وظيفة العقل عند أهل السنَّة (1)

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمَّد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

وبعدُ فإنَّه لا يُتصوَّر أن يستريب مسلم عاقل منصف قارئ للقرآن الكريم بتفهُّم في كون العقل مرجعاً صحيحاً معتمداً لمعرفة الحقِّ وإحقاقه وتمييزه عن الباطل وإبطاله...

فكم من نصٍّ شريف صريح فيه الدَّعوة إلى التَّفكُّر والنَّظر ومدح المتفكرين! قال الله تعالى: { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون}[البقرة: 164]، وقال تعالى: {ويتفكرون في خلق السموات والأرض}[آل عمران: 191]، وقال تعالى: {كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون}[يونس: 24]، وقال تعالى: {إنَّ في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}[الرعد: 3]. وغيرها كثير.

وكم من نصٍّ شريف صريح فيه ذمُّ الذين لا يعقلون! قال الله تعالى: {أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون}[البقرة: 170]. وقال تعالى: {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير}[الملك: 10].

وكم من نصٍّ شريف يتضمَّن ذكر الأدلة العقليَّة على وجود الله تعالى ووحدانيَّته وأنَّه على كلِّ شيء قدير... وعلى غير ذلك من أصول الدِّين!

قال الله تعالى: {يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج * ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير * وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور}[الحج: 5-7]، وقال تعالى: {وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم * الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون}[يس: 78-80].

وكم من نصٍّ شريف يتضمَّن ذكر مجادلات ساداتنا الأنبياء على جميعهم صلوات الله وسلامه لأقوامهم بالأدلة العقليَّة! قال الله تعالى: {قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض}[إبراهيم: 10]، وقال تعالى مخبراً عن مجادلة سيدنا إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام لقومه: {قال بل فعله كبيرهم فاسألوهم إن كانوا ينطقون}[الأنبياء: 63]، وقال تعالى مخبراً عن مجادلة سيدنا إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام لقومه أنَّه استدلَّ عليه بأن قال: {فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب}.

فكم يكون بعيداً عن فهم القرآن الكريم من لا يعرف منه الحضَّ على النَّظر والتَّفكُّر في خلق السموات والأرض للوصول إلى العلم اليقينيِّ بوجود الله تعالى واتِّصافه بالكمالات وتنزُّهه عن النقائص.

وكم يكون بعيداً من القرآن الكريم من يتوهَّم أنَّ أصول الدِّين مما لا شأن للعقل للاستدلال فيها!

وكيف يُنكَر كون القرآن الكريم أصلاً في تصحيح المجادلة بالأدلة العقليَّة في إحقاق الحقِّ؟

فهذه سُنَّة ساداتنا الأنبياء السَّابقين على جميعهم صلوات الله وسلامه، وهي سُنَّة سيِّدنا ومولانا رسول الله محمَّد صلى الله عليه وسلَّم تسليماً كثيراً، فإنَّه هو من كان يدعو قومه إلى التَّفكُّر والنَّظر ويجادلهم بما نقل لنا القرآن الكريم ويذمُّ تقليدهم وعنادهم واتِّباعهم الأوهام والظُّنون وإعراضهم عن النَّظر.

وقد جرى على هذه السُّنَّة علماء أئمَّة محقِّقون قاموا بنصرة الدين بما أمر الله تعالى به بالمجادلة بالطَّريق الحقِّ، فأقاموا البراهين العقليَّة القاطعة في صحَّة الدِّين والذبِّ عن مذهب أهل السُّنَّة رضي الله عنهم وبيان ضعف ما يخالف الحقَّ.

ولذلك فإنَّ ما يُسمَّى (علم الكلام) وهو "العلم بالعقائد الدِّينيَّة عن أدلَّتها اليقنيَّة" مطلوبٌ شرعاً، لأنَّه في طريق لأوَّل ما كُلِّف به النَّاس وهو الإيمان، فهل يمكن أن يؤمن مؤمن إيماناً راسخاً بما هو حقٌّ إلا بالعلم؟

وإنَّ هؤلاء العلماء المشتغلين ببيان الحقِّ في أصول الدِّين بالأدلَّة القطعيَّة هم المسمَّون بمتكلِّمي أهل السُّنَّة، الذين واجهوا الضَّالِّين من مبتدعة وكافرين، ولاحقوهم حتَّى أطفأوا نيرانهم، وحشروا وحوشهم بفضل الله الذي هداهم لهذا، وكان هؤلاء رضي الله عنهم وجزاهم عن المسلمين خيراً قائمين بالحقِّ لا يخشون في الله تعالى لومة لائم، وكان نظرهم إلى وظيفتهم يقتضي أن يواجهوا الباطل حتَّى لو كانت مَهْلَكُتهم، كالإمام الباقلانيِّ رحمه الله، الذي لم يرتض في تمثيله لأهل السُّنَّة في مناظرة المعتزلة أن يتأخَّر عن صدر مجلس عضد الدولة البويهيِّ.

والإمام العز ابن عبد السلام رحمه الله، الذي واجه الملك الأشرف الأيوبيَّ رحمه الله بالحق، وقال له: "فإنا نزعم أنّا من جُملة حِزب الله وأنصار دينه وجنده، وكل جندي لا يُخاطر بنفسه فليس بجندي".

نعم، لا يعني هذا أنَّ تعلُّم علم الكلام فرض على كلِّ مسلم، بل إنَّ هذا العلم من فروض الكفايات، فإنَّ الحاجة إليه تعظم في أوقات خاصَّة.

أمَّا أن يكون ذلك سبباً لذمِّه بسبب كون تقرير مسائل هذا العلم باصطلاحاتها حادثة، ولكون ذلك لم يظهر في القرون الأولى، فهذا بُعدٌ عن الواقع والحاجة إليه، فلقد قال الإمام أبو المعالي الجوينيُّ رحمه الله: إنَّ علم الكلام بدعة واجبة لردِّ ما نبغ من البدع والضلالات والكفريات.

ولنا في قصَّة الإمام المحدِّث أبي بكر الإسماعيليِّ رحمه الله عبرة وأيُّ عبرة، فإنَّه أخبر بأنَّه كان كارهاً لعلم الكلام، حتَّى اضْطرَّ هو لأن يناظر شخصاً إسماعيليَّ المذهب باطنياً كافراً، فتحقَّق حينئذ من الحاجة إلى التأسُّس بالأدلَّة العقليَّة في إثبات صحَّة الإسلام، وقال إنَّ علم الكلام "عمدة من عمد الإسلام".

ولا يضرُّ هذا أنَّ من المتكلمين مبتدعة ضالُّون، بل إنَّ وجود المبتدعة الضَّالِّين موجب لتأهُّل من يردُّ عليهم، وليس ذلك من وظيفة المحدِّث ولا الفقيه ولا عالم القرآءات... بل إنَّه من وظيفة العالم في الأدلة في أصول الدين وإبطال أوهام الضَّالِّين. وإنَّ الضَّاليِّن من غير المتكلِّمين الباحثين في المعقول أكثر بكثير من الباحثين فيها.

وإنَّ ما يجري في زماننا من انفتاح أبواب الضلالات لَموجِب على العلماء والمشايخ إعادة الاهتمام بترسيخ الاعتقاد الحق في قلوب المسلمين بالطريق العقليِّ الصَّحيح، فإنَّ من يكن انتماؤه إلى الدِّين بطريق التَّعصُّب قد ينقلب تعصُّباً ضدَّ الدِّين، فهو منتقل من جهل إلى جهل. وإنَّ من يكون انتماؤه للدين عن فراغ فإنَّ ما يأتي من ضلالات سيملؤه بها بالإعلام العالمي الكثير المتكرر.

لا بدَّ من أن يترسَّخ لدى عوامِّ المسلمين أن العقل مرجع في أصول الدين، لا من حيث اختراع اعتقاد، بل من حيثيَتَيْن منصوصتين في القرآن الكريم:

الأولى: بالوصول إلى صحَّة الإسلام، بتبيُّن ما هو حقٌّ وما هو باطل. وهذا بأدلَّة عقليَّة صحيحة يمكن لكلِّ عاقل أن يتوكَّد منها، بدءاً بالعلم بوجود الله تعالى (ولا يلزم حتَّى تصحَّ الأدلَّة على وجوده تعالى أن نكون عالمين بوجوده تعالى بالفطرة!) وانتهاء بالعلم بصحَّة كلِّ ما أخبر به سيِّدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم تسليماً كثيراً.

عند ذلك ستكون ثقة النَّاس بصحَّة الإسلام ليست لمجرَّد تبعيَّة الوالدين أو البيئة، فإنَّه مع تغيُّر هذا الظرف ستهتز الثقة بالدين نفسه (وقد حصل ذلك لكثير من الشباب في السنين الماضية الأخيرة). عند ذلك سيكون الانتماء للدين راسخاً بإذن الله.

الثَّانية: بالوصول إلى الفهم الصحيح للنصوص الشريفة، فإنَّ فهم القرآن الكريم لا بد فيه من أن يكون منضبطاً بمرجع صحيح، ودور العقل هنا ظاهر في أنَّ المذَّكِّرين أولوا الألباب، في مقابل الذين في قلوبهم زيغ فلا يكون تفكُّرهم صحيحاً. فقال تعالى: { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب}[آل عمران: 7].

فدور العقل سابقٌ للنَّقل الشريف، ولاحقٌ له، سابقٌ بأنَّه يؤدِّي إلى صحَّته، ولاحقٌ بأنَّه مرجع في فهمه فهماً صحيحاً (ما دام المرء مراعياً للقوانين العقليَّة الصحيحة، ومراعياً لقوانين أصول الفقه التي يُتوصَّل إليها بالعقل ويُقتدر على فهم انطباقها على النصوص الشَّريفة بالعقل).

التتمة في الحلقة القادمة

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين