الصفات الإيجابية لعباد الرحمن
 
 
قال تعالى: [وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا] {الفرقان:63}.
وصفهم الله تعالى بأنهم عباد الرحمن، وهذا الوصف يشعر بأنهم رحماء فيما بينهم، لا يجافون، ولا يتناحرون، بل هم في اطمئنان وسلام، وروحانية، لا يجعلون للمادة من حياتهم إلا أن تكون غذاء طيبا يأخذون منه القوة للقيام بواجبهم، وهم في أوصافهم الظاهرة والباطنة يتطامنون، ولا يستكبرون، والهَوْن مصدر: هان يهون هونا، وهو المشي في غير عنف، ولا تجبر، وهو وصف محمود، وهو ضد الهوان الذي يذل صاحبه للقوي أو المتغطرس، ويهون عليه، وهو من عذاب، ومعنى هونا أي: يمشى في سكينة ووقار وفي قصد وتؤدة، وتلك أخلاق الأنبياء والذين يقتدون بهم، فالمؤمن يسير في رفق، وقد وصف الله مشي النبي بأنه كان يمشى في هون ورفق، تبدو في مشيته قوة الماشي غير المصطنع المتخاذل، وغير المختال المرح المتعالي، وكما قال الله تعالى: ([وَلَا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الجِبَالَ طُولًا] {الإسراء:37}
 [وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ] {الفرقان:63} ، والجاهلون: هم الحمقى الذين لا يعرفون. ما أحله الشرع، (قَالُوا سَلَامًا) أي: سلما وأمنا، فهم لا يعلون على الناس، ولكن يسالمونهم، وإذا رأوا حمقى لا يحاورونهم، ولا يخاطبونهم على مقتضى قولهم، وإن ذلك دأب الكمال للمتقين، يهدون، ولا يجهلون، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم لا تزيده شدة الجاهل إلا حلما.
ولقد روي أن إبراهيم بن المهدي كان ناصبياً يعادي، وكان المأمون علويا معتدلا، فقال إبراهيم بن المهدي رأيت في رؤيا عليا فتكلم، فما رأيت في كلامه بلاغة، قال فماذا قال لك إذ خاطبته ؟ قال: سلام، قال إذن فقد رأيت عليا، يشير إلى أن عليا خاطبه بما تؤدب به الآية، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما، وقد قال تعالى في وصف المتقين في آية أخرى [وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الجَاهِلِينَ] {القصص:55} ،.
الوصف الثاني من أوصاف أهل الإيمان الإيجابية: [وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا] {الفرقان:64} .
هذا عمل إيجابي، وإذا كان العمل الأول معناه التطامن للناس، وألا يكون بينهم وبينهم شغب، حتى إذا خاطبهم السفهاء بما لا يصدر إلا عنهم، لا يبادلونهم السفه بسفه مثله، بل يقدمون لهم السلام والأمن ويطمئنون، ولا يشاغبون. وهذا عملهم مع الناس، أما هم بالنسبة لله، فقد ذكر سبحانه ذلك في بيانهم، وهو السجود لله تعالى والقيام له، والخضوع له تعالى، فقال: [وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا] {الفرقان:64} هذا عطف على الجملة السابقة في بيان عملهم لله، وكذلك ما يجيء من بعده من أحوال لهم، واللام في قوله (لربهم) متعلقة بـ (سُجَّداً) أي: أنهم يبيتون ساجدين لربهم خاضعين، وقائمين له، وقدم قوله تعالى (لربهم) ؟ لبيان قصر السجود عليه، فلا يسجدون لغيره إذ لا يعبدون غيره، ولا يسجدون لسواه.
والسجود والقيام كناية عن الصلاة، فهم يتهجدون مطيعين ؟ لقوله تعالى: [وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا] {الإسراء:79}.
معنى الآية: أنهم يبيتون على هذه الحال، تنام أعينهم، ولا تنام قلوبهم، كما قال تعالى عنهم: [تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ] {السجدة:16} ، وقال تعالى: [أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ] {الزُّمر:9} .
هذه بعض أحوال عباد الرحمن: اتجاه إلى الله وإغضاء عن مساوئ الناس، ويكون الله تعالى في بياتهم فيكونون لله تعالى في مبيتهم، وفيما يجرحون من أعمال بالنهار.
وإن من كانت هذه أحوالهم يظنون التقصير في ذات أعمالهم، ويترقبون العقاب، ويغلب عليهم الخوف، ولذا يقولون: [وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا] {الفرقان:66}.
لقد توقعوا النار وأيقنوا بعذابها، وعملوا ما يجنبهم إياها، ولكنهم مع ذلك أيقنوا أن أعمالهم لا تكفي لتجنبهم، فضرعوا إلى ربهم أن يصرفها عنهم عالمين أن الجنة من فضل الله، وليست بعمل عملوه ولكن برضا من الله عما عملوه، قال تعالى: [وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا] {الفرقان:65} ) والتعبير بالمضارع يفيد أن هذا حال ملازمة لهم يكررونها دائما، بالخضوع والخشوع والحذر الدائم المستمر، فهم في حذر في دائم مستمر، فيكونون مع الله بحذرهم لا يفترون، [إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا] {الفرقان:65}  أي: كان أمرا ملازما، فالغرام هو الأمر الملازم الذي يكون خسارا وشرا، ولذا فسر بعض التابعين الغرام: بالشر الملازم وكل غرام يزول عن صاحبه أو يفارق صاحبه إلا غرام جهنم، وإن المؤمن الحق يؤتي الله حقه، ولا يحسبه قد أوفي، ولذا قال تعالى: [وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ] {المؤمنون:60}.
 [إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا] {الفرقان:66} بمعنى: بئس، فهى لذم جهنم، والمستقر
هو مكان الاستقرار، والمقام هو مكان الإقامة، والمعنى بئس الورود إليها على جهة الاستقرار، والإقامة فيها، والجمع بينهما للإشارة إلى أنه ليس استقرارا عارضا ولكنه إقامة دائمة.
بعد أن ذكر حال عباد الله مع الله، ومع الناس أخذ سبحانه وتعالى يذكر حالهم في أنفسهم، ودنياهم وأسرهم، فقال عز من قائل: [وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا] {الفرقان:67}.
الإنفاق: هو الصرف فيما يقيم الأود ويدفع الجوع، والإسراف هو الإنفاق في غير الحاجة بالزيادة عليها، والإسراف المنهي عنه هو الإنفاق في غير حق لله أو للناس أو لنفسه، ولقد قال ابن عباس: (من أنفق مائة ألف في حقه فليس بمسرف، ومن أنفق درهما في غير حقه فهو مسرف، ومن منع من حق عليه قتر).
وظاهر الآية أن عباد الرحمن قد أخذوا بقوله تعالى: [وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا] {الإسراء:29} ،  والقتر: هو التضييق على النفس بحيث يكون في قترة، ويحرم نفسه من أقل مطالب الحياة، أو يضيق فيها، والإقتار الفقر أو الضيق في المادة، ما قال تعالى: [عَلَى المُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى المُقْتِرِ قَدَرُهُ] {البقرة:236}  ، ومعنى الآية أنه ينفق في حلال بمقدار طاقته وقدرته، ولا يضيق على نفسه في الحلال، [وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا] {الفرقان:67} أي: عدلا بين الإسراف والقتر.
وإن النص الكريم يفهم منه أمران:
أحدهما: ألا ينفق في حرام قط، وألا يضن عن حلال موجود إلا تربية للنفس وتهذيبا، وفطما لها عن الشهوات، ولذا كان عمر رضي الله عنه يعد من يطلب كل ما يشتهي مسرفا، لأنه إذا حق الأمر لا يستطيع قَدْع نفسه عن شهواتها.
الأمر الثاني: أن الإنفاق بين الإسراف والقتر يختلف باختلاف أحوال الأشخاص، فإذا كان الرجل كسوبا عليه أن ينفق في الحلال والجهاد بمقدار كسبه وطاقته ما دام ينفق في مطلوب، وما دام كسبه واسعا، ولقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً من أبى بكر كان من موفور ماله لأنه تاجر كسوب، يعرف مواضع الكسب والخسارة، ولم يقبله من غيره، وقد قال تعالى: [وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ] {البقرة:219} ، أي: السهل اللين الذي لا يجهد ذا المال إنفاقه ولا يصعب عليه.
هذه أحوال إيجابية هي التي صورت شخصية عباد الرحمن والتي كونت فيهم الإيمان والعمل الصالح، والجمع بين سلامة القلب، واستقامة العمل، وتكوين الإنسان النافع، وقد ذكر سبحانه وتعالى بعد ذلك ما يتجنبونه لكيلا يكون ما يعوق هذه الأخلاق العالية، فقال تعالى: [وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا] {الفرقان:69} .
إن أولئك الأبرار الذين رضي الله سبحانه وتعالى أن يضيفهم إلى ذاته العلية، فقال و[عِبَادُ الرَّحْمَنِ] ، قد اتصفوا بالكمالات البشرية فهم لا يستعلون على الناس، ويرفقون بهم، ولا يشاكسون بل تكون علاقتهم بالناس دائما أمنا وسلاما، وامتلأت قلوبهم بالتقوى والخوف من العذاب، والذين قد اتزنوا في حياتهم لا يسرفون ولا يقترون، أولئك فد اتصفوا بصفات، وهى ذاتها تحمل جزاء، فالكريم إذا اتصف بمعالي الصفات، كان جزاؤه هو هذه الصفات ذاتها، وهى نعم الجزاء، ولذا لم يذكر سبحانه وتعالى جزاءها، وإن كان لها الجزاء الأوفى.
وقد ذكر سبحانه ما اجتنبوه، وهو كبريات المساوئ الإنسانية، كما أنهم تحلوا بأعلى المناهج الكمالية، فقال تعالى: [وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آَخَرَ] {الفرقان:68} .
وهذه أول معصية تحط من قدر الإنسان، وتنزل به إلى بر المهاوي الإنسانية (يدعون) يعنى: يعبدون، لأن العبادة دعاء لله تعالى وضراعة إليه، وتسليم كل أمورهم في جنب الله، والدعاء مخ العبادة، والإنسان يهبط في درجة الإنسانية إذا عبد غير الله، وأي كرامة إنسانية لمن يعبد حجرا لا يضر ولا ينفع، أو يعبد إنسانا مثله، أو يعبد ما يصوره وهمه كالملائكة يتصور أنها تعبد، أو نارا، أو غيرها، إن هذا دواء إنساني، ومن يعبد شيئا من هذا، إنما يعبد وهما تدفع إليه شهوة منحرفة، فقد اتخذ إلهه هواه.
هذا هو الانحراف الأول الذي تجنبه عباد الرحمن، أما الانحراف الثاني الذي تجنبوه فقد نفاه الله تعالى عنهم بقوله عز من قائل: [وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالحَقِّ] {الفرقان:68}  وهذا وصف للعاصين، وهو المشاكسة التي تؤدي إلى القتل، فهذا مقابل للسلام في قوله تعالى: [وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا] {الفرقان:63} )، وقوله تعالى: (إِلَّا بِالحَقِّ) الجار والمجرور متعلق (لَا يَقْتُلُونَ) الحق هو الأمر الثابت الذي يسوغ القتل من اعتداء أثيم، أو زنى، أو ردَّة بعد إيمان، وهذا النص يفيد أن الأصل في النفوس الصيانة، وألا يعتدى عليها، ويحفظ أمنها، وأنه لا تستباح الأنفس، إلا بحق كما قال تعالى: [مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا] {المائدة:32} .
والأمر الثالث الذي نفاه الله تعالى عن عباد الرحمن الاعتداء على النسل بالزنى، ولذا قال تعالى: [وَلَا يَزْنُونَ] {الفرقان:68} ؟ لأن إشاعة الزنى تضيع النسل، ولا تجعل الناس في أمن ودعة، وتضعف الوحدة الإنسانية، ويكون الناس في تناحر، وتنزل بالقيمة الإنسانية إلى دركة الحيوانية، ولقد قال محمد صلى الله عليه وسلم: (وما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة في رحم امرأة لا تحل له).
وقال صلى الله عليه وسلم: (قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ ؟قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ، قَالَ: قُلْتُ :ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: أَنْ تَزْنِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ) ـ رواه الترمذي ج5/ص336 ح3182 وابن حبان ج10/ص261 ح4414، والبيهقي في الكبرى ج8/ص18 ح15618 ـ .
وقد ذكر سبحانه وتعالى عقاب هذه المآثم التي هي أمهات الرذائل فقال: [وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا] {الفرقان:68} الآثام: جزاء الإثم وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، أي: أنه جزاء من نوع ما ارتكب، ولكنه جزاء كبير، وإطلاق الآثام بمعنى جزاء الإثم، وارد في اللغة العربية، فقد جاء في الكشاف هذا البيت من الشعر:
جزى الله ابن عروة حيث           أمسى عقوقا والعقوق له أثام
وإن هذا الأثام شديد، حتى أنه ليحسب أنه مضاعف الإثم ليس مثله، ولذا قال تعالى في بيان هذا الأثام وتوضيحه: (يضاعف له العذاب يوم القيامة) إن الله تعالى عدل، يجازي السيئة بمثلها، ورحيم يجازي الحسنة بعشرة أمثالها، فكيف يجعل العقاب ضعف الذنب، أجاب عن ذلك صاحب الكشاف بأن المضاعفة لأنه عقاب الشرك، وعقاب الذنب الذي ارتكب من قتل نفس وزنى، ونقول حينئذ لا مضاعفة.
والذي يبدو لي غير متطاول على مقام الزمخشري: أن العذاب شديد عنيف حتى أنه ليبدو لدى المعاقب، كأنه مضاعف للذنب، وإن المذنب دائما يحس بالجزاء كأنه أكثر من الذنب، فالله تعالى يصور له العقاب كأنه مضاعف، ولأنه يتجدد آنا بعد آن، كلما نضجت جلودهم بدلهم الله تعالى جلودا غيرها، فهو عذاب بعد عذاب، وبهذا التكرار الدائم يكون كأنه مضاعف.
وإنه عذاب دائم مستمر، ولذا قال تعالى: [وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا] {الفرقان:69} ، أي: آت مستمر مع مهانته الشديدة الواضحة الدائمة المستمرة، وكذلك يستبدل الله بغطرستهم الجاهلية، واعتزازهم الظالم العاتي مهانة دائمة مستمرة، وقد استثنى العادل الحكيم الذين يتوبون في الدنيا، فقال: [إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَابًا] {الفرقان:71}.
هذا الاستثناء من العذاب السابق ذكره في الآية السابقة، وقد ذكر سبحانه وتعالى ثلاثة أمور تخرج الشخص من دركة الكفر والطغيان إلى درجة الإحسان واستحقاق الثواب.
وأول هذه الأمور:  التوبة، وثانيها: الإيمان، وثالثها: العمل الصالح فقال:  [إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا] {الفرقان:70} .
أما أولها: وهى التوبة فهي أعلى درجات الاعتذار عن العمل السيء، وقد قال في ذلك الراغب الأصفهاني في مفرداته: (التوبة ترك الذنب على أكمل وجوه الاعتذار، فإن الاعتذار على ثلاثة أوجه، إما أن يقول المعتذر: لم أفعل، أو يقول: فعلت لأجل كذا أو فعلت وأسأت وقد أقلعت، ولا رابع لذلك، وهذا الأخير هو التوبة، والتوبة في الشرع ترك الذنب لقبحه، والندم على ما فرط منه، والعزيمة على ترك المعاودة، وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال بالإعادة فمن اجتمعت له هذه الأربع فقد كمل شرائط التوبة).
ولا شك أن من تكون له هذه الإنابة يغسل قلبه من أدران الشر، ويرحض عنه كل ما كان من المآثم التي ارتكبها في حال غيه، ولذلك يغفر الله ما قد سلف، ويبتدي التائب صفحة جديدة تحل محل صفحة السوء، ويبدل مكان السيئات حسنات، ويقول الله تعالى في ذلك: [قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ] {الأنفال:38} .
هذا هو الأمر الأول، وهو الأساس للأمرين الآخرين، بل هو النور الهادي لهما، أما الأمر الثاني: فهو الإيمان بأن ينتقل من دركة المعصية إلى درجة الوحدانية، ومن دركة الكفر بمحمد والقران والعناد إلى درجة الإذعان للحق والإيمان به والجهاد في سبيله.
وأما الأمر الثالث: فهو العمل الصالح، وقد قال تعالى: [وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا] {الفرقان:70} وإن ذلك العمل يؤكد الإيمان ويوثقه، لأن العمل ثمرة الإيمان، أو هو جزء منه، كما أن ثمرة العلم العمل، والإيمان أعلى درجات العلم، إذ هو علم وتصديق وإذعان وتسليم، وقد أكد سبحانه وتعالى العلم فقال: [وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا] {الفرقان:70} وذلك بذكر المصدر تأكيداً لمعنى العمل، وليكون ذلك العمل بعد الإيمان مقابلا للعمل الذي كان في جاهليتهم، ولبيان أنهم يعملون عمل عباد الرحمن، الذين يمشون على الأرض هونا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما.
وقد بين سبحانه وتعالى جزاء هذه المثوبة الكاملة، وذلك العمل الصالح، والإيمان الكامل فقال: [فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ] {الفرقان:70} الفاء: واقعة في جواب الشرط، أو ما هو في معنى الشرط، لأن الموصول في معنى الشرط، و(أولئك) إشارة إلى الذين كانت فيهم هذه الأحوال من توبة وإيمان وعمل صالح، والإشارة إلى الموصوف بصفات إشارة إلى هذه الصفات، وإلى أنها سبب الحكم، ولم تجد الحكم جزاء بالنعيم، وسيجىء ذلك من بعد، إنما الجزاء أن يبدل سيئاتهم حسنات، والتبديل هو التغيير، أي: أنه سبحانه وتعالى يغير سيئاتهم، ويضع محلها حسنات، وإن ذلك بلا ريب واضح من التوبة، ذلك أن التوبة كما قررنا ترحض النفوس، وتزيل عنها أدرانها، وتجعلها مجلوة مصقولة، وصالحة لأن يحل محلها الطهر والنقاء، والعمل الصالح المجدي، ألم تر إلى عمر بن الخطاب الذي مكث يكابر ويغلظ في عناد، ويشتد على المؤمنين بضع سنين بعد البعث المحمدي، كيف تاب وآمن وعمل عملا صالحا، ألا تراه قد زالت مآثمه من قلبه، وأحلَّ الله تعالى محلها عملا صالحا، فحلَّت الأعمال الصالحة ذات الأثر البعيد في الإسلام محل ما كان منه في الجاهلية، ولذا قال سبحانه [فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ] {الفرقان:70} فالتبديل على هذا هو: تغيير ما كان في النفس من أدران السيئات، وإحلال طيبات الأعمال والنيات محلها.
وختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالى: [وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا] .
هاتان صفتان من صفات الله تعالى أنه يغفر السيئات ويسترها، ويرحم عباده بهذا الغفران، وكذلك شأنه الأعلى، شأنه سبحانه يقرب عباده بالغفران والرحمة وفتح باب التوبة لمن أراد من عباده الصالحين. ثم قال تعالى: [وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَابًا] {الفرقان:71}.
في هذا النص السامي يبين الله تعالى أن من يؤمن تائبا، ويعمل العمل الصالح ضارعا، فإنه يعود إلى الله تعالى راضيا مرضيا، ويركن إلى الله تعالى، وحسبه أنه ركن إلى الله تعالى القوى القهار الغالب، يأمن بجانب الله تعالى شر كل مخلوق.
 ومتاب: أحسب أنه اسم مكان، أي أنه يعود إلى مكان التوبة وملجئها الحصين الذي لا يذل من يلجا إليه، ويجعله حصنه الحصين، وركنه الركين، والفاء في قوله تعالى: [فَإِنَّهُ يَتُوبُ] {الفرقان:71} الفاء: واقعة في جواب الموصول؛ لأنه في معنى الشرط كما ذكرنا، كان ذلك هو الثمرة الكبرى للتوبة.
وقال سبحانه وتعالى في الأحوال النافية لعباد الرحمن:
 [وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا] {الفرقان:72}.
الزور: هو كل باطل مزور مزخرف بحيث يؤثر في النفس مرآه، وهو زخرف باطل، فيدخل في ذلك اللهو العابث والقول الماجن، والكذب والفحش وفسوق القول، فعباد الله الرحمن الذين شرفوا بالانتساب إليه لا يحضرون هذا النوع من الباطل، لأنه من سوق الخطائين الذين تروج بضاعته بينهم، وبهذا تفسر الآية الآية، فـ (لا يشهدون) أي: لا يحضرون، فهم لا يجلسون في مجالس الزور من الأقوال والأفعال، بل تستغرقهم مجالس العبادة، ومجالس الجد والأفعال الحميدة التي تعود بالنفع على الناس، وتدرس فيها الحقائق الكونية والمصلحية، وتروى فيها السنة النبوية، وتعرف فيها معاني الذكر الحكيم، والقرب من رب العالمين.
هذا تفسير للنص القرآني، ولقد قال الزمخشري في هذا المعنى على أنه احتمال: (يحتمل أنهم ينفرون عن محاضر الكذابين ومجالس الخطائين، فلا يحضرونها، ولا يقربونها تحرزا عن مخالطة الشر وأهله صيانة لدينهم عما يثلمه، لأن مشاهدة الباطل شركة فيه، ولذا قيل في النظارة إلى ما لا تسوغه الشريعة هم شركاء فاعليه في الإثم، لأن حضورهم ونظرهم دليل على الرضا به، وسبب وجوده والزيادة فيه، لأن الذي سلط على فعله هو استحسان النظارة، ورغبتهم في النظر إليه، وفي مواعظ عيسى علام: (إياكم ومجالسة الخطائين) وهذا نظر حسن، واتجاه سليم فإنه من المقررات أن أول الشر استحسانه، وأول الباطل حضوره.
هذا احتمال في معنى الآية وهو معنى حكيم سليم مرشد، وهو يليق بحال عباد الرحمن، وهناك احتمال آخر، وهو أنهم لا يشهدون شهادة الزور، ويكون الكلام على حذف مضاف، فمعنى [وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ] {الفرقان:72} أي لا يشهدون شهادة الزور، وسميت الشهادة في هذه الحال الزور؛ لأنها كذب، وهى تكون في مجالس الظلم أو معاونة للظالم، أو معاونة على الظلم، ويصح هنا أن شهادة الزور التي يروج فيها الباطل، وينصر الظالم، وتؤكل أموال الناس بالباطل تكون داخلة في شهادة الزور، وحضور مجالسه.
ويقال للكذب زور: لأنه مائل بالنفس عن قول الحق، وكأن طبيعة النفس ألا تقول إلا صدقا، والكذب انحراف بها وميل عن الصراط المستقيم، لأن القلب المخلص يتجه اتجاها مستقيما، ثم ينطق نطقا مستقيما، فينطق بالصدق، ثم يسير في خط الاستقامة إلى أقصى مداه، وهو خط الحكمة والفطرة الإنسانية.
ولقد قال تعالى: [وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا] {الفرقان:72}  اللغو من الكلام: ما لا يعتد به وهو الذي يورد من غير روية وفكر، ليجري مجرى اللغا، وهو صوت الطير الذي يكون له معنى محدود، وكما يقصر اللغو على القول الذي لا يكون له قصد معقول يقره العقلاء، كذلك يطلق على الأفعال العابثة، والمقابح التي يلهو بها بعض الناس في جلوسهم على المقاهي، وأهل اللغو من شأنهم أن يعيبوا غير المعيب، ويسخروا من أهل الفضل، ولا يجاريهم إلا من يكون على شاكلتهم في الأفعال والأقوال، ويقطعون الساعات في غير عبادة مقررة، ولا عمل نافع يقصد إليه، فعباد الرحمن لا يخوضون مع هؤلاء في قول أو فعل، ولذا قال تعالى: [وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا] {الفرقان:72} أي: مروا معرضين، كما يقول الله تعالى: [وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ] {القصص:55} ، وكراما تدل
أولاً: على أنهم ينكرونه بقلوبهم لا ينكرون ما يفعله أهله بألسنتهم، حتى لا يخوضوا معهم في حديث يجرهم إلى أن يجيء على مسامعهم رفث القول وفسوقه.
 وثانيا: يكتفون بالاستنكار السلبي، وذلك يفعل في النفوس ما لا تفعله الأقوال، وهو موعظة واستنكار للأشخاص والأفعال، والأقوال.
 وثالثا: ينصرف إلى نفسه، فيهذبها عن اللغو، وذلك في ذاته دعوة إلى الجد، والابتعاد عن العبث وانصراف إلى المجد.
وسماهم في هذه الحال كراما ؟ لأن الكريم يعلو بنفسه عن مواضع العبث والهذر والسخف، يقال تكرم فلان عما يشينه، وإكرام نفسه عن القبح، وفي ذلك إشعار بأن الخوض في العبث أو مشاركة أهله فيه هو مهانة كل المهانة، وحط كل الحطة.
ومن أحوال المؤمن السلبية، وإن جاء بشكل فيه مظهر إيجاب ما ذكره سبحانه وتعالى بقوله: المخْلص يتجه اتجاها مستقيما، ثم ينطق نطقا مستقيما، فينطق بالصدق، ثم يسير في خط الاستقامة إلى أقصى مداه، وهو خط الحكمة والفطرة الإنسانية.
ولقد قال تعالى: [وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا] {الفرقان:72} .
 اللغو من الكلام: من أحوال المؤمن السلبية، وإن جاء بشكل فيه مظهر إيجاب ما ذكره سبحانه وتعالى بقوله: ذكر الله تعالى بعد ذلك وصفا يدل على إخلاص قلوبهم لمن يجيء بعدهم من ذرياتهم، إذ يريدون أن تمتد التقوى في أعقابهم من بعدهم، فيقول سبحانه [وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا] {الفرقان:74}.
هذا النص السامي يدل على أن أخلاق عباده أن يطلبوا الولد صالحا تقيا مؤمنا صادق الإيمان لا أن يطلبوا النعم؛ لأن عمارة هذا الوجود بالولد، ولذا طلبوا هبته، ولم يطلبوا الحرمان، كما يطلب فجرة هذا الزمان المشؤوم، كرر طلب الولد الصلبي في قوله تعالى: [رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا] {الفرقان:74} ؛ لأن الولد المنسوب إلى الأزواج وهو جمع زوج هو الولد الصلبي، وأما الولد من الذرية فهو من بعد الولد الصلبي، والذرية الأولاد من الظهور كالابن وابن الابن وبنت الابن، وذلك على اصطلاح الفقهاء، وهو مشتق من اللغة، ونرى أن النص يومئ إلى أنه من يكون من دمه، سواء أكان من أولاد الظهور، أم من أولاد البطون، ومهما يكن الخلاف في هذا فإنه لا جدوى فيه من موضوعنا لأنه إن اقتصر في ناحية على أولاد الظهور، فمن ناحية أخرى يطلب غيره من يكون من أولاد الظهور له، وتعم الدعوة السلالات أجمعين إذا خلصت كل النفوس، وكانوا عباد الرحمن.
كان طلب عباد الله الصالحين، أن تكون لهم أعقاب صالحة، عبروا عنها في دعوتهم بقوله [قُرَّةَ أَعْيُنٍ] {الفرقان:74} القرة: من القرار وهو الاستقرار والثبات، ويقول الأصفهاني في مفرداته: إن الأصل فيه أنه من: القر بضم الراء وهو: البرد؛ لأن العين في حال تستقر، وتهدأ، إذ كانوا يرهبون الحر، لأنه عندهم يكون شديدا، وقالوا: برد المتقين، وغيرهم يقول: حرارة الإيمان، والمفهوم من قرة العين أن تكون مطمئنة بذكر الله وأن يكونوا في سكينة الإيمان، وقرار العين مظهر من مظاهر سكون النفس، واطمئنان الفؤاد.
وقالوا في دعائهم: [وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا] {الفرقان:74} أي: اجعلنا معشر عباد الرحمن.
إماما: أي يقتدي بنا ونتبع في الهداية والتوفيق، وإمام معناها أئمة؛ لأن إمام مصدر يوصف به الواحد والجمع والذكر والأنثى.
ولقد بين سبحانه وتعالى جزاء من يكونون في هذه الأحوال الموجبة والسالبة، والمشبهة، فقال عزَّ من قائل:
 [أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا] {الفرقان:76}.
يقول المفسرون الذين يتجهون إلى الإعراب ابتداء إنَّ قوله أولئك: (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ) خبر لقوله تعالى: [وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ] {الفرقان:63} ، وما وليها من صفات وأحوال، وأنا أقول، إن قوله تعالى: [وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا] {الفرقان:63} هو مبتدأ وخبره، وما جاء بعد ذلك من معطوفات على الخبر، والمؤدى واحد، فليس الاختلاف اختلافا في المعنى، إنما اختلاف في الإعراب.
والإشارة هنا إلى أصحاب هذه الأحوال والصفات، ومن المعروف أن الإشارة إلى الموصوف تومئ إلى أن هذه الأوصاف سبب الحكم، وهو هنا الجزاء فهذه الصفات سبب ذلك الجزاء، وقد قال القرطبي في عبارة جامعة لهذه الصفات: (وأوصافهم من التخلي، وصفات التخلي هي: إحدى عشرة، التواضع والحلم، والتهجد والخوف، وترك الإسراف والإقتار، والنزاهة عن الشرك، والزنى والقتل، والتوبة وتجنب الكذب، والعفو عن المسيء، وقبول المواعظ، والابتهال إلى الله تعالى.
والغرفة تطلق على علية البيت، واستعيرت للجنة أو لعلية الجنة أي: أعلى مكان فيها؛ لأن هذه الصفات رفعتهم إلى أعلى درجات الإنسانية، فاستحقوا أعلى جزاء وهو الجنة أو أعلاها.
بأنهم يجدون في الجنة التي تسنموا أعلاها، وكانوا في الذروة الترحاب والأنس والكمال ويجدون مع هذا كله الأمن والسلام والاطمئنان والقرار، ولذا قال تعالى: [وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا] {الفرقان:75} لقي: هي مضعف لقى أي: يلقون في قوة راحمة تحية طيبة، وهى اللقاء الطيب، مع الأنس والاحترام والإقبال، كما قال تعالى: [...وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا] {الإنسان:11} ، والسلام: الأمن والاطمئنان، فلا يزعجون بشيء مما يزعج به أهل الدنيا، فإن الملائكة يدخلون عليهم من كل باب، [سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ] {الرعد:24}.
وهنا إشارة بيانية في قوله تعالى: [أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا] {الفرقان:75} ، أي: أنَّ هذا الجزاء الموفور الذي هو أعلى درجات الجنة بما صبروا، أي بسبب صبرهم وذكر ذلك تصويراً لصبرهم الدائم المستمر، وذلك لأن هذه الطاعات تحتاج إلى إرادة قوية صابرة، فإنها قمع لشهوات التعالي في الدنيا، والغطرسة والسلطان، وغيرها من الغرائز الإنسانية، فقد قمعوا هذه الغرائز وشذبوها، وجعلوها في ناحية الخير لا تعدوها.
وإن الله سبحانه وتعالى فضل هذه النعمة بدوامها، وبقائها، وخلودهم فيها
فقال تعالى: [خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا] {الفرقان:76} إذ النعم ينقصها فناؤها، وهذه نعمة كاملة لا تفنى ويخلد فيها أصحابها، وكما قال سبحانه وتعالى في عذاب جهنم [إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا] {الفرقان:66}  قال في هذه [حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا] {الفرقان:76} ، أي: هذه الغرفة العالية في الجنة نعم هي مستقرا فيها حين يستقرون ونعم هي مقام طيب خالد.
قال تعالى مخاطبا الخارجين عن طاعته، وفيه التفات من عباد الرحمن إلى المشركين. [قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا] {الفرقان:77}.
الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ليوجه إلى المشركين خطاب الله تعالى، وقد أمر الله لمحمد بأن يخاطبهم بهذا الخطاب؛ لأنه نبيهم المرسل؛ ولأنهم يعاندونه ويتحدونه، ويكفرون، فأمره سبحانه بأن يذكر لهم أن الله تعالى لا يباليهم، ولا يهتم لهم لولا تصحيح اعتقادهم.
وما نافية، ومعنى (ما يعبا) : لا يبالى، ولا يحمل عبئكم لولا دعاؤكم، أي: لولا عبادتكم عبادة صحيحة تؤمنون فيها بالواحد، فالدعاء هنا العبادة، ودعاء الله عبادته، أي: أنه سبحانه لا يهتم بكم إلا لأجل تصحيح عبادتكم، ويصح أن يقال: إن الدعاء هنا هو دعوتهم إلى العبادة الصحيحة والمؤدى واحد، وفي الأول يكون (دُعَاؤُكُمْ) الدعاء: منهم إليه تعالى، وفي الثاني: يكون الدعاء من الله ورسوله إليهم ليعبدوه سبحانه وتعالى. وجعل بعضُهم اللفظَ يحتمل هذا المعنى لولا دعاؤكم الأوثان وعبادتهم،  وذلك ضلال في عقولكم، وأَفَنٌ في أنفسكم، والله لا يرضى لعباده هذا الضلال، ونحسب أن التخريج بعيد في تأويله وتفسيره.
وقال تعالى: [فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا] {الفرقان:77}  الفاء للسببية، أي: لا يبالى سبحانه بكم لولا أنه يدعوكم بالحق، وبسبب تكذيبكم لا يعبأ بكم: لا يبالى [فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا] {الفرقان:77}  الفاء: عاطفة وسوف لتأكيد الوقوع في المستقبل، واللزام مصدر لازم، فمصدر فاعل فعال ومفاعلة، وهو ملازمة العذاب لهم، وقد قال تعالى: [وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى] {طه:129}.
ومعنى النص في الآية الكريمة السامية لا يبالى بكم ربكم لولا دعاؤكم أن نعبد الله وحده، ولكن كذبتم دعوة الحق وأصررتم على تكذيبكم، فسوف يكون العذاب ملازما لكم وتكونون خالدين فيه.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين