد لولده مبرَّأةٌ من كل شبهة، بعيدة عن كل ظُلْمة، إذ الوالد أحنى الناس على ولده وأشفق الناس عليه، فهو حَفِيٌّ أن يمنحه أفضل ما يعرف وأهدى ما يستنير به ويستبين، وهي عشر وصايا.

وأول وصية أوصى بها ولده: هي التوحيد لله تعالى، بأن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا، ثم حذَّره من مغبة الشرك وعاقبته، فقال بحنان الأبوة وشفقة الوالد الرحيم: ﴿يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِالله إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم﴾. نعم وأي ظلم أعظم مِنْ جَعْلِ مع الله تعالى شريكاً، وهو الذي خلق الخلق كلهم بقدرته سبحانه دون شريك أو معين، فمَنْ جعلَ معه سبحانه معيناً أو شريكاً فذلك منه أعظم الظلم بلا ريب. وكانت وصيته لولده بالتوحيد أول الوصايا العشر، لأن ما بعدها يترتب عليها.

الوصية الثانية: بعد أن وصاه بالبعد عن الظلم في حقوق الله تعالى، أوصاه بالابتعاد عن الظلم في حقوق العباد، وتجنب المظلمة لهم مهما قلَّت أو خفَّت، فإنها معلومة لله تعالى، محفوظة على صاحبها، ومحاسب عليها يوم القيام أشد الحساب: ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾.

الوصية الثالثة: هي إقامة الصلاة التي هي عماد الدين، ومنزلتُها من الإسلام بمنزلة الرأس من الجسد: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ﴾. وإقامتُها الإتيان بها في أوقاتها على الوجه المطلوب، قيِّمةً مستقيمة خاشعة، مؤثّرة في سلوك صاحبها أطيب الأثر وأفضل الأخلاق.

الوصية الرابعة والخامسة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ﴿وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ﴾. وهذان التوجيهان العظيمان هما عماد سلامة المجتمع من ضياع الحقوق والواجبات، والأمرُ بالمعروف مثل أن يقول لمن توانى عن صلاة الجماعة: صَلِّها مع الجماعة، فإنها تَفْضُل صلاة الفرد بسبع وعشرين مرة. والنهي عن المنكر مثل أن يقول لمن رآه كاشفاً عورته: لا تكشف عورتك، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالستر فقال: إن الله حَيِيٌّ سِتِّير يحب الحياء والسَّتر، فإذا اغتسل أحدكم فليَستَتِر.

وأختم حديثي اليوم في هذه الحلقة، وإلى اللقاء في حلقة الغد إن شاء الله، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

من كتاب:" أيها المستمع الكريم" إعداد ومراجعة: محمد زاهد أبو غدة

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين