شحروريات (٢)النساء والبنون

لقد أُعجب كثير من الأصدقاء بمنشوري السابق (تطييب القلوب بهدم نظرية الجيوب) في بيان تهافت تفسير محمد شحرور للجيوب وحكمه الفقهيّ العجيب الذي جرّه إليه جهلُه باللغة.. فطلبوا مني المتابعة في نقد هذا المدّعي،

وقد وقع ذلك في نفسي موقعاً حسناً ورأيت أن أنشر ما عنّ لي من ذلك في مقالات أسمّيها (شحروريات).. فإذا كانت مقالتي تلك هي الأولى فهذه هي الثانية..

ولم يكن يخطر في بالي عندما قرأت قديماً لهذا الأفّاك أنّه يستحقّ عناء الردّ عليه لِما وجدت في كتابه من الجهل وضحالة الفكر وركاكة الأسلوب والادّعاء العريض مع الكذب والافتراء.. لكنْ هالني ما رأيته في مواقع

الشابكة كالفيس بوك واليوتيوب من انتشار هذا الفكر الضالّ المضلّ وافتتان كثير ممّن لا علم لهم بتلك الأفكار الشاذة حتّى كاد يكون هذا الشحرور نبيّاً جديداً يضع التشريعات ويسنّ الأحكام وغدا هذا الدين الشحروري هو البديل عن دين الإسلام الحق ومنهاج الله القويم..

وسنعرض في هذا المقال التفسير الشحروري للآية الكريمة من سورة النساء:

(زُیِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَ ٰ⁠تِ مِنَ ٱلنِّسَاۤءِ وَٱلۡبَنِینَ وَٱلۡقَنَـٰطِیرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلۡفِضَّةِ وَٱلۡخَیۡلِ ٱلۡمُسَوَّمَةِ وَٱلۡأَنۡعَـٰمِ وَٱلۡحَرۡثِۗ)

ٰ⁠لِكَ مَتَـٰعُ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَاۖ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلۡمَـَٔابِ) آل عمران – ١٤ –

ويعنينا هنا تفسيره لكلمتي: النساء والبنين..

قال في الصفحة ٦٤٢ من كتابه (الكتاب والقرآن قراءة معاصرة) :

[النساء: جاءت في اللسان العربي من “نسأ” والنسيء هو التأخير كقوله تعالى: {إنما النسيء زيادة في الكفر} (التوبة 37) ونسيء ونسوء جمعها نسوة ونساء “معجم متن اللغة-أحمد رضا”، وكقول النبي صلى الله عليه وسلم

إن صح “من أحب أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه” “صحيح مسلم ج3 ص 1982” وجاءت النساء أزواج الرجال في المعنى المجازي لأنها اشتقت من هذا الأصل. فالنساء جمع امرأة وجمع نسيء.]

فإذا غضضنا النظر عن قلّة أدبه في تعريضه بالسنة بقوله عن الحديث (إن صح) رغم وروده في صحيح مسلم.. فلننظر كيف بدأ بالتسلل إلى ما يريد من تحريف معنى كلمة (النساء) على حين غفلة من القارئ.. لقد نقل عن معجم

متن اللغة أن (نَسيء ونَسوء جمعها نُسْوة ونِساء) وهذا صحيح.. لكنّه بتر الكلام ولم يذكر ما (النّسيء والنَّسوء) التي جمعُها نُسوة ونِساء.. فإليك النص قبل البتر:

[نُسِئت نَسْأً ونُسُوءاً المرأةُ: تأخَّرَ حيضُها عن وقتِه فرُجيَ أنها حبلى، فهيَ نَسْءٌ (ويُثَلّث) ونُسُوءٌ (تسمية بالمصدر) وهيَ نَسيءٌ ونَسُوء، ج نُسوَةٌ ونِساء..]

فانظر كيف بتر الكلام لأنّه يوضح أن كلمة (نِساء) هنا هي جمعُ نَسيء التي هي المرأة إذا تأخر حيضها.. وهذا ما اتفقت عليه معاجم اللغة.. لكنّه يُريد أن يوهم أنها جمع نسيء بمعنى كلّ ما تأخر؟؟

إلى أن قال في الصفحة ٦٤٢:

[ومن هنا جاءت كلمة النساء على أنها المتأخرات ويمكن إطلاق هذا المصطلح على كل شيء جاء متأخراً.. وهنا يظهر معنى النساء في آية الشهوات والتي تعتبر الشهوة رقم واحد والتي يشتهيها كل الناس وهي المتأخرات من

المتاع “الأشياء” أي ما نسئ منها أو نقول عنه في المصطلح الحديث “الموضة” فالإنسان يشتهي آخر موضة في اللباس وفي السيارات وفي الأثاث والستائر وفي البيوت، فنرى أن هذه الشهوة الموجودة عند الإنسان في الأرض قاطبة والإنسان يشتهي المتأخر “الجديد” من الأشياء كلها فالأشياء

المنتجة عام 1986 جاءت متأخرة عن الأشياء المنتجة عام 1985 فكل الأشياء المتجددة “أي جاءت متأخرة عن ما قبلها” نسئت عما قبلها جملها القرآن بمصطلح واحد هو النساء.]

دعكَ من ركاكة الأسلوب وتفكّر معي: لقد كان المسلمون منذ نزل القرآن يظنّون أن النساء في الآية معناها جمع امرأة على مدى أربعة عشر قرناً.. إلى أن فتحَ الشيطانُ على مسيلمة القراءة المعاصرة فأوضح لهم أنّهم

مخطئون في فهمهم هذا وأنّ معناها (الموضة)..

فإذا سلّمنا جدلاً أن النّساء هنا هي كلُّ ما تأخرَ ظهوره.. فهل كلُّ هذه المتأخرات زُيّنت للناس فأحبوها.. فها هي ذي القراءة المعاصرة تأخرت في الظهور ولم يُحبّها إلا كلُّ جاهلٍ مدخول العقل..

وهل هذا المعنى يتوافق مع بلاغة القرآن وبيانه المعجز؟؟.. أفلم يكن الأجدر بالكلام المعجز إذا أراد هذا المعنى أن يستخدم الكلمة العربية البليغة التي تؤديه خير أداء وهي (المُستَطرفات) فالطريف من كلّ شيء

هو المستحدَثُ المُستحسن ولا يمكن لكلمة النساء بمعنى المتأخرات أن يُفهَم منها ما أرادت القراءة المعاصرة إفهامنا إياه.. ولكنْ أنّى لمن كان أستاذُهُ في العربية قد أخذَ عربيتَهُ عن خراكوفسكي في موسكو أن يفقه بلاغةَ القرآن؟؟.. وحاشا لتلكم البلاغة المعجزة أن تقول:

(زُيّن للناس حبُّ الشهوات من المتأخرات...)

أما تفسيرُه لكلمة (البنين) فهو أعجب وأفكه:

قال في صفحة ٦٤٤:

[– البنون: جاءت من الأصل “بنن” وتعني اللزوم والإقامة، وعندما يتزوج الذكر فإنه يبني على الأنثى وكان يبنى له خيمة منفصلة عند العرب، أما لفظة الابن فقد جاءت

من “بنو” وهو من التوليد وجمعها أبناء فنقول ابن فلان وابن المدينة وابن القرية. فالمعنى الحقيقي للبنين هو من اللزوم والإقامة وهذه هي صفة الأبنية والبنيان، وقد جاءت في المعنى الحقيقي في قوله تعالى: {أمدكم بأنعام وبنين} (الشعراء 133) هنا ربط البناء بتذليل الأنعام

فلولا تذليل الأنعام لما استقر الإنسان وبنى له مسكنا. وقوله: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا} (الكهف 46) فالبنون هنا هي الأبنية من اللزوم والإقامة وليس الذكور منا لأولاد والمال كل ما يمول به الإنسان من نقد ومواد تحويلية فقوله: {والبنون} يعني الأبنية التي هي

المواد غير المنقولة.]

فههنا جهلٌ وخَبْطٌ وخَلْطٌ يستحي أن يقوله طالب إعدادية شدا شيئاً من العربية..

فقوله (البنون: جاءت من الأصل “بنن”) خطأ واضح، وجهلٌ فاضح، لقد ظنّ المسكين أو أدخل أستاذُه في وهمه أن حرفي النون في (بنون) أصليان، لكنّ طالب الإعدادية يعلم أن الواو علامة الرفع لأن الكلمة ملحقة بجمع

المذكر السالم والنون عوض عن التنوين.. لذلك تأتي بلفظ (بنين) في حالة النصب كما أورد هو في كلامه الآية (أمدكم بأنعام وبنين).. كما تحذف النون عند الإضافة فتقول (هؤلاء بنو فلان).. فكيف يسوغ بعد هذا أن يُقال (البنون: جاءت من الأصل “بنن”)؟؟ وهكذا ترى أنه أقام بنيانَه

على شَفا جُرفٍ هارٍ فانهار به في وادي الضلال.. وأراد اللعب على حِبال الشعوذة اللغوية فسقط واندقّ عنقُه..

أما بقية كلامِه فيكفي إيرادُه مؤونةَ الردّ عليه لمن كان من العقلاء..

ولك أن تسأل أين بلاغة القرآن إذا كان المعنى (زُيّن للناس حبُّ الشهوات من المتأخرات والأبنية...)؟؟ وهل اللغة عند نبيّ القراءة المعاصرة إلا كألاعيب السَّحَرة أو مخرقات المشعوذين؟؟

#شحرور

***

تعقيب على منشوري (شحروريات ٢)

لقد طلب بعض الإخوة توضيحاً أكثر عن تهافت الشحرور في تفسير كلمة (البنون) في سياق كلامه على آية آل عمران (زُیِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَا⁠تِ مِنَ ٱلنِّسَاۤءِ وَٱلۡبَنِینَ وَٱلۡقَنَـٰطِیرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ

وَٱلۡفِضَّةِ وَٱلۡخَیۡلِ ٱلۡمُسَوَّمَةِ وَٱلۡأَنۡعَـٰمِ وَٱلۡحَرۡثِۗ ذَ ٰ⁠لِكَ مَتَـٰعُ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَاۖ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلۡمَـَٔابِ) آل عمران – ١٤ –

وقد كنتُ أعلم أنني قد أوجزتُ ذلك في منشوري خوفاً من أن يطول أكثر فلا يناسب قارئي الفيس بوك، لكنني وجدتُ الطلبَ محقّاً، كي يُفهَمَ الأمر على وجهه..

قال الشحرور في كتابه (الكتاب والقرآن قراءة معاصرة) في صفحة ٦٤٤:

[– البنون: جاءت من الأصل “بنن” وتعني اللزوم والإقامة، وعندما يتزوج الذكر فإنه يبني على الأنثى وكان يبنى له خيمة منفصلة عند العرب، أما لفظة الابن فقد جاءت من “بنو” وهو من التوليد وجمعها أبناء فنقول ابن فلان وابن المدينة

وابن القرية. فالمعنى الحقيقي للبنين هو من اللزوم والإقامة وهذه هي صفة الأبنية والبنيان، وقد جاءت في المعنى الحقيقي في قوله تعالى: {أمدكم بأنعام وبنين} (الشعراء 133) هنا ربط البناء بتذليل الأنعام فلولا تذليل الأنعام لما استقر الإنسان وبنى له مسكنا. وقوله: {المال

والبنون زينة الحياة الدنيا} (الكهف 46) فالبنون هنا هي الأبنية من اللزوم والإقامة وليس الذكور منا لأولاد والمال كل ما يمول به الإنسان من نقد ومواد تحويلية فقوله: {والبنون} يعني الأبنية التي هي المواد غير المنقولة.]

لقد ابتدأ الخلط والخبط بقوله (البنون: جاءت من الأصل “بنن”) وهذا إما جهل مطبق أو كذب وإضلال متعمّد.. فإن أي طالب علم له إلمام بالعربية يعلم أنّك كي تردّ أي كلمة تعني الجمع إلى جذرها فلا بدّ أولاً من ردّها إلى المفرد..

وكلمة (بنون) جمع كلمة (ابن) كما أطبقت على ذلك معاجم اللغة العربية.. ودونك المعاجم فلتبحث فيها وهي متاحة على الشابكة.. فما هو جذر كلمة (ابن).. لقد أجاب هو بقوله (أما لفظة الابن فقد جاءت من “بنو”) وهذا صحيح.. وعلى هذا فمن أين أتى بقوله (البنون: جاءت من الأصل

“بنن”) وقد علمتَ أن الواو والنون ليستا من أصلها بل هما مزيدتان للجمع.. فالواو علامة الرفع وهي تنقلب ياء في النصب والجر.. كما أورد هو في النص السابق (فالمعنى الحقيقي للبنين...) والنون بدلٌ من التنوين لأنها تُحذف عند الإضافة كما في قولنا (بنو فلان) ولا يُمكن

أن يتوهّم من له إلمام بالعربية أن (بنون) جذرها (بنن) إلا إذا ظنّ جهلاً أن النون الثانية أصلية.. وكلّ هذا الخبط والخلط لأنه يريد يستكره الكلمة (بنون) لتدلّ بزعمه على الأبنية.. لأن (بنن) من معانيها الإقامة.. قال ابْنُ سِيدَهْ: [وبَنَّ بِالْمَكَانِ يَبِنُّ بَنّاً

وأَبَنَّ أَقام بِهِ] ولكن أنّى له ذلك؟؟ ثمّ أين ورد في كلام العرب (بنون) بمعنى الأبنية؟؟؟ ولا يمكنه أن يجيب على ذلك إلا إذا كان يريد ارتجال لغة خاصة به فيقول لنا (لكم لغتكم ولي لغتي) ليقول من بعد ذلك (لكم دينكم ولي دين)..

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين