شحروريات (١) تطييب القلوب بهدم نظرية الجيوب

محمد شحرور في كتابه (الكتاب والقرآن قراءة معاصرة) يدعي أنه يقدم تفسيراً معاصراً للقرآن استقاه من تأمله في كتاب الله ومن دراسات لغوية أطلعه عليها أستاذه جعفر دك الباب الذي أخذها عن أستاذه المستشرق الروسي خراكوفسكي.. فأتى بعجائب وغرائب وطامّات لم يسبقه إليها سابق ..

وفيما يلي عرض لمسألة واحدة مما تعرض لها هذا الكتاب هي مسألة لباس المرأة ...لتعلم أنّ هؤلاء الرويبضة إنما هم مدّعون ليس عندهم من العلم ما يؤهلهم ليتحدّثوا في تفسير كتاب الله العربي المبين لأن أوّل أداة يجب على المفسر أن يمتلكها ويتمكن منها هي اللغة العربية نحواً وصرفاً وبلاغةً وأدباً وهم ليس لديهم من كلّ ذلك إلا مثل ما عند القرود من الصبر.

وقد آثرت أن أورد نص كلامه مصوراً من كتابه لا منقولاً كي لا يظنّ ظانّ أني أقوّله ما لم يقل ..

وسأضع هذه النصوص في التعليقات على هذا المنشور.

ملخص رأي الشحرور في لباس المرأة كما يتبين من تلك النقول المصورة من كتابه: أن ما يجب على المسلمة ستره هو الجيوب فقط وهي برأيه خمسة مواضع : ما بين الثديين وما تحتهما والإبطان والفرج والإليتان وذلك بناء على تفسيره للجيب !!!!!؟؟؟؟ في قوله تعالى: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) إذ قال (والجيب كما نعلم هو فتحة لها طبقتان لا طبقة واحدة) - الكتاب والقرآن ص ٦٠٦ - وتأمل في قوله – كما نعلم – لأنه سيتبين لك مبلغ علمه وأن فهمه لكلمة الجيب فهمٌ عاميّ لا يعرفه العرب الذين نزل القرآن بلغتهم.

وهذه المواضع الخمسة المذكورة هي الحد الأدنى الذي يجب ستره أما الحد الأعلى فهو ما عدا الوجه والكفين وبين هذين الحدين تلبس المرأة ما شاءت حسب المجتمع التي هي فيه.. ونتج من هذا قوله في ص ٥٥٠ (إذا خرجت المرأة عارية في الطريق كما خلقها الله فقد تعدّت حدود الله في اللباس، وإذا خرجت مغطاة تماماً يدخل في غطائها الوجه والكفان فقد تعدت حدود رسوله) فالتي تغطي وجهها هي كالتي تخرج عارية تماماً، كلاهما تجاوزت حدود الله ورسوله.. بل لنا أن نستنتج من ذلك أن التي تخرج بلباسها الداخلي أفضل من التي غطت وجهها لأن الأولى التزمت بحدود الله والثانية تجاوزتها !!!!

لنرَ أولاً تفسير الآية الذي أجمع عليه المفسرون، فقد أجمعوا على أن معنى :(وليضربن بخمرهن على جيوبهن)

أي وليُسدلْن خُمُرهنّ (أي ما يغطين به رؤوسهن لأن الخمار في اللغة هو غطاء الرأس) على نحورهن وصدورهن.. وهذا التفسير أطبق عليه المفسرون جميعاً ودونك كتب التفسير كلها فلن تجد فيها غير ذلك ولولا خشية الإطالة لنقلت لك كل ما تحت يدي منها ولكن أكتفي ببعضها :

قال الزمخشري في الكشاف: كانت جيوبهن واسعة تبدو منها نحورهن وصدورهن وما حواليها، وكنّ يسدلن الخمر من ورائهنّ فتبقى مكشوفة، فأمرن بأن يسدلنها من قدامهنّ حتى يغطينها

وقال الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير: لِيَشْدُدْنَ وضْعَ الخُمُرِ عَلى الجُيُوبِ، أيْ بِحَيْثُ لا يَظْهَرُ شَيْءٌ مِن بَشْرَةِ الجَيْبِ. والجُيُوبُ: جَمْعُ جَيْبٍ بِفَتْحِ الجِيمِ وهو طَوْقُ القَمِيصِ مِمّا يَلِي الرَّقَبَةَ. والمَعْنى: ولِيَضَعْنَ خُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِ الأقْمِصَةِ بِحَيْثُ لا يَبْقى بَيْنَ مُنْتَهى الخِمارِ ومَبْدَأِ الجَيْبِ ما يَظْهَرُ مِنهُ الجِيدُ.

وقال الآلوسي في روح المعاني: والجُيُوبُ جَمْعُ جَيْبٍ وهو فَتْحٌ في أعْلى القَمِيصِ يَبْدُو مِنهُ بَعْضُ الجَسَدِ.. إلى أن قال: والمُرادُ مِنَ الآيَةِ كَما رَوى ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ أمَرَهُنَّ بِسَتْرِ نُحُورهنَّ وصُدُورِهِنَّ بِخُمُرِهِنَّ لِئَلّا يُرى مِنها شَيْءٌ وكانَ النِّساءُ يُغَطِّينَ رُؤُوسَهُنَّ بِالخَمْرِ ويُسْدِلْنَها كَعادَةِ الجاهِلِيَّةِ مِن وراءِ الظَّهْرِ فَيَبْدُو نُحُورُهُنَّ وبَعْضُ صُدُورِهِنَّ.

وعلى ذلك القرطبي في الجامع لأحكام القرآن وابن كثير في تفسير القرآن العظيم وشيخ المفسرين ابن جرير الطبري في جامع البيان.

ولم يعرف العرب الجيب إلا أنه فتحة القميص التي يخرج منها العنق ولا تجد غير هذا المعنى أبداً في معاجم اللغة وإليك بعض ما ورد في تلك المعاجم:

ففي القاموس المحيط: وجَيْبُ القَميصِ ونحوه، بالفتح: طَوْقُه، ج: جُيُوبٌ

وفي لسان العرب: (الجَيْبُ: جَيْبُ القَمِيصِ والدِّرْعِ، وَالْجَمْعُ جُيُوبٌ.)

وفي مقاييس اللغة لابن فارس (الْجِيمُ وَالْيَاءُ وَالْبَاءُ أَصْلٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الْإِبْدَالِ. فَالْجَيْبُ جَيْبُ الْقَمِيصِ. يُقَالُ جِبْتُ الْقَمِيصَ قَوَّرْتُ جَيْبَهُ، وَجَيَّبْتُهُ جَعَلْتُ لَهُ جَيْبًا)

وفي المعجم الوسيط (جيب القميص ونحوه: ما يدخل منه الرأس عند لبسه ج جيوب وأجياب)

وكان من عادات الجاهلية أن المرأة إذا أتاها نعيُ عزيز عليها تبادر إلى جيبها فتشقه وهذا ما جاء الإسلام بإبطاله ففي الحديث الصحيح: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية)

وها أنت ذا قد علمتَ معنى الجيب في لغة العرب من المصادر المعتمدة من التفاسير والقواميس والحديث الصحيح..

أمّا من أين أتى الشحرور بمعنى الجيب الذي ساقه.. فإليك البيان :

يقول الشيخ أحمد رضا في متن اللغة ١\٥٩٥: (الجيب عند العامة ما يُشق في جانب الثوب له كيس صغير متصل بالشق توضع فيه الأشياء الخفيفة الحمل وهو الجيبة أيضاً وكل هذا من الشق والقطع وهو مولّد في هذا المعنى، قاله ابن تيمية - وابن تيمية كما هو معلوم توفي في القرن الثامن الهجري -). وقولُه: مُوَلّد: أي هو معنى حديث أدخلته العامّة في اللغة ولم يعرفه العرب.

ويقول بطرس البستاني في محيط المحيط ١٤٠ (الجيب عند العامة كيس يخاط في جانب الثوب من الداخل ويجعل فمه للخارج ويقال له الجيبة أيضاً).. وانظر إلى قوله: (عند العامّة)

فالجيب الذي بلغ إليه علم القراءة المعاصرة هو المعنى العاميُّ المُوَلَّد هذا.

يتلخص مما مضى أن معنى الجيب في الاستعمال الفصيح عند العرب هو طوق القميص ونحوه الذي يخرج منه الرأس والعنق . ثمّ ولّد منه العامة معنى هو الذي ذكره ابن تيمية آنفاً (ما يُشق في جانب الثوب له كيس صغير متصل بالشق توضع فيه الأشياء الخفيفة الحمل وهو الجيبة أيضاً) وهذا الذي عناه الشحرور بقوله: (والجيب كما نعلم هو فتحة لها طبقتان لا طبقة واحدة).. فيتحصل لنا معنيان للجيب: معنىً شحروري عامي ومعنى عربيّ فصيح. فأي المعنيين يصح أن يكون المراد من الآية في القرآن العظيم؟؟؟!!! العربي الفصيح أم العاميّ المولّد؟؟؟؟.

وقد أحسن إذ قال (كما نعلم) فعلمه هذا يبدو أنه لم يجاوز المعنى العامي.. فهل ترى كيف جرّه جهلُه باللغة إلى هذه الهوة السحيقة !!!!وهل من هذا علمه يتصدى لتفسير كتاب الله.. وليس هذا فقط بل هو يقول للمسلمين جميعاً إنكم على مدى خمسة عشر قرناً بلغوييكم وعلمائكم ومفسريكم لم تفهموا قرآنكم وأنا أتيتُ لأفهمكم إياه؟؟؟!!!

لقد هَزُلتْ حتّى بدا من هُزالها=كُلاها وحتى سامَها كلُّ مُفْلِسِ ..

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين