من قصص موسى عليه السلام مع بني إسرائيل (1)

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنَّ موسى كان رجلًا حيِّيًا ستِّيرًا لا يُرى من جِلده شيءٌ استحياءً منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل.

فقال: ما يستَتِر هذا التستُّر إلَّا من عيبٍ بجلده، إمَّا برصٌ وإمَّا أُدْرةٌ وإمَّا آفةٌ، وإنَّ الله أراد أنْ يبرِّئَه مما قالوا لموسى، فخَلا يومًا وحدَه فوضع ثيابه على الحَجَر، ثمَّ اغتسل فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها، وإنَّ الحجر عدا بثوبه فأخذ موسى عصاه، وطلب الحجر فجعل يقول: ثوبي حجرٌ ثوبي حجرٌ حتى انتهى إلى ملأٍ من بني إسرائيل، فرأَوه عُريانا أحسنَ ما خلق الله، وأبرأَه مما يقولون فقام الحجر فأخذ بثوبه فلبسه، وطفق بالحجر ضربًا بعصاه.

والله إنَّ بالحجر لنَدَبًا من أثر ضربه ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا، فذلك قوله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا﴾ [الأحزاب: 69]. رواه البخاري ومسلمٌ.

وفي روايةٍ لهما أيضًا: «كانت بنو إسرائيلَ يغتسلون عراةً ينظر بعضهم إلى سوأة بعض، وكان موسى عليه السلام يغتسل وحده، فقالوا: والله ما يمنع موسى أنْ يغتسل معنا إلَّا أنَّه آدر، فذهب مرة يغتسل فوضع ثوبه على حجرٍ، ففرَّ الحجر بثوبه فجَمح موسى عليه السلام بأثرِه يقول: ثوبي حجرٌ ثوبي حجرٌ حتى نَظَرت بنو إسرائيل إلى سوأة موسى عليه السلام، فقالوا: والله ما بموسى من بأسٍ، فقام الحجر بعد حتى نظر إليه فأخذ موسى ثوبه، فطفق بالحجر ضربًا».

قال أبو هريرة: والله إنَّ بالحجر نَدَبًا ستةً أو سبعةً ضرب موسى عليه السلام بالحجر.

ورواه أحمد، والبزَّار عن أنسٍ، ورواه ابن جرير عن ابن عباس موقوفًا عليه.

الشرح:

«الأُدْرة»: بضم الهمزة وسكون الدَّال، وبفتح الهمزة والدَّال - أيضًا -، انتفاخٌ في الخصيتين أو إحداهما، وتعرف في مصر بالقليطة، والرجل آدَر بالمد وفتح الدال، أي: مصابٌ بها.

و«البَرَص»: داءٌ معروفٌ نسأل الله السَّلامة منه ومن كلِّ داءٍ.

«عدا»: أسرع.

وفرار الحجر وجريه يحتمل أنْ يكون بحياةٍ وإدراكٍ خلقهما الله فيه، على مذهب أهل السُّنَّة الذين لا يشترطون البنية - أي البلة والرطوبة المزاجيَّة - خلافًا للمعتزلة الذين يشترطون ذلك، ويحتمل أنْ يكون جريه بفعل مَلكٍ من الملائكة.

«ثوبي حجٌر»: أي أعطني ثوبي يا حجر، فحجر بضمِ آخِرِه منادى.

«ملأٌ»: جماعةٌ.

«وطفق»: بكسر الفاء وفتحها – أيضًا - بالحجر ضربًا بعصاه، أي: أخذ بالحجر يضربه ضربًا بعصاه.

«لنَدَبًا»: الندب بفتح النون والدال الأثر، وأصله أثر الجراح إذا لم ترتفع عن الجلد.

«عراةٌ»: جمع عارٍ من العرى، وقول النَّاس عرايا خطأ؛ لأنَّ عرايا جمع عرية وهي النَّخلة يعريها صاحبها غيره ليأكل ثمرتها.

«فجمح موسى»: أسرع في مشيه.

المعنى:

كان موسى عليه السلام كريم النَّفس شديد الحياء، إذا أراد أنْ يغتسل طلب مكانًا خاليًا لا يراه فيه أحد ولا يطَّلع على سوأته، فزعمت بنو إسرائيل أنْ تستره عند اغتساله وابتعاده عن النَّاس إنما هو لعلةٍ فيه، فأظهر الله براءته بذلك الخارق العجيب، حيث جعل الحجر يجري بالثوب.

وجريُ الحجر في هذه القصة آيةٌ عظيمةٌ، لكنه ليس بمعجزةٍ؛ لأنَّه لم يقعْ باختيار موسى ولا وقع التحدِّي به، وإلى هذه القصة أشار الله بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا﴾ مع نبيِّكم ﴿كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى﴾ حيث قالوا: ما يمنعه أنْ يغتسل معنا إلَّا أنَّه آدر ﴿فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا﴾ بآيةٍ من عنده، وهي فرار الحجر بثوبه، حتى رآه بنو إسرائيل عريانًا أحسن ما خلق الله، وأكمله صورة ﴿وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا﴾ [الأحزاب: 69] أي: ذا جاهٍ عظيمٍ.

قال الحسن البصري: كان مستجاب الدعوة عند الله.

وقال بعض السلف: لم يسأل الله شيئًا إلَّا أعطا.

وقال بعضهم: من وجاهته العظيمة عند الله: أنَّه شفع في أخيه هارون أنْ يرسله الله معه، فأجاب الله دعاءه فقال: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا﴾ [مريم: 53].

ومما أُوذي به نبينا صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قسَّم قسمًا في بعض الغنائم، فقال رجلٌ: إنَّ هذه القسمة ما أريد بها وجهَ الله، قال ابن مسعود: فأتيت النَّبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرته، فغضب حتى رأيت الغضب في وجهه، ثمَّ قال: «يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر». رواه البخاري ومسلم.

فإنْ قيل: قد روى أحمد بن منيع في "مسنده" بإسنادٍ حسنٍ، والطحاوي، وابن مردويه وغيرهم عن عليٍ عليه السلام في الآية: أنَّها نزلت في طعن بني إسرائيل على موسى بسبب هارون؛ لأنَّه توجَّه معه إلى زيارةٍ فمات هارون فدفنه موسى، فطعن فيه بعض بني إسرائيل، وقالوا: أنت قتلتَه، فبرَّأه الله تعالى، بأنْ رفع لهم جسد هارون وهو ميت تحمله الملائكة، فخاطبهم بأنَّه مات، وهذا يخالف ما تقدَّم.

فالجواب: أنَّه لا تعارضَ ولا مخالفة لجواز أنْ تكون الآية نزلت في كلتا القصتين، وبيان أنَّ في كلِّ منهما إيذاء لموسى عليه السلام، وما أكثر إيذاء بني إسرائيل لأنبيائهم، كما نبَّه عليه القرآن الكريم.

يتبع

" سمير الصالحين"

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين