من قصص موسى عليه السلام مع بني إسرائيل (2)

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنَّ موسى كان رجلًا حيِّيًا ستِّيرًا لا يُرى من جِلده شيءٌ استحياءً منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل.

فقال: ما يستَتِر هذا التستُّر إلَّا من عيبٍ بجلده، إمَّا برصٌ وإمَّا أُدْرةٌ وإمَّا آفةٌ، وإنَّ الله أراد أنْ يبرِّئَه مما قالوا لموسى، فخَلا يومًا وحدَه فوضع ثيابه على الحَجَر، ثمَّ اغتسل فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها، وإنَّ الحجر عدا بثوبه فأخذ موسى عصاه، وطلب الحجر فجعل يقول: ثوبي حجرٌ ثوبي حجرٌ حتى انتهى إلى ملأٍ من بني إسرائيل، فرأَوه عُريانا أحسنَ ما خلق الله، وأبرأَه مما يقولون فقام الحجر فأخذ بثوبه فلبسه، وطفق بالحجر ضربًا بعصاه.

والله إنَّ بالحجر لنَدَبًا من أثر ضربه ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا، فذلك قوله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا﴾ [الأحزاب: 69]. رواه البخاري ومسلمٌ.

وفي روايةٍ لهما أيضًا: «كانت بنو إسرائيلَ يغتسلون عراةً ينظر بعضهم إلى سوأة بعض، وكان موسى عليه السلام يغتسل وحده، فقالوا: والله ما يمنع موسى أنْ يغتسل معنا إلَّا أنَّه آدر، فذهب مرة يغتسل فوضع ثوبه على حجرٍ، ففرَّ الحجر بثوبه فجَمح موسى عليه السلام بأثرِه يقول: ثوبي حجرٌ ثوبي حجرٌ حتى نَظَرت بنو إسرائيل إلى سوأة موسى عليه السلام، فقالوا: والله ما بموسى من بأسٍ، فقام الحجر بعد حتى نظر إليه فأخذ موسى ثوبه، فطفق بالحجر ضربًا».

قال أبو هريرة: والله إنَّ بالحجر نَدَبًا ستةً أو سبعةً ضرب موسى عليه السلام بالحجر.

ورواه أحمد، والبزَّار عن أنسٍ، ورواه ابن جرير عن ابن عباس موقوفًا عليه.

ما يستفاد من الحديث

يستفاد منه أمور:

الأول: جواز التعرِّي في الخلوة، ونقل ابن الجوزي عن الحسن بن أبي بكر النيسابوري أنَّ موسى نزل إلى الماء مؤتزرًا، فلما خرج تتبَّع الحجر والمئزر مبتلٌّ بالماء، علموا عند رؤيته أنَّه غير آدر؛ لأنَّ الأدرة تبين تحت الثوب المبلول بالماء. اهـ

قال الحافظ: لكنَّ المنقولَ يخالفه؛ لأنَّ في رواية علي بن زيد، عن أنس عند أحمد في هذا الحديث: «أنَّ موسى كان إذا أراد أنْ يدخل الماء لم يُلق ثوبَه حتى يواري عورته في الماء». اهـ

لكن التعرِّي في الخلوة، وإنْ كان جائزًا فهو مكروهٌ لا يليق فعله؛ لحديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده معاوية بن حيدة، قال: قلت يا نبيَّ الله عوراتُنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: «احفظ عورتك إلَّا من زوجتك أو ما ملكت يمينك»، قلت يا رسول الله: أحدنا إذا كان خاليًا؟، قال: «اللهُ أحقّ أنْ يُستحيا منه من النَّاس».

رواه أصحاب السُّنن، وحسَّنه الترمذي وصحَّحه الحاكم، ورجَّح بعض الشَّافعيَّة تحريم التعرِّي في الخلوة.

قال الحافظ: والمشهور عند متقدميهم كغيرهم الكراهة فقط. اهـ

الثاني: جواز نزول الرجل في الماء عريانًا، قال القاضي عياض: وكرهه ابن أبي ليلى وقال: إنَّ للماء ساكنًا، واحتجَّ بحديثٍ ضعَّفه المحدِّثون. اهـ

قال العلَّامة الأبي في "مراسيل أبي داود": «ولا تغتسلوا في الصَّحراء إلَّا أنْ لا تجدوا مُتَوَارى فليخطَّ أحدكم خطًا كالدائرة، ثمَّ يسمِّي الله ويغتسل».

وفي حديث: «لا يغتسل أحدكم إلَّا وقربه إنسان لا ينظر إليه».

وفي حديثٍ آخرَ – وهو الذي عناه ابن أبي ليلى -: «لا يدخل أحدكم الماء إلَّا بمئزرٍ، فإنَّ للماء عامرًا». اهـ

الثالث: جواز المشي عريانًا للضرورة، قال ابن الجوزي: لما كان موسى في خلوةٍ وخرج من الماء فلم يجد ثوبه تبِع الحجر، بناءً على أنْ لا يصادف أحدًا وهو عريانٌ، فاتفق أنَّه كان هناك قومٌ فاجتاز بهم، كما أنَّ جوانب الأنهار وإنْ خلت غالبًا لا يُؤمن وجود قومٍ قريبٍ منها. اهـ

الرابع: جواز النَّظر إلى العورة عند الضرورة الدَّاعية لذلك، كمداواةٍ أو براءةٍ من عيبٍ مثلًا.

الخامس: أنَّ ستر العورة لم يكن واجبًا في شرع بني إسرائيل؛ لأنَّ موسى عليه السلام لم ينكر عليهم اغتسالهم، وهم عراةٌ، وإنما كان يستتر هو حياءً، قاله عياض.

وقال النَّووي: إنْ كان التعرِّي جائزًا في شرعهم، فترك موسى تنزهٌ وكرم أخلاقٍ، وإنْ لم يكن من شرعهم فتعريهم تساهلٌ كما يتساهل فيه عندنا كثيرٌ. اهـ

قال الأبي: ويدلُّ على أنَّه شرعهم قولهم: «ما يمنعه أنْ يغتسل معنا».

السادس: أنَّ الأنبياء في خَلْقِهم وخُلُقِهم على غاية الكمال، وأنَّ من نسب نبيًّا إلى نقصٍ في خِلْقته، فقد آذاه ويُخشى على فاعله الكفرَ، قاله الحافظ ابن حجرٍ.

وقال الإمام المازري: الأنبياء عليهم السلام منزَّهونَ عن النَّقصِ في الخَلق والخُلق، سالمون من المعايب، ولا يُلتفت إلى ما نَسب بعض المؤرخين إلى بعضهم من العاهات، فإنَّ الله سبحانه وتعالى رفعهم عن كلِّ ما هو عيبٌ يغضُّ العيون ويُنفِّر القلوب. اهـ

قال الأبي: وليست المعايب المذكورة من الأمراض الحسيَّة التي هم فيها، والنَّاس سواء؛ لأنَّ المعايب تغض العيون، وتنفِّر القلوب كما ذُكر، بخلاف الأمراض، وكان الشيخ – يعني شيخه العلَّامة ابن عرفة - يقول: هو كذلك، ولكن أين دليل أنَّ هذا ليس منها، وذكر ما كان بلسان موسى من العقدة، وأجيب بأنَّ العقدة ليست كالأدرة؛ لأنَّ الأدرة من المعايب بخلاف العقدة، ثمَّ إنَّ العقدة أذهبها الله عنه حين أرسله إجابةً لدعاء موسى حيث قال: ﴿وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفۡقَهُواْ قَوۡلِ﴾ [طه: ٢٧ – ٢٨].

السابع: أنَّ الأنبياء والصَّالحين يصبرون على ما ابتلوا به من أذى الجهَّال والسُّفهاء، حتى ينصرهم الله على أعدائهم، ويجعل العاقبة لهم كما قال الله تعالى: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الأعراف: 128].

وتقدَّم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لقد أُوذي موسى بأكثر من هذا فصبر».

الثامن: قال القرطبي: يؤخذ منه أنَّ من فعل مثل هذا – يعني هربُ الحجرِ بالثوبِ - فهرب بشيءٍ، ثمَّ ردَّه أنَّه يؤدب إذا ردَّه.

قال الأبي: «هو وإنْ كان ضرب أدبٍ فشرطه مخالفته الحكمَ، وهو كذلك هنا؛ لأنَّ فراره بالثوب من العَدَاء».

وهذا بناءًا على أنَّ موسى إنما ضرب الحجر لعلمه بخَلق الحياة فيه.

وقيل: إنما ضربه لغلبة الحدَّة وطِباع البشريَّة عليه، مع علمه بأنَّ الحجر ما سار بثوبه إلَّا بأمر الله تعالى.

وقيل: ضرب الحجر ليبيِّن للحاضرين من قومه معجزةً من معجزاته، بتأثير الضرب بالعصا في الحجر، كأنَّه يشير لهم بذلك إلى أنَّ من أكرمه الله بمثل هذا لا يجوز ولا يصح أنْ يُلمز بشيءٍ مما نطقتم به من المعايب، والله أعلم.

" سمير الصالحين

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين