السيرة النبوية (2) بعثته وهجرته صلى الله عليه وآله وسلم

كان صلى الله عليه وآله وسلم أحسن قومه خُلقًا، وأصدقهم حديثًا، وأعظمهم أمانةً، وأبعدَهم عن الفُحش، وقد سمّاه قومه: الأمين.

وقد حفظه الله في صغره من كل أعمال الجاهلية التي جاء شرعه الشريف بضدها، وبُغِّضَتْ إليه الأوثان بغضًا شديدًا؛ حتى ما كان يحضر لها احتفالًا، أو عيدًا، وكان صلى الله عليه وآله وسلم لا يأكل مما ذبح على النُّصُب، وحرّم شرب الخمر على نفسه، مع شيوعه في قومه، وذلك كله من الصفات التي يُحَلِّي الله بها أنبياءه ليكونوا على تمام الاستعداد لتلقّي وحيه، فهم معصومون من الأدناس قبل النبوّة، وبعدها، أما قبل النبوة فليتأهلوا للأمر العظيم الذي سيُسند إليهم، وأمَّا بعدها فليكونوا قدوة لأممهم.

ولما بلغ صلى الله عليه وآله وسلم أربعين سنة: جاءه جبريل عليه السلام بالوحي من ربه (عزّ وجلّ) بفاتحة سورة: اقرأ، ثم القلم، ثم المدثر، ثم المزمل، فكان في أول أمره يدعو الناس إلى الله سرًّا؛ حتى أنزل الله عليه: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الحجر: 94] ، فأظهَرَ الدعوة بعد ثلاث سنوات من مبعثه.

وممن سبق إلى الإيمان برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : خديجة، وأبو بكر، وعلي، وزيد بن حارثة، وأم أيمن، وعثمان، والزبير، وسعد، وطلحة، وغيرهم.

ثم اشتد أذى المشركين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن آمن معه، فآذت كل قبيلة من فيها من المسلمين، فحبسوهم، وعذبوهم: بالضرب، والجوع، والعطش، وممن عُذِّب بلال رضي الله عنه ، فكان يُخرَج إذا حميت الظهيرة، ثم توضع الصخرة العظيمة على صدره، ثم يقال له: « لا تزال هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد »، فيقول: « أَحَدٌ أَحَدٌ »، وممّن عُذِّب آل ياسر.

وفي السنة الخامسة من مبعثه صلى الله عليه وآله وسلم : أشفق على أصحابه من شدة البلاء، فأمرهم بالهجرة إلى الحبشة، وممن هاجر: عثمان، ومعه زوجته رقية، والزبير، وعبد الرحمٰن.

ثم تبعهم جعفر بن أبي طالب في جماعة، حتى بلغوا ثلاثة وثمانين رجلًا، سوى النساء، والصبيان، فلما وصلوا إلى الحبشة أكرمهم النجاشي رضي الله عنه ، وأقاموا هناك عشر سنين، ولما سمع النجاشي القرآن من جعفر رضي الله عنه ، آمن، وأمر قومه بذلك فأبوا، فكتم إيمانه عنهم.

ولما رأت قريش ذلك أرسلت في إثرهم عمرو بن العاص، وعمارة بن الوليد، بهدايا إلى النجاشي ليسلّم المسلمين، فلم ينالا من النجاشي إلّا إهانة.

وفي السنة السادسة من مبعثه صلى الله عليه وآله وسلم : أسلم حمزة، وعمر رضي الله عنهما فأعزَّ الله بإسلامهما الإسلام.

وفي مستهلّ المحرّم من السنة السابعة من مبعثه صلى الله عليه وآله وسلم : تعاهدت قريش على قطيعة بني هاشم، إلا أن يسلِّموا إليهم النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم ، ويبرؤوا منه، وكتبوا بذلك بينهم صحيفة، وعلَّقوها في الكعبة.

فاعتزل بنو هاشم بن عبد مناف، وتبعهم إخوانهم بنو المطّلب بن عبد مناف، مع أبي طالب إلى شِعب أبي طالب، فأقاموا به نحو ثلاث سنين، في شدة الجهد، والبلاء؛ حتى أكلوا ورق الشجر، إلى أن سعى هشام بن عمرو، وزهير بن أبي أمية، والمطعم بن عديّ، وزمعة بن الأسود، وأبو البختري بن هشام، في نقض الصَّحيفة، ثم قاموا إلى الصحيفة ليشقوها، فأخبرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الأَرَضة قد أكلت جميعها، إلا ما فيه اسم الله، فوجدوه كما ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فخرج بنو هاشم، وبنو المطّلب من الشِّعب في أواخر السنة التاسعة.

وفي السنة العاشرة من مبعثه صلى الله عليه وآله وسلم : ماتَ أبو طالبٍ، ثم ماتت بعده خديجة رضي الله عنها بثلاثة أيام، فحزن صلى الله عليه وآله وسلم لموتهما حزنًا شديدًا، ونالت قريش منه صلى الله عليه وآله وسلم ما لم تكن تناله في حياة عمه أبي طالب.

ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو بمكة، عشرون رجلًا، أو قريب من ذلك، من النصارى حين بلغهم خبره من الحبشة، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله تعالى، وتلا عليهم القرآن، فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع، وآمنوا به، وصدقوه.

وفي هذه السنة خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف: وأقام بها شهرًا يدعو ثقيفًا إلى الله تعالى، فردُّوا عليه قوله، وعند انصرافه أغروا به سفهاءهم يسبونه، ويصيحون به.

وانصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الطائف راجعًا لمكة؛ فلما كان بنخْلة قام من جوف الليل يصلي، فمر به نفرٌ من الجن، فاستمعوا له، وأسلموا، ثم ولوا إلى قومهم منذرين، ودخل صلى الله عليه وآله وسلم مكة في الموسم.

وفي السنة الحادية عشرة من مبعثه صلى الله عليه وآله وسلم : عرض نفسه على القبائل في الموسم، فآمن به ستة من الخزرج من رؤساء الأنصار، ورجعوا إلى المدينة، فدعوا قومهم إلى الإسلام، حتى انتشر فيهم.

وفي رجب، أو رمضان من السنة الثانية عشرةَ من مبعثه صلى الله عليه وآله وسلم : أسرى الله برسوله صلى الله عليه وآله وسلم بجسده، وروحه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وصلّى بالأنبياء إمامًا، ثم عُرِج به إلى سدرة المنتهى، وفي تلك الليلة فرض الله عليه، وعلى أمته الصلوات الخمس، ورجع في نفس الليلة قبل الفجر.

وفي الموسم آخرَ تلك السنة: وافاه صلى الله عليه وآله وسلم اثنا عشر رجلًا من الأنصار بـالعقبة ليلًا، فبايعوه بيعة النساء المذكورة في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الممتحنة: 12].

وبعث صلى الله عليه وآله وسلم معهم مصعب بن عمير رضي الله عنه يقرئهم القرآن، فأسلم على يديه السَّعْدان: سعد بن معاذ سيد الأوس، وسعد بن عُبادة سيد الخزرج رضي الله عنهما ، فأسلم لإسلامهما كثير من قومهما.

وفي الموسم آخرَ السنة الثالثة عشرة: وافاهُ صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة وسبعون رجلًا من مسلمي الأنصار، فبايعوه عند العقبة، على أن يمنعوهُ ـ إن هاجر إليهم ـ مما يمنعون منه أنفسهم، ونساءهم، وأبناءهم، وأخرجوا له اثني عشرَ نقيبًا ـ تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس ـ ، ثم رجعوا إلى المدينة.

وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينئذ أصحابه بالهجرة إلى المدينة، فهاجروا إليها، وأقام صلى الله عليه وآله وسلم ينتظر الإذن من ربه تعالى في الهجرة، وأبقى معه عليًّا، وأبا بكر رضي الله عنهما .

وفي أواخر صفر من السنة الرابعة عشرة: اجتمعت قريشٌ في دار الندوة للمشاورة في أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فأجمعوا على قتله، فنزل جبريل بالوحي من الله، فأخبره بذلك، وأمره بالهجرة إلى المدينة، فهاجر إليها مع أبي بكر، ومولى أبي بكر: عامر بن فُهيرة رضي الله عنهما ، ودليلهم عبد الله بن أريقط الليثي، وهو كافر.

ودخل صلى الله عليه وآله وسلم من عوالي المدينة، يوم الاثنين، الثاني عشرَ من ربيع الأول، فلبث في قُباء، عند بني عمرو بن عوفٍ أربعَ عشرة ليلة، وبنى فيها مسجد قُباء، ثم اتجه إلى المدينة، وفي الطريق أدركته صلاة الجمعة في ديار بني سالم بن عوف، فصلاها في وادي رانُوناء، وهي أول جمعة يصليها في الإسلام.

ولما وصل المدينة فرح أهلها فرحًا شديدًا، ونزل في بني النجار، أخوال أبيه، في منزل أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه شهرًا، إلى أن بنى حُجُراته، ومسجده الشريف في المكان الذي بركت فيه ناقته القصواء، بعد أن اشترى الأرض.

وكانت المدينة معروفة بالوباء، فأصاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منها مرض، وصرف الله ذلك عن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ربه (عزّ وجلّ) أن يرفع الوباء عن المدينة، وأن يبارك في مُدِّها، وصاعها.

وجمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأنصار، وأزال ما بينهم من العداوات، وآخى بين المهاجرين والأنصار، ثم عاهد اليهود على أن لا يحاربوه، وأن لا يعينوا عليه أحدًا، وعلى أن يدافعوا معه عن المدينة.

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين