أسس التربية الاجتماعية في الإسلام (1)

 

امتاز الإسلام بأنَّه يغوص في الحقائق مُستخرجاً منها ما يسنُّه من مبادئ حتى تتركَّز تلك المبادئ على أصول ثابتة، وبذلك تكون مجدية في كل ما تَرمي إليه.

فمبادئه من أجل الناحية الخاصَّة الممتازة بها أخذت في اتجاه له أثره في كل شيء مما ترفَّع به عن غيره، ومن جرائها عمَّ الإسلام الكثير من أقطار المعمورة لما لها من تأثير عميق.

وأول ما تهتمُّ به المبادئ الإسلاميَّة: الإنسان، فهو محور الوجود، وجميع ما في الكائنات مُهيَّأ لأن يستفيد منه الإنسان إذا عرف كيف يستفيد منه.

وإظهاراً لمركز الإنسان عند مبدأ الخليقة أظهره الله تعالى في مظهر السمو والمكانة كما قال جلَّ اسمُه:

﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 30].

أظهرت الآية الكريمة تعظيم الله تعالى للذي يستخلفه إذ بشَّر به الملائكة سُكَّان ملكوته، ولقَّبه بالخليفة قبل خلقه، ونوَّه بشأنه وأبدى فضله.

وفي إبداء فضله ساق معه ما فيه من المفاسد التي جرت على لسان سكان الملكوت إذ قالوا: ﴿قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ﴾.

ولكنه أبدى لهم أنَّ مفاسد بعض بني الإنسان يغلب عليها ما فيه من فضائل فالخير الكثير لا يترك لأجل الشر، وأراهم هذا في قوله: ﴿قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ﴾.

يفيد تذكير بني الإنسان بأنهم مُنحدرون، فمن أنعم الله عليه أنَّ ذريته كلها بدون استثناء يعمهم الإنعامُ الأبوي، فهم من ذرِّيَّة من جعله الله خليفة في أرضه وبشَّر به ملائكته وعرَّفهم مزيته.

وبعد البشارة حين تمَّ الخلق أعلى منزلته بأمره ملائكته بالسجود له: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 34].

جاء أمره تعالى بالسجود لأول إنسان إبداء لتشريفه وتحيته تحية التعظيم والإكبار، وأضاف إلى تعظيم الإنسان حين مبدأ الخلق أمراً آخر له وزنه في الحياة الإنسانية وهو المشاورة.

واجتمع الأمران حين مبدأ الخلق إشارة إلى أنَّ الإنسانية الصحيحة مبنيَّة على أمرين ضروريين في إقامة الحياة الإنسانيَّة وعليها تتركَّز التربية الاجتماعية، أحدها أنَّ احترام الإنسان انساق إليه من نفسه وذلك لكونه إنساناً لأنَّه في مبدأ أمره أسندت إليه وظيفته وهي الخلافة في الأرض فكل فردٍ من أفراد الإنسان له إكرامه، وتفضيله من الله فحظُّه في الحياة يُبنى على الإكرام والتفضيل.

وجاء تأكيداً لذلك قوله تعالى:﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء: 70].

فيجب أن تُكرَّم الإنسانية في الإنسان فلا يُهان ولا يُرغم فتترك له حريته وطموحه في الحدود التي لا تضرُّ بالغير.

وإكرام الإنسانية للإنسان ليس مقصوراً على الغير للغير، وإنما الإنسان يكرم نفسه فلا يذلها ولا يتدلى بها في سفاسف الأمور وما لا يجدي، ولا ما ينحط به وهو ما شرحه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما جاء عن سهل بن سعد أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنَّ الله تعالى يحبُّ معالي الأخلاق، ويكره سفسافها»[أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين].

وفيما جاء عن الحسنِ بنِ عليٍّ رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنَّ الله تعالى يحب معاليَ الأمور وأشرافَها، ويكره سفسافَها»[أخرجه الطبراني في الكبير].

شرح الحديثان ما أفادته الآية الكريمة من تكريم الإنسان، وأرشدا إلى تربية النفوس على معالي الأمور التي ترتفع بالنفسِ الإنسانية اجتماعياً، وتدعوها إلى إصلاحها حتى يبني الباني حياته على معالي الأمور وأشرافها.

كما أرشد الحديثان إلى التحذير من سفساف الأمور ومحقراتها ورديئها من الرذائل والدنايا، وإهانة النفس وعدم إعزازها لا بالتيه، وإنما بالترفع بها دون الدفع بها في المحقرات وإبعادها عن كل ما يلثم الشرف الحقيقي، دون الشرف الوهمي الذي وقع فيه الكثير ممن يعتمد على الحسب وما شابهه.

ومن الدعوة إلى حفظ كرامة الإنسان نفسه ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنَّ الله تعالى يحب أن يرى أثرَ نعمته على عبده»[رواه الترمذي في جامعه، والحاكم في مستدركه على الصحيحين].

ولإظهار أثر النعمة على العبد أن يسعى الإنسان في تحسينِ مَظْهره ليكون المجتمع مجتمعاً راقياً في مظاهر أصحابه حتى ترى أثر الجِدَة والنعمة في الزِّيِّ.

وإنما ربَّى الإسلام أهل المجتمع على الظهور بالمظهر الذي تبدو في الجدة في الزي من أجل أن ترتفع النفوس فإنَّ المظهر له تأثير على النفس لترتفع عن الدنايا، وهو ما نراه من كون الإنسان الكريم المنظر أنه يسعى فيما يعينه على المحافظة على الكرامة.

وللمحافظة على الاكتمال المظهري أرانا الإسلام ما هي مكانة الذي لا يتعهَّد بدنَه ولا ثيابَه من الوسخ.

فإنها مكانة البغض من الله والمبغوض مُقْصَى، فعن عائشة رضي الله عنها أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنَّ الله يبغض الوسخ والشعث» [رواه البيهقي في شعب الإيمان].

وأبغض تعالى الوسخ والشعث لكونه تعالى يحبُّ النظافة المعنويَّة، وكذلك الحسيَّة ويحبُّ من الخلق التخلق بها ويكره ضدها.

والوساخة تتكوَّن من عدم تعهُّد الثوب والبدن، أو من قِلَّة ذلك.

ولا يعارض هذا ما جاء عنه صلى الله عليه وآله وسلم مما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: «إن الله تعالى يحبُّ المؤمن المبتذل الذي لا يبلي ما لبس»[رواه البيهقي في شعب الإيمان]؛ لأنَّ المراد بهذا الحديث ترك التزين والمباهاة باللباس من أجل التواضع، وشتَّان ما بين الوساخة والتواضع في الثياب.

ومن كرامة الإنسان لنفسه أن يَصونها بالعمل، فإنَّ الاستجداء يتدلى بصاحبه ويذهب بهمَّتِه وينحطُّ به إلى الحضيض النفسي.

وتحبيباً للعمل الصائن للنفس أحبَّ الله سبحانه أهل العمل ليرغب فيه، ويدعو إليه كما أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي رواه عنه ابن عمر رضي الله عنهما: «إنَّ الله يحب العبد المؤمن المحترف»[رواه الحكيم الترمذي والطبراني في الكبير والبيهقي في الشعب، ولهذا الحديث شواهد].

قرَّر هذا الحديث قاعدة في الإسلام هي أنَّ كرامة الإنسان تدعوه لأن يعمل لا أن يترك العمل، وهو ما ابتلي به بعض المسلمين في العصور التي لم يبقَ فيها من الإسلام إلا قليل القليل حين أعرض الناس عن تفهُّم الإسلام التفهم الصحيح وهم مُنقسمون بين جاهل بالإسلام جهلاً كلياً وبين واقف على ما لا يكفي منه، وإنما تعلَّق بالبعض اليسير.

والقسم الأول هو ما كانت عليه أكثرية المسلمين وعامَّتُهم حتى صار من المعروف أنَّ لفظ (العامي) إذا أطلق أريد الأمي الجاهل بكل شيء البعيد عن المعرفة الشبيه بالحيوان، وإنما يفترق عنه بشيء جزئي لا يكاد يذكر.

وعلى هذه الصفة كانت تعيش الكثرة، بل الكل فيهم كحيوانات سائمة، ولهذا تفشَّى فيهم الكثير من الموبقات وانتشرت بينهم عوائد هي من أقبح العوائد والكثير منها مما لا يقبله العقل ولا يَرتضيه ولو كان من أبسط العقول فترى الواحد يَعُد من الكرامة أنَّه لا يرى أحفادَه في يد أبيهم أو أمهم لأنَّ ذلك يتصل بالناحية الجنسية مع أنه لا يرى غضاضة في أكل أموال الناس وسرقتها حتى عمَّت السرقة أكثرية الذين يعيشون على البداوة مما ذهب معه الأمن حتى في أطهر البقاع وأقدسها على عهد قريب.

ومما سرى في أكثريتهم البطالة والكسل والقعود عن العمل كأنَّ ذلك مفتاح الدنيا والآخرة وإذا احتاج إلى شيء فباب السرقة مفتوح يلجه متى شاء حتى تغنى به بعضهم ورآه من تمام الكرامة والرجولية، والقرية التي تأكل أموال الناس بالباطل هي التي تعد من مقدمات القرى لأن أهلها لهم القوة والرجولة في الاستحواذ على ما للغير، ولا يظنون أنَّ ذلك مما تشدَّد فيه الشرع الكريم حتى أوجب قطع اليد للذي يتسلَّط على أموال الناس.

فالجاهلية العمياء تسرَّبت من جديد إلى نفوس هؤلاء فأصبحوا بها آخذين بانين عليها حياتهم.

وأدَّى إلى انقلاب حقائق الإسلام في عقول هؤلاء الأقوام الذين ابتعدوا عن المعرفة هو أنَّ النفوذ الماسك بزمام الأمور لم يعطِ أيةَ عناية إلى نشر المعرفة وإنما هَمُّه هو إرضاء الحاكم الذي بيده الأمر، فالأموال المجموعة من الزكاة وغيرها والأموال التي تُؤخذ بالباطل مؤدَّاها إلى جيوب وبطون الماسكين بزمام الأمور، كل يأخذ منها ما قدر عليه مع إغفال نشر أسباب المعرفة والتقدم.

والقسم الثاني: كانوا يأنفون من الأعمال، وخاصَّة اليدوية والحرف، وهم العديد من سكان المدن، فكانوا يتعلَّقون بما هو من أسباب الكسل من الاعتماد على غلات المكتريات، ولا يُكلِّفون أنفسهم الأعمال ظناً منهم أنَّ ذلك هو الشرف.

ولهذا غصَّت المقاهي، وما شابهها بالجلاس حتى أصبحت دكاكين التجارة نوادي يقضي فيها الكثير أوقاتهم، فلم يكفهم السمر بالليل حتى أضافوا له السمر بالنهار.

وفي العصر الأخير أقبلت النخبة على الوظائف مما أثقل موازين الدول، حتى أصبحت تئنُّ مما تتحمله من أثقال لكثرة الموظفين، وفيهم من لا يصنع شيئاً، ولا يفيد وإنما همه أنَّه يتناول الجِرَاية، فهي مَصبُّ العناية.

وفي بعض الدول استغلَّ أعمالَها، ودواليبَها الوافدون عليها اتكالاً على اليد الوافدة؛ لأن غيرها لا تريد العمل، وتعد خيراً منه الكسل.

ومن أجل تجنُّب النخبة للعمل أنَّ الصنائع وقفت عند حدِّ التقليد فلا تجد من يجهد فكرَه، ولا نفسه للخروج مما عند الغير، فأصبحنا في تقدُّمنا قانعين بما يسمح به الغرب من صنائع محدودة هي في الحقيقة مظاهر.

بينما في استطاعتنا أن نُقدِّم للبشرية مثل ما قدَّمه غيرنا لكوننا لا نقلُّ عنهم مدارك ولا استعداداً إذ نبوغنا لو تعاهدناه لا يقلُّ عن نبوغ غيرنا.

وإنما نحن في حاجةٍ إلى أن نرفع عن أنفسنا أوهاماً كوَّنتها العصور المظلمة.

وتتجلَّى الأنفة من الأعمال فيما نحياه ونعيشه، فبين أيدينا نماذج مُتعددة مُتنوِّعة تملأ جوَّنا العائشين فيه.

وهي أنفة قديمة مُتوارثة ونجد من جذورها فيما حكاه الوَصَابي -بفتح الواو والصاد مع التخفيف نسبة إلى وَصَاب وهو جبل باليمن يحاذي زبيد- «فإني لما رأيتُ أهل بلدتنا هذه في الكدِّ مُجتهدين، وعلى الاشتغال بالحرف مُعْتمدين، مُواظبين على ذلك مُعتضدين، وصاروا إذا رأوا أهل الرفاهية في البلدان وراحة الرجال فيها والنسوان، استنقصوا أحوالهم، وازدروا أفعالهم ظناً منهم بأنَّ الدعة والسكون، أمر فاضل مسنون كأنهم لم يبلغهم قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنَّ الله لا يحب الفارغ الصحيح، لا في عمل الدنيا ولا في عمل الآخرة»، ويقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أشدُّ الناس حساباً يوم القيامة المكفي الفارغ» [الذي في مسند الفردوس عن أنس رضي الله عنه أشد عذاباً يوم القيامة المكفر الفارغ].

صوَّر الوصابي صورة من صُور مجتمعاتنا في القرن الثامن الهجري توضِّح أنَّ الكثرة في فراغ من الأعمال مما حُبِّب إلى القِلَّة العاملة أن تترك الأعمال، لما تراه من فراغ الكثرة.

المشاورة:

الأمر الثاني مما تدل عليه الآية الكريمة المشاورة فالله تعالى الغني عن المعين والمشير شاور الملائكة حين تعلَّقت قدرتُه بخلق آدم عليه السلام لبيان أنَّ المشاورة ضروريَّة في الحياة الإنسانيَّة.

فالديمقراطية للإنسان ضروريَّة له في شؤونه كلها دون تفرقة بين شأن وشأن.

والمشاورة ليست وقفاً على الحياة السياسيَّة، فكما هي في الحياة السياسية هي أيضاً في غيرها فالآية الكريمة التي ركَّزت المشاورة قبل خلق الإنسان تدعوه إلى أن يشاور في شؤونه كلها لأنَّ مبدأ خلقه قائم على المشاورة.

فأخذ الرأي في كل ما يهم ضرورة لأن تتلاءمَ فيه الآراء حتى تأخذ أحوال المجتمع رأياً صالحاً لأنَّ احتكاك الأفكار وتلاقح الآراء يقيم المصالح على الوجه الذي يتطلَّبه المجتمع الصالح.

فالتلاقح الفكري والشعوري بين أفرادِ الإنسان على قضاء حقوق المجتمع لا يستأثر به أحد دون أحد إذ هو موزَّع على أبناء الأمَّة بأسرها ويتوزَّع الأفراد ما هو من المهام الاجتماعيَّة كل بحسب ما يستطيع في دائرة إمكانه.

الشورى الاجتماعية:

والشورى التي ربَّى عليها الإسلام المسلمين ذات فرعين أساسيين:

أولهما: الشورى الاجتماعية يجعل المسلمين هيكلاً اجتماعياً مُتراصاً يحس بإحساس واحدٍ ويتشارك في السرَّاء والضراء، فلابدَّ من تبادل الآراء، والتعاون في كل ما يقوم عليه المجتمع فصوَّر الإسلام المسلمين كتلة مُتناسقة مُتبادلة في شعورها، مُتبادلة في إحساسها.

وأبرز الهيكل الإسلامي الاجتماعي قوله صلى الله عليه وآله وسلم كما رواه النعمان بن بشير رضي الله عنه: «مَثَلُ المؤمنينَ في توادِّهِم وتراحُمِهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعَى له سائرُ الجسدِ بالسهر والحُمَّى» [رواه مسلم في صحيحه ج4 ص1999].

أبرز الحديث المتقدم المؤمنين في صورة الجسد الواحد الإنساني الذي إحساسه مُشترك فلا يَتَغاضى بعض عن بعض ولو أراد أن يتناساه لأنه إن سرى فيه ألم عمَّ الجسدَ كلَّه، وكذلك اهتزازُه بالفرح يعمُّ الجميع.

وهو معنى ضروريٌّ في الحياة لا يمكن بدونه أن تعيش مجموعة إنسانية، فقوله صلى الله عليه وآله وسلم المبرز للوحدة الهيكليَّة الإنسانية مُبرز لكيفية الحياة الصالحة المتلائمة في أفرادها.

وليس الحديث إخباراً مجرداً، وتصويراً فحسب.. وإنما هو أمر فكما أنَّ الرجل إذا تألَّم بعضُ جسدِه سرى ذلك الألم إلى جميع الجسد؛ فالمؤمنون مأمورون أن يجعلوا تعايشهم تعايشَ الرجل الواحد ليكونوا كرجل واحد لا يفرِّق بينهم فارق.

والأمر بأن يكونوا كرجل واحد من أجل أن يكون التعاون بينهم مشمولاً لهم داخلاً في ضرورياتهم فكما يحافظون على خاصَّتِهم، يحافظون كذلك على عامَّتِهم.

فمهما حلَّ بهم أمرٌ تعاونوا على إزالته وتساندوا في رفعه عنهم وإن جاءت مَسرَّة لم يستأثر بها أحد دون آخر.

ولا يتحقق التكامل البشري والتعايش التكافلي إلا إذا تحققت الشورى الاجتماعيَّة كي يعمَّ الشعور الموحد كل الأفراد وكي يسري الإحساس فيهم جميعاً دون أن يكون مقصوراً على أفراد دون آخرين.

ونجد الشورى الاجتماعيَّة فيما ربَّانا عليه الإسلام من القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحرَّضتنا عليه الشريعة الحكيمة.

وقد نبَّهنا الكتاب الكريم إلى التربية الإسلاميَّة الصحيحة المؤسسة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في صور مختلفة تعطي المعنى المراد بأوجه كثيرة، كما جاء في آيات مُتعددة من سور عديدة.

وتتجلى قيمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنَّها برزت في خصوصيات الرسالة الإسلاميَّة المحمديَّة التي جاءت في وصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما جاء وصفه في التوراة والإنجيل.

فنعوته صلى الله عليه وآله وسلم منها أنه أثبتت رسالته في التوراة والإنجيل ومنها أنَّه نبي أمي يأمُر بالمعروف وينهى عن المنكر، قال تعالى:﴿۞وَٱكۡتُبۡ لَنَا فِي هَٰذِهِ ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٗ وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِنَّا هُدۡنَآ إِلَيۡكَۚ قَالَ عَذَابِيٓ أُصِيبُ بِهِۦ مَنۡ أَشَآءُۖ وَرَحۡمَتِي وَسِعَتۡ كُلَّ شَيۡءٖۚ فَسَأَكۡتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلَّذِينَ هُم بِ‍َٔايَٰتِنَا يُؤۡمِنُونَ١٥٦ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلۡأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ يَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ مَعَهُۥٓ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُون﴾[آل عمران:156-157].

أوصاف النبي صلى الله عليه وآله وسلم حسبما تلاها الله تعالى علينا تسعة وهي الأوصاف التي وصفه بها تعالى ومنها أنه: {يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ}.

وجاء قوله تعالى: {يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ} بعد قوله: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ} للدلالة على أنَّه من وصف النبي المذكور في التوراة والإنجيل، وهو تفسير لما كتب من ذكره فيهما ويحتمل غير ذلك.

للمقالة تتمة في الجزء التالي.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين