أهل البيت في الحديث النبوي (14): التعريف الاصطلاحي

 

نتابع في هذه الحلقة الردود والاعتراضات على القائلين بأن أهل البيت هم خمسة فقط: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابنته صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة وعلي بن أبي طالب وابناهما الحسن والحسين رضي الله عهنما:

وقد سبق مناقشة استدلالاتهم بآيات القرآن، ونتابع في هذه الحلقة مناقشة استدلالاتهم بالسنة:

- مناقشة استدلالاتهم بالسنة النبوية:

أ- مناقشة الاستدلال بحديث الكساء:

أما من ناحية السند فالحديث صحيح لا مجال للتشكيك فيه، ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من طرق عائشة وأم سلمة وواثلة وغيرهم، وبعضها في صحيح مسلم.

وأما من ناحية المتن فإن تخصيص النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهؤلاء الأربعةرضي الله عهنما في هذا الحديث وأمثاله لا يدل على قصر أهل بيته عليهم دون بقية القرابة، كما ذهب أصحاب القول الثالث، وإنما يدل على أنهم أخص أقاربه، وأنهم أولى مَن يطلق عليهم أهل البيت، لا الحصر بهم، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم أراد الدعاء لهم دون تخصيص اللقب بهم، لأنهم لم يرد لهم ذكر بالآيات السابقة لآية التطهير، وليس في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «هؤلاء أهل بيتي»([1]) صيغة قصر. بل هو كقوله تعالى على لسان لوط صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي﴾ [الحجر:68]، إذ ليس معناه ليس لي ضيف غيرهم.([2])

وسنَّته صلى الله عليه وآله وسلم تبيّن كتاب الله تعالى، فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «هؤلاء أهل بيتي»، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم أيضًا: «أهل بيتي أحق»([3])، مع أن سياق القرآن يدل على أن الخطاب لأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنهنَّ أهل بيته، فإن هؤلاء الأربعة أحق بأن يكونوا من أهل بيته، لأن صلة النسب أقوى من صلة الصهر، يوضح ذلك اختياره صلى الله عليه وآله وسلم للفظ: «أهل بيتي أحق» بصيغة التفضيل: «أحق»، وهذا يدل على أن غيرهم من أهل البيت، وهؤلاء أولى بهذا اللقب.

فيكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ألحق أهل الكساء بحكم هذه الآية، وجعلهم أهلَ بيته، كما ألحق المدينةَ بمكة في حكم الحَرَمية،([4]) فلما جعل الله تعالى مكة البلد الحرام بلدًا غلَّظ فيه حرمة الاعتداء، وأمن فيه الناس على دمائهم وأموالهم، استجابة لدعوة خليل الرحمن إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم، حين دعا لأهل مكة كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ^﴾ [البقرة:126] فاستجاب الله تعالى دعاءه وقال تعالى يمنُّ على أهل مكة خصوصًا بهذه النعمة: ﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ^﴾ [القصص:57] وقال أيضًا: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ^﴾ [العنكبوت:67]، لما جعل الله تعالى مكة كذلك، دعا رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمدينة المنورة، كما دعا إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم لمكة المكرمة، فاستجاب الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم كما استجاب لإبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم، كما روى عبد الله بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إن إبراهيم حرَّم مكة ودعا لها، وحرَّمْتُ المدينة كما حرَّم إبراهيم مكة، ودعوتُ لها في مُدّها وصاعها مثل ما دعا إبراهيم عليه السلام لمكة».([5])

فحرمة مكة ثابتة بنص القرآن الكريم، وحرمة المدينة ثابتة بصحيح السنة الشريفة.

ونظير هذا أيضًا في السنَّة قول أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: دخلتُ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيت بعض نسائه، فقلت: يا رسول الله، أيُّ المسجدين الذي أُسِّس على التقوى؟ قال: فأخذ كفًّا من حصباء فضرب به الأرض، ثم قال: «هو مسجدكم هذا». -لمسجد المدينة.([6]) مع أن سياق القرآن في قوله تعالى: ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ [التوبة:108] يقتضي أنه مسجد قباء. فإنه قد ورد أن هذه الآية نزلت في أهل قباء،([7]) لكن المسجد النبوي أحق بأن يكون مؤسَّسًا على التقوى من مسجد قباء، وإن كان كلٌّ منهما مؤسَّسًا على التقوى، وهو أحق أن يقوم فيه من مسجد الضرار، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم: أنه كان يأتي قباء كل سبت راكبًا وماشيًا،([8]) فكان يقوم في مسجده القيام الجامع يوم الجمعة، ثم يقوم بقباء يوم السبت، وفي كِلا المسجدين المؤسسين على التقوى قد قام صلى الله عليه وآله وسلم.([9])

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «اللهم هؤلاء أهل بيتي، وأهل بيتي أحق»([10])، جارٍ على قواعد العرب الذين يطلقون مثل هذا البيان للاختصاص بأصل الحكم، كقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «ليس المسكين الذي يطوف على الناس، تردُّه اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان. ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس».([11]) قال النووي: ((المسكين الكامل المسكنة الذي هو أحق بالصدقة وأحوج إليها ليس هو هذا الطوّاف، بل هو الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يُفطَن له، ولا يسأل الناس. وليس معناه نفي أصل المسكنة عن الطوّاف، بل معناه: نفي كمال المسكنة)).([12])

فالحديث يبيَّن أن هذا المسكين مختص بكمال المسكنة، بخلاف الطوَّاف فإنه لا تكمل فيه المسكنة، لوجود مَن يعطيه أحيانًا، مع أنه مسكين أيضًا. ويقال: هذا هو العالم، وهذا هو المسلم، لمن كمُل فيه ذلك، وإن شاركه غيره في ذلك وكان دونه.([13])

وحين سألت أم سلمة رضي الله عنها عن مكانها من أهل البيت، فقالت: وأنا معهم يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: «أنتِ على مكانك»، و: «أنتِ على خير»، فلم يشركها في الدعاء، ولم يدخلها في بعض المرات تحت الكساء، كل ذلك ليس لأنها ليست من أهل البيت أصلًا، ولا أنه صلى الله عليه وآله وسلم منعها رضي الله عنها من أن تكون من أهل بيته، كما ظن بعضهم، وإنما أراد أن ما سألتْه من قبيل الحاصل، لظهور أنها منهم، حيث كانت من الأزواج اللاتي يقتضي سياق الآية دخولهن فيهم. ويدل عليه قوله: «إنكِ من أزواج النبي»، وقوله: «أنتِ على مكانك», فليست هي بحاجة إلى إلحاقها بهم، فالدعاء لها بأن يذهب الله عنها الرجس ويطهرها دعاء بتحصيل أمر حصل، فكان جواب النبي صلى الله عليه وآله وسلم تعليمًا لها.

وقد وقع في بعض الروايات أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لأم سلمة رضي الله عنها: «إنكِ من أزواج النبي». وهذا أوضح في المراد بقوله: «إنكِ على خير». بخلاف مَن أدخلوا تحت الكساء فإنه صلى الله عليه وآله وسلم لو لم يدخلهم ويقل ما قال لتوهم عدم دخولهم في الآية لعدم اقتضاء سياقها ذلك.([14])

وبروايات متعددة ورد قوله صلى الله عليه وآله وسلم لأم سلمة رضي الله عنها حين سألته هل هي من أهل البيت راجية تنال بركة دعائه صلى الله عليه وآله وسلم: فمن ذلك: عن أم سلمة رضي الله عنها قال صلى الله عليه وآله وسلم: «وأنت».([15])

وعنها قالت: يا رسول الله خصصت هؤلاء وتركتني وابنتي. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «أنت وابنتك من أهل البيت».([16])

وعنها قال صلى الله عليه وآله وسلم: «وأنت معنا».([17])

وعنها قال صلى الله عليه وآله وسلم: «بلى، إِنْ شاء اللهُ تعالى».([18])

وعنها قال صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّكِ إلى خَيْرٍ، أنتِ مِنْ أزْواجِ النّبِيِّ».([19])

وعنها قال صلى الله عليه وآله وسلم: «إنكِ أهلي خير، وهؤلاء أهل بيتي، اللهم أهلي أحق».([20])

وعنها قال صلى الله عليه وآله وسلم: «إنكِ من أهلي».([21])

وعنها قال صلى الله عليه وآله وسلم: «أنتِ على مكانك، وأنتِ إلى خير».([22])

وعنها قال صلى الله عليه وآله وسلم: «إنكِ إلى خير».([23])

وعنها قال صلى الله عليه وآله وسلم: «إنكِ على خير».([24])

وعنها قال صلى الله عليه وآله وسلم: «أنتِ على مكانك، وأنتِ على خير».([25])

وقد ورد أنها رفعت طرف الكساء لتدخل معهم أثناء دعائه صلى الله عليه وآله وسلم لهم، فجذب صلى الله عليه وآله وسلم الكساء فلم يدخلها معهم، فعن أم سلمة قالت: بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيتي يومًا، إذ قالت الخادم إن عليًّا وفاطمة بالسدة. قالت: فقال لي: «قومي، فتنحي لي عن أهل بيتي». قالت: فقمتُ فتنحيتُ في البيت قريبًا. فدخل علي وفاطمة، ومعهما الحسن والحسين، وهما صبيان صغيران، فأخذ الصبيين فوضعهما في حجره، فقبَّلهما، واعتنق عليًّا بإحدى يديه، وفاطمة باليد الأخرى، فقبَّل فاطمة، وقبَّل عليًّا، فأغدف عليهم خميصة سوداء، فقال: «اللهم، إليك لا إلى النار، أنا وأهل بيتي». قالت: فقلتُ: وأنا يا رسول الله؟ فقال: «وأنت».([26])

وعنها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لفاطمة: «ائتيني بزوجك وابنيه». فجاءت بهم فألقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كساء فدكيًا، ثم وضع يده عليهم، ثم قال: «اللهم إن هؤلاء آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فاجعل صلواتك وبركاتك على آل محمد، فإنك حميد مجيد». قالت أم سلمة: فرفعت الكساء لأدخل معهم، فجبذه من يدي، وقال: «إنك على خير».([27])

وعنها قالت: فدنوت منه، فقلت: يا رسول الله، وأنا من أهل بيتك؟ فقال: «تَنَحّي، فإنك على خير».([28])

وورد أنه صلى الله عليه وآله وسلم أدخلها معهم في الكساء بعد أن دعا لعلي وفاطمة والحسنين، فدعا لها أيضًا.

فعن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله ألست من أهلك؟ قال: «بلى، فادخلي في الكساء». قالت: فدخلت في الكساء، بعد ما قضى دعاءه لابن عمه علي وابنيه وابنته فاطمة رضي الله عهنما.([29])

وما ورد من الاختلاف في الروايات في مكان اجتماعه صلى الله عليه وآله وسلم بأهل الكساء في بيت أم سلمة مرة، وفي بيت علي أخرى، وكيفيَّة تجليلهم بالكساء، وصيغة دعائه لهم، وفيما أجاب به أم سلمة، وأنه أدخلها مرة تحت الكساء ولم يدخلها في روايات أخرى، وأمثال ذلك، كل هذه الاختلافات المتعارضة في ظاهرها لا تحل إلا بالحمل على تعدد الوقائع، وهذا هو الراجح لأنه لا مانع منه، وخصوصًا إذا لاحظنا المشهور من هديه صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يعيد الكلام والفعل مرات حتى يفهم عنه،([30]) وكما ورد في هذا البحث فإنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يمر فترة طويلة على بيت علي وفاطمة وهو يردد قول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾، أو يحل التعارض بالترجيح، ولا حاجة له هنا لأنه سيلغي بعض الروايات بدون ضرورة.

والذي يظهر من حديث أم سلمة -والله أعلم- أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جلّل أهل الكساء بكسائه، ثم دعا لهم دعاءه المذكور، فأرادت أم سلمة رضي الله عنها أن تنال حظها من هذه البركة والرحمة، فاستعجلت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يجمعها معهم، قبل أن ينهي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعاءه، فنهاها عن ذلك، ثم حاولت أن تدخل تحت الكساء مبادرة إلى الخير، فجذب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منها الكساء -كما فعل ذلك في أكثر من مناسبة حين كان يقاطعه أحد بسؤال أو استفهام قبل أن ينهي كلامه، فلا يلتفت إلى سؤال السائل أو استفساره إلا بعد أن ينهي كلامه([31])- وذكَّرها أنها من أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذين يشملهنَّ ظاهر القرآن بدعوته، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يشمل هؤلاء أيضًا، فلما أنهى صلى الله عليه وآله وسلم دعاءه لهم، التفت إلى أم سلمة فطيَّب خاطرها وأدخلها الكساء ودعا لها أيضًا.

وبهذا يمكن الجمع بين كل الروايات، دون حاجة إلى القول بإلغاء بعضها أو القول بتعددها أو تعدد نزول الآية.

هذا مع ما سبق من الكلام على أسانيدها.

وخلاصة القول في هذا الحديث: أمَّا جمْعُ علي وفاطمة وابنيهما رضي الله عهنما تحت الكساء فصحيح.

وأمَّا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يصرح بإدخال أم سلمة فيهم فصحيح أيضًا.

وأمَّا روايات إدخالها تحت الكساء وتصريحه بأنها من أهل البيت فإنها كلها ضعيفة.

قال البيهقي: ((وقد روي في شواهده([33]) ثم في معارضته أحاديث لا يثبت مثلها)).([34])

وقد تكلم الصحابة مرة في الغيرة، فقال سعد بن عبادة: لو رأيت رجلًا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مُصَفّح. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: «تعجبون من غيرة سعد؟! والله لأنا أغْيَر منه، والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن».([36]) فربما كانت غيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أزواجه هي التي دفعته أن يأمر أم سلمة أن تتنحَّى عن أهل الكساء حيث كان علي رضي الله عنه معهم، وعلي أجنبي عنها، والكساء صغير كما هو معهود من زهده وتقشفه صلى الله عليه وآله وسلم، وهو صلى الله عليه وآله وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها، وأحرص على اتباع أمر الله تعالى الذي قال للمؤمنين في أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾ [الأحزاب:53]، ومع ذلك فقد أخبرها أنها على خير، وأن ما ذكره الله تعالى في الآية صريح في أنها من أهل البيت. وإنما رحمةً من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورغبة في أن يُدخل عليًّا وفاطمة وأبناءهما في الفضل العظيم الذي ذكره الله لنسائه صلى الله عليه وآله وسلم دعا الله سبحانه حتى يشملهم بذلك الفضل فيدخلوا في أهل بيته، فلما أنهى صلى الله عليه وآله وسلم دعاءه لهم، التفت إلى أم سلمة وأدخلها الكساء، ودعا لها أيضًا.

قال المباركفوري: ((«أنتِ على مكانك»، و:«أنتِ على خير»: يحتمل أن يكون معناه: أنتِ خير وعلى مكانك من كونك من أهل بيتي، ولا حاجة لك في الدخول تحت الكساء. كأنه منعها عن ذلك لمكان علي. وأن يكون المعنى أنت على خير وإن لم تكوني من أهل بيتي. كذا في اللمعات. قلت: الاحتمال الأول هو الراجح، بل هو المتعين)).([37])

ولو كان مقصد القرآن الكريم الحصر في أصحاب الكساء ما كان لفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودعائه فائدة، إذ هو من تحصيل الحاصل.

ويمكن أن يجاب عن هذا بالقول: إن الآية قد نزلت في أهل الكساء، الذين كانوا مطهرين عن كل رجس من أول أمرهم، وقد دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم لتستمر هذه الطهارة في المستقبل أيضًا.

ويمكن أن تكون فائدة الدعاء أيضًا زيادة درجات التطهير لهم، وترسيخه بصورة أتم وأقوى.([38])

وإذا كان أصحاب هذا القول قد تشدَّدوا في الاستدلال بدلالة الحصر المزعوم في حديث الكساء، وخطابِ التذكير على عدم دخول أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في آل البيت، فإننا نلزمهم الآتي:

أولًا: مخالفتهم لظاهر القرآن الذي ينص صراحة أن الخطاب إنما هو لأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم دون غيرهن.

ثانيًا: مخالفتهم لكثير من الأحاديث الصحيحة والصريحة التي تجعل غير هؤلاء الأربعة من أهل البيت، كالأزواج والعباس وحمزة أعمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغيرهم.

ثالثًا: مخالفتهم للحديث نفسه، الذي جعلوه عمدة أدلتهم، وذلك لعدم تقيدهم بالحصر. فالحديث إنما ذكر أربعة فقط فاطمة وعلي وابنيهما، بأسلوب الحصر كما يقولون، ومع ذلك زادوا في العدد فأدخلوا مع أصحاب الكساء غيرهم، فأين الأدلة والنصوص الصحيحة التي تدل على إدخال غيرهم معهم؟([39])

والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال، كما هو معروف في أصول الفقه.

قال الشوكاني: ((وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «اللهم هؤلاء أهل بيتي» مشيرًا إليهم، ولكنه يقال إن كان هذا التركيب يدل على الحصر باعتبار المقام أو غيره، فغاية ما فيه إخراج مَن عداهم بمفهومه، والأحاديث الدالة على أنهم أعم منهم، كما ورد في بني هاشم وفي الزوجات، مخصصة بمنطوقها لعموم هذا المفهوم. واقتصاره صلى الله عليه وآله وسلم على تعيين البعض عند نزول الآية لا ينافي إخباره بعد ذلك بالزيادة، لأن الاقتصار ربما كان لمزية للبعض أو قبل العلم بأن الآل أعم من المعنيين. ثم يقال إذا كانت هذه الصيغة تقتضي الحصر فما الدليل على دخول أولاد المجللين بالكساء في الآل، مع أن مفهوم هذا الحصر يخرجهم؟ فإن كان إدخالهم بمخصص وهو التفسير بالذرية وذريته صلى الله عليه وآله وسلم هم أولاد فاطمة، فما الفرق بين مخصص ومخصص؟)).([40])

ب- وروايات مروره صلى الله عليه وآله وسلم على باب علي وفاطمة في صلاة الصبح، كلها ضعيفة من جهة، ولا دلالة فيها على الحصر من جهة أخرى. وقد أخرج البخاري ومسلم قصة مروره صلى الله عليه وآله وسلم هذه، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه نفسه، بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طرقه وفاطمة بنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلةً، فقال: «ألا تصليان»؟ فقلت: يا رسول الله، أنفسنا بيد الله. فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا. فانصرف حين قلنا ذلك، ولم يرجع إلي شيئًا. ثم سمعته وهو مولٍّ، يضرب فخذه، وهو يقول:«﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾» [الكهف:54].([41])

ج- والاستدلال بحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجته يوم عرفة، وهو على ناقته القصواء يخطب، فسمعته يقول: «يا أيها الناس، إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي»([42]) وأمثالِه على أن المراد بالعترة هم خصوص الذرية الأقربون، أي: خصوص الأربعة أصحاب الكساء، وعلى نفي كون الأزواج من أهل البيت، استدلال مردود، لأن معنى عترة الرجل في اللغة:

يمكن أن يحمل على: ولده من صلبه فقط.

وعلى: أقربائه الأدنين.

وعلى: أقربائه عمومًا الأقربين والأبعدين.([43])

فحمْله على خصوص الذرية محض تحكُّم، وليس صوابًا.

قال التُّورِبِشْتي: عترة الرجل: أهل بيته، ورهطه الأدنون. ولاستعمالهم العترة على أنحاء كثيرة بيَّنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: «أهل بيتي» ليعلم أنه أراد بذلك نسله وعصابته الأدنين وأزواجه صلى الله عليه وآله وسلم.([45])

ومن جهة أخرى فإن المعروف عند العرب أن أولاد بنات الرجل لا ينسبون إليه، وإنما ينسب إليه أولادُه وأولادُ أولادِه الذكور فقط، وأولاد علي رضي الله عنه إنما هم أولاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من جهة ابنته فاطمة، وعليه فعلى مقتضى عادات العرب فإنهم لا ينسبون إليه من ناحية النسب حقيقة.

وإن كنا نسلِّم أنهم أولاد رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم على الحقيقة، كما ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمنفسه، فيما روى أبو بكرة رضي الله عنه قال: سمعت النبيصلى الله عليه وآله وسلم على المنبر، والحسن إلى جنبه، ينظر إلى الناس مرة، وإليه مرة، ويقول: «إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين».([47]) فسمَّى الحسن ابن علي وفاطمة ابنه صلى الله عليه وآله وسلم.

وكما قال تعالى: ﴿فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتُ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ [آل عمران:61] فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحسن والحسين فوجب أن يكونا ابنيه.

ومما يؤكد هذه البنوَّة قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ^ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ^ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ^ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام:83-86] إذ قد جعل الله تعالى عيسى صلى الله عليه وآله وسلم من ذرية إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما انتسب إليه بالأم لا بالأب. فثبت أن ابن البنت قد يسمَّى ابنًا.([48])

ومن جهة ثالثة: إذا كان المقصود بالعترة خصوص الذرية لم يدخل علي رضي الله عنه في العترة، لأن عليًّا رضي الله عنه هو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا لا يقول به قائل. فوجب أن يعمَّم مفهوم العترة ليشمله، وإذا شمله بدعوى القرابة والنسب وجب أن يشمل المساوين له بالقرابة، والأقرب من باب أوْلى كأعمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

ومن جهة رابعة: أطلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصف العترة على غير أصحاب الكساء، كما روى أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «رأيتُ فيما يرى النائم كأني مردف كبشًا. وكأن ظبة سيفي انكسرتْ، فأولتُ أني أقتل صاحب الكتيبة، وأنَّ رجلًا من أهل بيتي يقتل».([49])

وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى فيما يرى النائم، قال: «رأيتُ كأني مردف كبشًا، وكأن ظبة سيفي انكسرتْ. فأوَّلتُ أني أقتل كبش القوم، وأولت ظبة سيفي قتل رجل من عترتي». فقُتِل حمزة، وقَتَل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طلحة، وكان صاحب اللواء.([51])

فقد جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عمه حمزة رضي الله عنه من عترته وأهل بيته.

وقد روي عن عبد الله بن الغسيل رضي الله عنه قال: كنتُ مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمرَّ بالعباس، وقال: «يا عم، اتبعني ببنيك». فانطلقَ بستة من بنيه: الفضل وعبد الله وعبيد الله وعبد الرحمن وقثم ومعبد، فأدخلهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيتًا وغطاهم بشملة له سوداء مخططة بحمرة، وقال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي وعترتي، فاسترهم من النار كما سترتهم بهذه الشملة». قال: فما بقي في البيت مدر ولا باب إلا أمَّن.([53])

فقد جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عمه العباس وبنيه رضي الله عهنما من عترته وأهل بيته.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إني خلَّفتُ فيكم اثنين لن تضلوا بعدهما أبدًا: كتاب الله، ونسبي. ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض».([54]) بيَّن فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن المقصود بالعترة هو النسب.

وهذا كله ينفي اختصاص الأربعة رضي الله عهنما بمسمى العترة.

ويمكن أن يجاب بأن هذه الأحاديث كلها ضعيفة، لا يصح الاحتجاج بها.

والوصية بالعترة الطاهرة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلا شك، ولكن الخلاف في مفهوم العترة، وفي حدود اتباعهم، والتسليم لهم. والذي ينظر في جميع الروايات المقبولة عند أهل الحديث يتبين أن المقصود بالعترة ما يتجاوز خصوص الأربعة (علي وفاطمة وابناهمارضي الله عهنما ).

كما أنا لا نُسلِّم -كما لا ينبغي أن يُسلِّم أي مسلم عاقل له علم بشرع الله سبحانه- أن المقصودَ بعطف العترة على كتاب الله تعالى وجَعْلَهم الثقل الثاني والعدل للقرآن الكريم، لا نسلم أن المقصود هو مساواة العترة للقرآن الكريم من جميع الوجوه، ولا مساواة ما ينقل عنهم لما جاء في القرآن الكريم من كل وجه، وربما كان هذا مما يستفاد من الرواية التي أخرجها الإمام مسلم -لله درُّه رحمه الله تعالى- حيث ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوصى بكتاب الله تعالى إذ فيه الهدى والنور، وأمر بالتمسك به لأنه مصدر العصمة من الخطأ والخلل، وحثَّ على كتاب الله ورغَّب فيه، فلما ذكر الثقل الثاني العترة لم يزد على الوصية والتذكير بهم، كما روى زيد بن أرقم رضي الله عنه قال قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومًا فينا خطيبًا بماء يدعى خمًّا بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكَّر، ثم قال: «أما بعد، ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما: كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به». فحثَّ على كتاب الله ورغَّب فيه، ثم قال: «وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي».([55])

وهذا مما يدل على أن المقصود بالعترة ليس مجرد خصوص الأشخاص، بل هو ما بينته أحاديث وروايات أخرى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أن المقصود هو سنته صلى الله عليه وآله وسلم. ولما كان أهل بيته أعلم الناس به أوصى بهم وباتباعهم على هذا الأساس ومن هذه الناحية. فعطف العترة على كتاب الله تعالى كعطف سنة الخلفاء الراشدين مع سنته صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: «أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن عبدًا حبشيًّا، فإنه مَن يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ. وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة».([56])

ومن ذلك مارواه أبو هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله، وسنتي. ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض».([57])

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله».([58])

د- وما روي عن زيد بن أرقم رضي الله عنه من نفي كون أزواجه صلى الله عليه وآله وسلم من أهل البيت، وأنَّ أهلَ بيته أصلُه وعَصَبته الذين حُرِموا الصدقة بعده صلى الله عليه وآله وسلم، فيمكن الجواب عنه بأن المراد بأهل البيت فيه: أهل البيت الذين جعلهم رسول الله ثاني الثقلين، لا أهل البيت بالمعنى الأعم المراد في الآية.

ويشهد لهذا ما في صحيح مسلم عنه رضي الله عنه: قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته مَن حرم الصدقة بعده. قيل: ومن هم؟ قال: هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس... الحديث.([59])

فإن الاستدراك بعد جعله النساء من أهل بيته صلى الله عليه وآله وسلم ظاهر في أن الغرض بيان المراد بأهل البيت في الحديث الذي حدَّث به عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم فيه ثاني الثقلين.

فلأهل البيت إطلاقان يدخل في أحدهما النساء، ولا يدخلن في الآخر.

وبهذا يحصل الجمع بين هذا الخبر المتضمن إثباته رضي الله عنه كون النساء من أهل البيت، والخبر المتضمن نفيه كون النساء من أهل البيت.

ويحتمل أنه رضي الله عنه نفى أنهن مِمَّنْ يُحْرَم من الصدقة، لا أنهن لسن من أهل البيت.([60])

وقال النووي في شرحه على مسلم في محاولة الجمع بين روايتي النفي والإثبات: ((هاتان الروايتان ظاهرهما التناقض، والمعروف في معظم الروايات في غير مسلم أنه قال نساؤه لسن من أهل بيته.([61]) فتتأول الرواية الأولى على أن المراد أنهن من أهل بيته الذين يساكنونه ويعولهم، وأمر باحترامهم وإكرامهم، وسماهم ثقلًا، ووعظ في حقوقهم وذكَّر، فنساؤه داخلات في هذا كله، ولا يدخلن فيمن حرم الصدقة، وقد أشار إلى هذا في الرواية الأولى بقوله نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته مَن حرم الصدقة، فاتفقت الروايتان)).([62])

ويحتمل أنه رضي الله عنه ينفي الاقتصار على كون أهل بيته هم أزواجه فقط. ويثبت أن أزواجه من أهل بيته، فينضم إليهن المذكورون في حديثه. فتتفق الروايتان.([63])

وقال أبو العباس القرطبي في المفهم: ((وقوله: مَن أهل بيته؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ هذا سؤال مَن تمسك بظاهر لفظ البيت، فإنَّ الزوجة: هي أصل بيت الرجل، إذ هي التي تعمره وتلازمه وتقوم بمصالحه. وكذلك إجابة زيد بأن قال: نساؤه من أهل بيته، أي: بيته المحسوس، وليس هو المراد هنا، ولذلك قال في الرواية الأخرى في جواب السائل: لا. أي: ليس نساؤه من أهل بيته. المعنى هنا: ولكن هم أصله وعصبته، ثم عيَّنهم بأنهم: هم الذين حرموا الصدقة. أي: الذين تحرم عليهم الصدقات الشرعية. على الخلاف الذي ذكرناه في كتاب: الزكاة. وقد عيَّنهم زيد تعيينًا يرتفع معه الإشكال، فقال: هم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس رضي الله عهنما)).([65])

وقال بعضهم: إنّ ظاهر تعليله رضي الله عنه نفي كون النساء أهل البيت بقوله: وأيم الله، إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر، ثم يطلِّقها، فترجع إلى أبيها وقومها. يقتضي أن لا يكنّ من أهل البيت مطلقًا. فلعله أراد بقوله في الخبر السابق نساؤه من أهل بيته: أنساؤه من أهل بيته؟ بهمزة الاستفهام الإنكاري، فيكون بمعنى ليس نساؤه من أهل بيته، ويكون رضي الله عنه ممن يرى أن نساءه صلى الله عليه وآله وسلم لسن من أهل البيت أصلًا.([66])

وهو ضعيف -والله أعلم- لأنه ثبت عنه رضي الله عنه أنه قال: بلى، إن نساءه من أهل بيته. وهذا لا يحتمل الحمل على الاستفهام الاستنكاري.

كما أنه يعارض ظاهر القرآن الكريم، والصحيح من الأحاديث التي تجعل نساءه صلى الله عليه وآله وسلم من أهل البيت.

وعلى كل الأحوال حتى لو ثبت أن رأي زيد رضي الله عنه أن الأزواج لسن من أهل البيت مطلقًا، فإنه لا يلزمنا أن نوافق عليه ونتبعه، لأن الراجح غيره، لا سيما وظاهر الآية، وأكثر أقوال العلماء من الصحابة ومَن بعدهم، وكذا العرف واللغة، كل ذلك يخالف هذا الفهم، على فرض صحة نسبته إليه.

وقد رأيت غالب الروايات عن زيد رضي الله عنه تؤكد أنه يراهن من أهل بيته، وبيان ذلك تفصيلًا، كما يأتي:

فقد روى عنه رضي الله عنه أنه يرى أن نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أهل البيت، كلٌّ من:

مسلم، والنسائي، وأحمد، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن خزيمة، والطبراني، والبيهقي.([67])

والذين رووا عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أنه نفى أن نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أهل البيت، هم:

مسلم قال: حدثنا محمد بن بكار حدثنا حسان (يعني: ابن إبراهيم) عن سعيد (يعني: ابن مسروق) عن يزيد بن حيان عن زيد بن أرقم.([68])

والطبراني قال: حدثنا محمد بن حيان المازني ثنا كثير بن يحيى ثنا حسان بن إبراهيم ثنا سعيد بن مسروق أو سفيان الثوري عن يزيد بن حيان، به.([69])

فإذا سلكنا مسلك الترجيح بين الروايات نجد أن أكثر الروايات عن زيد بن أرقم تروي عنه الإثبات.

وأن الروايات التي ورد فيها النفي ورد في غيرها وعن طريق نفس الرواة الإثبات.

فالحديث يرويه عن زيد يزيدُ بن حيان، وعن يزيد أبو حيان يحيى بن سعيد وسعيد بن مسروق، وعن أبي حيان روى الإثبات كل من إسماعيل بن إبراهيم (عند مسلم وأحمد والطبراني) وجعفر بن عون (عند البيهقي) وجرير بن عبد الحميد (عند مسلم والنسائي وابن خزيمة) ومحمد بن فضيل (عند مسلم وابن أبي شيبة والطبراني وابن خزيمة).

ومن طريق حسان بن إبراهيم عن سعيد بن مسروق عن يزيد، ورد النفي والإثبات.

وحسان بن إبراهيم هو الكرماني قال فيه ابن حجر: صدوق يخطئ، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود.([70])

فكيف تعارض روايته -مع ما فيها من اختلاف- رواية الجماعة غيره؟!

ومن ذلك كله نجد أن روايات الإثبات أكثر وأقوى، فيجب ترجيحها.

وبالتالي فإن الراجح في مذهب زيد بن أرقم رضي الله عنه أنه يرى أن أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

وعليه فلا حاجة للبحث عن طرق واحتمالات للتوفيق بين الروايات التي يبدو في ظاهرها التعارض.

وذِكر زيد رضي الله عنه آلَ عَقيل وآلَ عليٍّ وآلَ جعفر وآلَ العبَّاس لا يدلُّ على أنَّهم هم الذين تحرُم عليهم الصَّدقةُ دون سواهم، كما سنبين ذلك حين الكلام عن حقوقهم في هذا البحث إن شاء الله تعالى.

هذا وينبغي التنبيه إلى أن أصحاب المذهب الثالث القائلين بحصر أهل البيت بخصوص أصحاب الكساء اعتمادًا على جملة من الأدلة منها حديث زيد هذا، لم يأخذوا بمذهب زيد هنا مع أنه راوي الحديث والأَوْلى بتفسيره، والأقرب إلى الحق في بيانه، قال الشوكاني: ((الصحابي أعرف بمراده صلى الله عليه وآله وسلم فيكون تفسيره قرينة على التعيين)).([71]) بل أخذوا بجزء منه وهو المتعلق بإخراج الأزواج من أهل البيت، فقط!

انظر الحلقة الثالثة عشرة هــنا

 

([1]) الترمذي، سبق تخريجه.

([2]) التحرير:22/16، من هم أهل البيت:27

([3]) أحمد والحاكم، سبق تخريجه.

([4]) التحرير:22/15، من هم أهل البيت:37

([5]) البخاري: كتاب البيوع، باب بركة صاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومدهم:2/749، رقم:2022، مسلم: كتاب الحج، باب فضل المدينة ودعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها بالبركة وبيان تحريمها وتحريم صيدها وشجرها وبيان حدود حرمها:2/991، رقم:1360

([6]) مسلم: كتاب الحج، باب بيان أن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة:2/1015، رقم:1398

([7]) أبو داود: كتاب الطهارة، باب في الاستنجاء بالماء:1/58، رقم:44، والترمذي: كتاب تفسير القرآن، باب تفسير سورة التوبة:5/280، رقم:3100، وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه. قال: وفي الباب عن أبي أيوب و أنس بن مالك ومحمد ابن عبد الله بن سلام، ابن ماجه: كتاب الطهارة وسننها، باب الاستنجاء بالماء:1/128، رقم:355.

([8]) البخاري: كتاب أبواب التطوع، باب مَن أتى مسجد قباء كل سبت:1/399، رقم:1135، مسلم:كتاب الحج، باب فضل مسجد قباء وفضل الصلاة فيه وزيارته:2/1016، رقم:1399

([9]) القرطبي:8/259، ابن كثير:4/212، التحرير:11/32

([10]) أحمد والحاكم، سبق تخريجه، ص81.

([11]) البخاري: كتاب الزكاة، باب قول الله تعالى: ﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ [البقرة:273]:2/537، رقم:1406، مسلم: كتاب الزكاة، باب المسكين الذي لا يجد غنى ولا يفطن له فيتصدق عليه:2/719، رقم:1039، و:1040

الإلحاف: الإلحاح. شرح مسلم للنووي:7/129.

([12]) شرح مسلم للنووي:7/129

([13]) في الرد على الاستدلال بحديث الكساء ينظر: جامع المسائل لابن تيمية:3/74

([14]) الألوسي:22/15، التحرير:22/17، من هم أهل البيت:37

([15]) أحمد:6/296، رقم: 26582، و:6/304، رقم:26642، فيه: أبو المعدل عطية الطفاوي، ضعفه الساجي والأزدي، وذكره ابن حبان في الثقات:5/260، لسان الميزان:4/176، وأبوه: مجهول الحال. لم أعثر له على ترجمة.

([16]) الطبراني في الكبير:24/281، وقال في مجمع الزوائد:9/271، رقم:15005: رواه الطبراني في الكبير والأوسط باختصار، وفيه: ابن لهيعة، وهو لين. وابن لهيعة هو: عبد الله بن لهيعة، ذكره ابن حبان في المجروحين:2/11، تهذيب التهذيب:5/327، قال في تقريب التهذيب:1/526: صدوق، خلط بعد احتراق كتبه.

([17]) الطبراني في الكبير:23/357، وفيه: أم حبيبة بنت كيسان، لم أجد لها ترجمة.

([18]) السنن الكبرى للبيهقي:2/150، وقال أبو عبد الله (الحاكم): هذا حديث صحيح سنده، ثقات رواته. ثم قال البيهقي:((وقد روي في شواهده ثم في معارضته أحاديث لا يثبت مثلها. وفي كتاب الله البيان لما قصدناه في إطلاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم الآل ومراده من ذلك أزواجه أو هن داخلات فيه)). وفيه: شريك بن عبد الله بن أبي نمر الليثي، صدوق يخطىء.

وفيه: عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، صدوق يخطىء. تقدم.

([19]) الطبري:20/265، الطبراني في الكبير:3/54، و:23/281

([20]) الحاكم: 2/451، رقم: 3558، وصححه على شرط البخاري، ووافقه الذهبي على شرط مسلم.

([21]) الطبراني، سبق تخريجه.

([22]) الترمذي: كتاب المناقب، باب فضل فاطمة رضي الله عنها:5/663، رقم:3787، وقال: حديث غريب من هذا الوجه.

([23]) الترمذي: كتاب المناقب، باب مناقب أهل النبي صلى الله عليه وآله وسلم:5/699، رقم:3871، وحسّنه.

([24]) أحمد:6/323، رقم:26789، الطبراني في الكبير:3/53، و:3/54، و:23/396، وفي إسناديهما: علي بن زيد، ضعيف، تقدم. وفيه: شهر بن حوشب، ضعيف.

([25]) الترمذي، سبق تخريجه.

([26]) أحمد:6/296، سبق تخريجه. الخميصة: كساء له أعلام. شرح مسلم للنووي:5/13، فتح الباري:1/402

([27]) أحمد:6/323، رقم:26789، الطبراني في الكبير:3/53، سبق تخريجه. كساءً فدكيًّا: نسبة إلى فدك من أرض خيبر، كما عند أبي يعلى:12/455

([28]) الطبراني في الكبير:23/396، ابن كثير:6/414

([29]) أحمد:6/298، رقم:26592، فيه: شهر بن حوشب، ضعيف، سبق الكلام عليه ص47.

([30]) روى البخاري في كتاب العلم، باب مَن أعاد الحديث ثلاثًا ليفهم عنه:1/48، رقم:95: عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا حتى تفهم عنه، وإذا أتى قومًا فسلم عليهم سلم عليهم ثلاثًا.

([31]) ومن ذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: بينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم في جلس يحدث القوم جاءه أعرابي فقال متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال. وقال بعضهم: بل لم يسمع. حتى إذ قضى حديثه قال: «أين - أراه - السائل عن الساعة». قال: ها أنا يا رسول الله. قال: «فإذا ضُيِّعَتِ الأمانة فانتظر الساعة». قال: كيف إضاعتها؟ قال: «إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة». أخرجه البخاري: كتاب العلم، باب مَن سئل علمًا وهو مشتغل في حديثه فأتم الحديث ثم أجاب السائل:1/33، رقم:59

([33]) أي: سؤال أم سلمة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أمَا أنا من أهل البيت؟ فقال: «بلى إن شاء الله تعالى»

([34]) السنن الكبرى للبيهقي:2/150، ثم قال: ((وفي كتاب الله البيان لما قصدناه في إطلاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم: الآل، ومراده من ذلك: أزواجه، أو: هن داخلات فيه)).

([36]) البخاري: كتاب التوحيد، باب قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا شخص أغير من الله:6/2698، رقم:6980، ومسلم: كتاب اللعان:2/1136، رقم:1499.

قوله: (مصفح): بفتح الفاء وبكسرها، أي: غير ضارب بعرضه وجانبه، بل بحده. فمَن فتح جعله وصفًا للسيف. ومَن كسر جعله وصفًا للضارب. وصفحا السيف وجهاه. شرح مسلم للنووي:10/131، فتح الباري:1/144

([37]) تحفة الأحوذي:9/48

([38]) أهل البيت في آية التطهير:148

([39]) آل البيت عليهم السلام وحقوقهم الشرعية، لصالح بن عبد الله الدرويش: ملف انترنت.

([40]) نيل ال

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين