خصائص التربية النبويَّة (4) والأخيرة

اختبار العزائم في غزوة أحد:

بجانب غزوة بدر غزوة أخرى هي مثيلتها في الاختبار وهي غزوة أحد ولكنه اختبار من نوع آخر أشدُّ وأقوى، وهو اختبار العزائم الصادقة من العزائم الخوَّارة فإنَّ حال السعة تستوي فيه العزائم ولا يفوق بعضها بعضاً، وإنما تظهر القيمُ وتختلف الرجال حين يحزب الأمر وتستحكم الشدة.

إنَّ هذه الغزوة أظهرت الثابتين من غيرهم، فإنها جاءت بعد تمنٍّ من بعض المسلمين لقاء العدو، فإنَّه لما علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخبر مسير قريش إلى المدينة في ثلاثة آلاف رجل فيهم سبعمائة دارع وثلاثة آلاف بعير ومائتا فرس أحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المكث في المدينة وقال لأصحابه: امكثوا فإن دخلَ القومُ الأزقَّة قاتلناهم، ورموا من فوق البيوت، وقال الذين تمنَّوا لقاء العدو وأسفوا على ما فاتهم من مشهد بدر: يا رسول الله كنا نتمنى هذا اليوم اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنا جبُنَّا عنهم.

فاستجاب لرغبتهم فصلى بالناس الجمعة ثم وعظهم وأمر بالجد والاجتهاد. وأخبرهم أن النصر ما صبروا، وأمرهم بالتهيؤ لعدوهم ففرح الناس بذلك. فلمَّا خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالوا: يا رسول الله استكرهناك ولم يكن لنا ذلك، فإنَّ شئت فاقعد صلى الله عليك.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمَتَه أن يضعها حتى يقاتل، وهذا تنبيه منه على عدم انثناء العزيمة؛ لأن عزيمة الأنبياء عزيمة صادقة، فلهذا لم يطاوعهم في البقاء بالمدينة ونَزْعِ لأمَتِه إشعار لهم بأن يكونوا على سيرته فلا يقعدوا عن الجهاد، وأن يواصلوا الذي خرجوا من أجله.

وأظهرت هذا الغزوة في أولى خطواتها الانخزال من الذين في قلوبهم مرض، وهم المنافقون وقد تعلَّل رأسهم بعِلَّة لا تقبل وهي مخالفة رأيه حيث أشار بالبقاء في المدينة فقد انخزل أي انقطع عن جيش المسلمين - عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الناس فبقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سبعمائة إذ كان عددهم ألفا، وقال: أطاعهم وعصاني، ما ندري علام نقتل أنفسنا ها هنا أيها الناس؟

فرجع من اتبعه من قومه للنفاق والريب.

واتبعه عبد الله بن عمرو بن حرام يريد أن يرجعهم إلى الجادة ويذكّرهم بالله حتى لا ينخذل المسلمون قائلا لهم:

أذكركم الله ألا تخذلوا قومكم ونبيكم عندما حضر من عدوهم فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم، ولكن لا نرى أنه يكون قتال.

فلما استعصوا عليه وأبَوا إلا الانصراف قال: أبعدكم الله أعداء الله فسيغني الله عنكم نبيَّه. [سيرة ابن هشام ج 3 ص 68].

اتضح في هذا الموقف أن عبد الله بن أُبي بن سلول ممن يخذل الإسلام فلا اعتماد عليه وإن كان رسول الله غضَّ الطرف عنه وعن أمثاله من المنافقين. لئلا يحدث بلبلة في العقول فيدعي المدعون أنَّه يقتل أصحابه لأنَّ الأخبار تنتقل على غير وجهها فيذكرون قتلهم، ويغفلون الأسباب فتبقى مجهولة.

ثم جاء دور اختبار العزائم الاختبار الشديد، حتى ينجلي ما هو الموقف لكل أحد حين يشتد الأمر على المسلمين وتنالهم الهزيمة بعد نصر وقعة بدر، وهم قد تعوَّدوا النصر ولم يتعوَّدوا تلقي الهزيمة فلا بدَّ من اختبار عندها. وغزوة أحد كانت أولاً للمسلمين فإنَّ الله تعالى أنزل نصره عليهم وصدق وعده فحسوهم بالسيوف فكانت هزيمة المشركين لا شك فيها حتى أن نساءهم اللاتي جاءوا بهنَّ تقوية لنفوسهم وَلَّيْنَ هواربَ ما دون أخذهنَّ قليل ولا كثير.

ثم انقلب الأمر وأُتِيَ المسلمون من قبل مخالفة بعض الرماة الذين جعلهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم حماية لظهور المسلمين فإنه لما مالت الرماة إلى المعسكر حين نزلوا من مواقفهم وخالف هؤلاء البعض ما أمرهم رسول الله، ولم يلتفتوا لما قاله لهم أميرهم عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ولما نزل هؤلاء ولم يبقَ إلا قلة أتى المسلمون من خلف فقد نظر خالد بن الوليد - وهو آنذاك لم يزل مشركاً-إلى الجبل وقلة أهله فكرَّ بالخيل فتبعه عكرمة بن أبي جهل وقد أسلم عكرمة عام الفتح فحملوا على من بقي من المسلمين فقتلوهم وأميرهم عبد الله بن جبير وقد انكشف المسلمون فأصاب فيهم العدو. قال ابن إسحاق: وكان يوم بلاء وتمحيص أكرم الله فيه من أكرم من المسلمين بالشهادة حتى خلص العدو إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدث - أي أصيب بالحجارة حتى وقع لشقه فأصيبت رباعيته وشُجَّ في وجهه الشريف، وكُلِمت شفتُه.

وقد بلبل صراخ ابن قميئة الذي قتل مصعب بن عمير وهو يقاتل دون رسول الله صلى الله عله وسلم فظنَّه الرسول فصرخ بأنَّ محمداً قتل فصاح ما ظنه. وقال قائل: أن عباد الله أخراكم - أي احترزوا من جهة أخراكم فزادت البلبلة فعطف المسلمون لقتل بعضهم بعضاً: وهم لا يشعرون وانهزمت طائفة إلى المدينة وتفرق سائرهم ووقع فيهم القتل. [اختصار المواهب للنبهاني ص74].

فهؤلاء هم الذين أظهر الاختبار أن عزائمهم ليست عزائم ثابتة تتمكن من زمام نفسها فتضع حداً للخوف والفرار، وإنما هي نفوس تفرق حين الشدة وتضعف حين لا ترى النصر فهؤلاء لا بدَّ لهم من تربية خاصَّة، وتفريغ إلهي حتى لا يبقوا على ما هم عليه بل لا بدَّ من التغلب على الخوف ولا بدَّ لهم من قوة تدفعهم إلى عدم اللجوء إلى الفرار، ولو بدا لهم الأفق متجها.

ويقابل هؤلاء أهل الثبات وفي طليعتهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القدوة الحسنة فإنه يشجع حين يجبن الناس، ويقوي العزائم حين تضعف في كل موقف، فإنه ثبت مع ثلة من أصحابه منهم أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلي ابن أبي طالب رضي الله عنهم.

ومن هؤلاء الثابتين زياد بن السكن ونفر من الأنصار فإنهم حين قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين غشيه القوم: من رجل يشري لنا نفسه؟ فقام زياد بن السكن في نفر خمسة من الأنصار، فقاتلوا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، رجلا ثم رجلا، يقتلون دونه، حتى كان آخرهم زياد أو عمارة، فقاتل حتى أثبتته الجراحة، ثم فاءت فئة من المسلمين فأجهضوهم عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أدنوه منى، فأدنوه منه، فوسَّده قدمه، فمات وخدُّه على قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

المساهمة النسائية:

وحتى النساء ساهمن في الثبات فهذه أم عمارة نسيبة بنت كعب خرجت تنظر ما يصنع الناس ومعها سقاء فيه ماء فانتهت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والدولة والريح للمسلمين.

فلما انهزم المسلمون انحازت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقامت وباشرت القتال وذبّت عنه بالسيف ورمت عن القوس حتى خلصت إليها الجراح أصابها ابن قميئة فترك بها جرحاً على عاتقها أجوف له غور. [السيرة ج 3 ص 86].

ومن المواقف المشرِّفة التي وقفتها النساء ما جاء في سيرة ابن هشام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرَّ بامرأة من بني دينار وقد أصيب زوجها وأبوها وأخوها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأحد فلما نَعَوا لها قالت: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالوا خيراً يا أم فلان هو بحمد الله كما تحبين. قالت أرونيه حتى أنظر إليه. حتى إذا رأته قالت كل مصيبة بعده جَلَل - تريد صغيرة -.

يتجلى من هذا أنَّ الإسلام يزن للمواقف الرجال فلا يقدم على موقف حتى يكون رجاله في قدرة وتفانٍ للقيام بما يضطلعون به علاوة على الاستعداد المادي.

وأعدوا لهم ما استطعت، فهو في سائر خطواته يعتني بالمادة والروح لا يهمل منهما شيئاً، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم لخالد بن الوليد: حاربهم بمثل ما يحاربونك به، ويدخل في هذا كله وسائل الاستعداد.

التربية النبويَّة وعلم النفس:

سبقت التربية النبويَّة ما استجدَّ من علم النفس الذي انبنى عليه علم التربية فهو من التربية بمنزلة الروح من الجسد فإذا ما خلت عنه أصبحت غير ذات جدوى، فالمربي الذي لا معرفة له بنفسية من يتولى تربيتهم يكون معهم في بُعْد شاسع فهم في وادٍ وهو في آخر لا لقاء بينه وبينهم.

ومن أجل عدم العناية بعلم النفس في العصور التي كلكل الجهلُ فيها على العالم الإسلامي انحطَّت التربية، وكان المربون لا يَعتمدون على شيء في تربيتهم غير العقاب فقَصروا عليه همهم فهم بين أمرين إما تنفيذ العقاب وإما التخويف بالعقاب.

فالعقاب هو الوسيلة الوحيدة في المجتمعات القريبة من عصرنا الحاضر فالمربي يرى أن الناشئة بين يديه لا يستقيم أمرها إلا بالعقاب، والذين يتولون تسيير دفة الأمور قَصَروا أمرهم على العقاب فالكل لا يولي معرفة النفسيات اهتماماً، ومن أجل ذلك تقهقر الشرق وتسلط عليه كابوس الخوف الذريع مع أنَّ الإسلام أعطى لكل حال ما يناسبها فإنه لم يهمل علم النفس سواء كان فرديَّاً أو اجتماعيَّاً.

مع أنَّه أعطى النفسيَّات البعيدة عن تفهم المعنى من التعايش الاجتماعي ما يناسبهم من التخويف بالعقاب حتى تقصر أيديهم عن مصرة المجتمع.

فمن جوانب مراعاة علم النفس ما أخبرنا به الحديث النبويُّ المروي في صحيح البخاري تحت عنوان:

باب ما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتخوَّلهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا، روى البخاري فيه حديثين: الأول حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتخولنا بالموعظة كراهة السآمة علينا.

والثاني عن أنس رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا).

والحديث الأول كما أخرجه البخاري أخرجه مسلم في صحيحه في باب الاقتصاد في الموعظة، فهو حديث اتفق عليه الشيخان.

وأخرجه مسلم بثلاث روايات بتسعة أسانيد، [انظر صحيح مسلم ج4 ص 216-217]، يظهر تعدد أسانيد رواياته عناية العلماء به فهو حديث محلُّ عناية لما أحسوا فيه من تعمقه في تفهم النفسيَّة الإنسانيَّة.

ولهذا كان راويه عن النبي عن عبد الله بن مسعود عاملاً به كما جاء في رواية مسلم وهي: عن شقيق [هو شقيق بن سلمة وهو أعلم من أهل الكوفة حديث عبد الله بن مسعود ويقول فيه ابن معين: ثقة لا يسأل عن مثله مات بعد الجماجم سنة81 كما ذكره خليفة بن خياط التهذيب ج4ص316] قال:

كنا جلوسا عند عبد الله ننتظره: فمرَّ بنا يزيد بن معاوية النخعي فقلنا أعلمه بمكاننا.

فدخل عليه فلم يلبث أن خرج علينا عبد الله فقال: إني أخبر مكانك فما يمنعني أن أخرج إليكم إلا كراهية أن أملكم، إن رسول الله من كان يتخولنا بالموعظة في الأيام مخافة السآمة علينا.

فعبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان اتخذ سنة رسول الله عل ديدنا في وعظه للناس مراعيا ما راعاه الواعظ الأول.

ومعنى التخول هو التعهد من قولهم خال على شيء خَوْلاً إذا تعهَّده، ويقال: خال المال إذا ساسه، وأحسن القيام عليه.

ولأبي عمر الشيباني في رواية هذا الحديث أن الصواب فيها يتحولنا بالحاء المهملة، أي: يطلب أحوالهم التي ينشطون فيها للموعظة، ولا يكثر عليهم فيملوا، لكن الصواب في الرواية يتخولنا بالخاء المعجمة.

يعلل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن التخول بالموعظة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما ذلك من أجل مخافة السآمة وهو أمر مقصود لا شك فيه فإنَّ الإكثار من الشيء ولو كان نافعاً يعود إلى الضد.

فإرهاق الطفل بالتربية يؤول به إلى النفرة منها، كما هو مشاهد في المدنية الحديثة اليوم فإنَّ النفرة منها نتاج التوغل فيها، فالطفل الذي لا يرى من أبويه ومن مجتمعه إلا التوغل في المدنية يملها فما يراه من التعمق فيها آل به إلى ما نراه في الشباب من نبذ الترفه، والانغماس في الأوساخ بسبب أن النفس إذا أكثرت عليها من الشيء تعافه وتكرهه وتود غيره ولو كان انحطاطا، وقد بلغ الحال ببعضهم إلى الانتحار الجماعي.

ومن هنا جاء التوسط في الإسلام وهو الاقتصاد كما نطق به كتاب الله سبحانه وتعالى في قوله: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا﴾ [الإسراء: 29].

إن التوسط في الانفاق من أهم قواعد الاقتصاد إذ يمكن بواسطته اعتدال ميزان الحياة، لأنَّ الإمساك المعبَّر به هنا يجعل اليد مغلولة إلى العنق لا تستقيم معه الحياة، ولا يتمكن صاحبه من العيش؛ لأنه بتقتيره على نفسه تتداعى صحته وكما لا يمكن له في ذاته أن يحيا حياة مستقيمة كذلك لا يمكن له أن ينشئ وسطاً عائلياً لاستلزام العائلة مطالب لا بدَّ من توفيرها فإذا لم تتوفر فإما أن تنقرض العائلة أو يسد باب الوجود العائلي، أو تنشأ العائلة محرومة من كل وسائل التكوين في القوت والتربية واللباس وغير ذلك، فهي إما أن تنهار جسمياً وإما أن تنشأ عائلة فاقدة لكل المقومات الأخلاقية بل بسائط الروابط الإنسانيَّة.

وكذلك الإسراف فمضاره لا تقل عن مضار التقتير، بل هي أشد منها مؤدَّاها الانهيار الجسمي بسبب الإسراف في الشهوات مهما كان نوعها، وأيّاً كانت هذه الشهوات فآثار الإسراف في العائلات والمجتمعات أسوأ آثار وأشدها فساداً.

وناهيك بالأمم المنقرضة فإنَّ سبب دمارها وانهيارها وتلاشيها الترف البالغ المؤدي إلى أردأ الحالات كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾ [الإسراء: 16].

ومعنى أمرنا مترفيها: كثَّرنا المترفين المنعَّمين، والترف مدعاة للخروج عن أمر الله تعالى والابتعاد عن طاعته جلَّ وعلا.

فالتوسُّط هو الذي يمكن بواسطته مواصلة سير الحياة، أما الطرفان التقتير والإسراف فموقعان في نهاية، وهي إيقاف السير الإنسانيّ.

فالمدنية الحديثة تقاسي اليوم جنوح أفرادها إلى الإغراق في التنعم مما أدَّى بشبابها إلى تلك الحال المشار إليها آنفاً. وهو ما تخوَّفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم على العرب.

حدثت أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل عليها فزعاً يقول: «لا اله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه» وحلق بأصبعيه الإبهام والتي يليها. [هذه رواية للبخاري والذي اتفق عليه الشيخان بأصبعه بالإفراد]

قالت زينب: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث. [رواه الشيخان في صحيحيهما].

التخول الضروري:

ويحتمل تخوُّله صلى الله عليه وآله وسلم بالموعظة معنى آخر قريباً جداً وهو إنما لم يواصل موعظته وجعلها في أيام دون أخرى، لأن في المواصلة مضرة لأنَّ الدماغ في حاجة إلى الراحة والغذاء لإيقاف الهدم الفكري.

يذكر علماء النفس أن هناك فضلات صغيرة في أوقات الاشتغال بالأعمال الفكرية تتساقط وتجتمع في مادته العصبية وتسمها.

فاذا أطال أمد الاشتغال كثرت هذه الفضلات ووصل السم إلى حال لا يقدر معها المخ على القيام بأعماله فإذا أريد إرجاع قوته إليه، وجب في الحال إيقاف ما يحدث فيه من الهدم، وإزالة ما تجمع فيه من الفضلات السامة وتعويض ما فقده من مادَّته.

أما إيقاف الهدم فإنما يكون بالراحة التامَّة وإضراب عن العمل فترة من الزمن، وأما الأمران الآخران فلا وسيلة لهما إلا الدم الذي يأتي من القلب، وينصب في المخ، فيكتسح جميع ما فيه من الفضلات ويغذيه ما أتى به من المواد الصالحة لتكوين الأنسجة العصبية، ولا يخفى أنه كلما كان الدم نقياً قوياً كان أقدر على القيام بهذا العمل ومن ذلك نرى الإنسان لا يقوى على أعماله الفكرية إلا إذا أخذ حظه من الهواء النقي والطعام الجيد. والراحة الكافية. [علم النفس وآثاره في التربية والتعليم للجارم وأمين ص/31].

فالراحة الفكرية التي وضح علم النفس ضروريتها وتأكدها في استمرار العمل الفكري نبَّهنا صلى الله عليه وآله وسلم عليها وأراها للصحابة عملياً.

ولم يهملها الصحابة فأخذوا بها، ولذلك كان عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه لا يخرج لأصحابه كل مرَّة محافظة على هذه الراحة الفكرية، وقد نظم لهم بوماً خاصاً كما ورد في صحيح البخاري في باب من جعل لأهل العلم أياماً معلومة.

عن أبي وائل شقيق قال: كان عبد الله رضي الله عنه يذكر الناس في كل خميس فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن لوددت أنك ذكرتنا كل يوم. قال: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم وأني أتخولكم بالموعظة كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا. [البخاري (ج1 ص /46)].

وانتهج النهج النبوي في تخصيص أيام للدراسة علماء المسلمين ونظفر بهذا في أمالي أبي علي القالي. فإنه حين دخل الأندلس اتَّبع سُنة عبد الله بن مسعود فأخذ يوم الخميس لإملاء كتابه المعروف بالأمالي حسبما جاء في أوله.

فأمليت هذا الكتاب - أي كتاب الأمالي - من حفظي في الأخمسة من قرطبة وفي المسجد الجامع بالزهراء المباركة. [الأمالي ج1 ص /3].

إنَّ ما ذكرنا هنا وإن كان غير ما ذكره ابن مسعود رضي الله عنه كما يبدو إلا أنه لا ينافيه لأنه في الحقيقة تحصيل له علمي مبني على ما ذكر.

التربية القولية المركِّزة على علم النفس:

ولم يكتفِ صلى الله عليه وآله وسلم بالتربية المركّزة على علم النفس التي هي من قبيل التربية الفعليّة حتى أضاف إليها قوله إرشاداً وهداية لكي يحافظ الناس على الفكر منبع استقامة الحياة فجاء عنه كما في الحديث الثاني المورد في باب التخول بالموعظة وهو: «يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا».

فالحديث ينهج منهج التلطف في التربية والتعليم دون القسوة المرتكبة من بعض رجال التربية والتعليم الذين يرون أنها الوسيلة الوحيدة لنفع النشء.

كيف نراها كذلك ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حديثه ينادي بخلاف ذلك فكلما رأى من بعض الصحابة ما ينفر أمرهم بالتيسير وتأكيداً لذلك نهاهم عن التعسير، وأمرهم بالتبشير وهو إدخال السرور على الناس.

وأمر بالتيسير لينشط الفكر ويعمل بدون كلل، وهو ما سلف من أن إراحة الفكر لا معدل عنها وهي الطريق الأقوم لاستقامة الفكر.

التربية النبويَّة من أهم مصادر علم النفس:

تشتمل التربية النبويَّة على الكثير مما هو من أهم مسائل علم النفس، ولو تتبَّع الباحث المتعمق الأحاديث لوجد أن علم النفس في أصوله، منبعه الأحاديث كما وقع توضيح بعضه في هذه الكلمة.

لكن الأغلبية ممن ألَّفوا في علم النفس وخاصة المداخل فيه نراهم يذكرون مثلاً أن أفلاطون يرى عندما تهبط النفس من عالم المثل إلى العالم المادي لتحتل الجسم ينشأ منها ثلاث نفوس النفس العاقلة والغضبيَّة والشهوانيَّة.

وما يقابله من علم النفس الحديث أنَّ النفس العاقلة يقابلها النواحي الإدراكية، والنفس الشهوانية يقابلها النواحي الوجدانية، والنفس الغضبية يقابلها النواحي النزوعية.

هذا ما يذكره صاحب كتاب «مدخل علم النفس» وهو الدكتور محمد خليفة بركات وهو لا شك متأثر بما كتبه علماء النفس من الغربيين المتأثرين بالفلسفة اليونانية مع أن ما ذكره أفلاطون يطفح به الإسلام ففي الحديث المصدر الثري نجد فيه مالا يذكر أمامه أفلاطون من تقسيم للنفس مما هو أحكم وأدق وما هو جدير ببحث خاص وإنما نجتزئ بإشارة عابرة تدل على أنَّ الحديث النبويَّ أشار إلى هذا التقسيم، ففي حديث ابن عمر رضي الله عنها إشارة إلى النفس الشهوانية:

«ثلاث مهلكات... فأما المهلكات فشح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه».

فالنفس الشهوانية قسَّمها الحديث مدققاً حيث جعلها في ثلاث دوائر: الدائرة الأولى الشح الذي تدعو إليه النفس الشهوانية للاتساع في شهواتها.

الدائرة الثانية الهوى المتَّبع وهو قطب النفس الشهوانيَّة فالنفس المنغمسة في الشهوانية منقادة بحسب الهوى، فالهوى المحرِّك هو النفس الشهوانية.

الدائرة الثالثة من النفس الشهوانيَّة الغرور النفسي فإنَّ منشأه ما تحبه النفس وتشتهيه من التعاظم والتعالي حتى يصبح المغترُّ بنفسه المعجب بها لا يرى لنفسه عيباً، ويحمل محاملها كلها على أنها الخير كله فلا محيد عنها ولو كانت لا تحمل في طياتها إلا الشر الصرف.

ومصيبة إعجاب المرء بنفسه في الهلاك تصل إلى الحد الأقصى إذا كان المعجب بنفسه من ذوي السلطان فإنه علاوة على اغتراره بنفسه هناك المزيفون المزينون للباطل الذين يبذلون كل جهد لهم في الوصول إلى تصوير الباطل حقاً والخطأ صواباً لذي السلطان توصلاً لأغراضهم وبلوغاً لأهدافهم.

والنفس الغضبية أشار الحديث النبويُّ بالنهي عنها كما ورد عن جارية بن قدامة السعدي قال: قلت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: أوصني قال: «لا تغضب فردَّد عليه مرارا قال: لا تغضب».

قال جارية: ففكرت فإذا الغضب يجمعُ الشرَّ كله. أخرجه أحمد والحاكم عن جارية كما ذكر.

فالنفس الغضبية التي قسم النفس إليها أفلاطون هي نفس الشر، فالشر مبعثه الغضب فحين ننظر إلى هذا الحديث نجد أنَّ أفلاطون لم ينفرد بهذا التقسيم فهذان القسمان اللذان أشار إليها كانت إشارة الحديث إليها أعمق حيث أشار إلى السبب الحقيقي في تكوين كل نفس منها مع أنه أظهرها في مظهر تربوي تستسیغه العقول، وتقبل عليه النفوس فلم تكن الاشارة جافة بعيدة عن المعنى التربوي حتى تكون محل نظر، بل جاءت في صور لا تدع للشك محلاً.

من مميزات التربية النبويَّة:

إن الخصائص في التربية النبويَّة ذات جوانب مُتعددة مُختلفة في ملاءمة الظروف الإنسانيَّة، فما يظنُّه... الظّانون من أنَّه من مُشكل الحديث النبويّ حين يرون بعضاً من الأحاديث يتبادر منها أنها مُتباينة فيما بينها مع أنها لا تباين بينها وإنما بعض من تلك الأحاديث توجيه لبعض الإنسانيَّة والبعض الآخر توجيه لآخرين.

فالتربية النبويَّة آخذة مأخذ بلاغة القول فكما لكل مقام مقال، كذلك لكل صنف من الناس ما يخصُّه من التربية.

وبهذه المُراعاة استطاعت التربية النبويَّة أن تأخذ بأيدي أمم مختلفة وتجمعها في صعيد واحد وهو ما عجزت عنه المدنيَّة الحديثة، فهي رغم ما جنَّدته من مؤسسات لتجمع الأمم في صعيد واحد لم تستطع أن تصنع، مع أنَّ الإسلام حقق ذلك في أوقات لم تتمتع فيها الإنسانيَّة بوسائل التبليغ الموجودة اليوم: ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال: 63].

والإسلام بتربيته التي استطاعت أن تؤلِّف بين القلوب المتنافرة فيما مضى، هو اليوم في استطاعته أن يؤلف بينها حاضراً ومستقبلاً، إنَّه الدين القويم والصراط المستقيم.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبويَّة، الدوحة، محرم 1400هـ

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين