ولماذا المولد (4) المثل العليا في الحب

أنّ من سعادة العبد أن يرزقه الله محبة النبي ، صلى الله عليه وسلم، فإن محبته دليل الإيمان به، وسبيل الاقتداء به والسير على منهجه والأخذ بشرعه الحنيف

ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم الحقيقية، ليست مجرد كلمات يرددها اللسان، أو دروس وخطب يتلوها الوعاظ والخطباء، أو قصائد وأناشيد يتغنى بها الشعراء والمنشدون ولا يكفي فيها الادعاء فحسب، بل لا بد أن تكون محبته ـ عليه الصلاة والسلام ـ حياة تُعاش، ومنهجاً يتبع، وصدق الله إذ يقول: (‏قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏)

وإذا كانت محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم متوجبة على كل مسلم ومفروضة عليه، فإنها لدى صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم أشد وأقوى؛ فلقد أحب الصحابة رضوان الله عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم حُباً فاق كل حب فآثروه على المال والولد وضربوا لنا المثل الأعظم والأوضح في الحب للجناب المحمدي صلى الله عليه وسلم

فهذا سيدنا علي ـ رضي الله عنه ـ وقد سُئِل: كيف كان حبكم لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ؟، قال: " كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا، وآبائنا وأمهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ

ولقد ترجم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحب ترجمة عملية، فبذلوا أرواحهم وأموالهم رخيصة في سبيل الله، وطاعة وحباً لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ،

وسأستعرض بعض صور هذا الحب، فمما لا شك فيه أن سيدنا أبا بكر الصديق كان أشد الناس حباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أن آمن به في أوائل الدعوة ووقف معه ينافح عنه يفديه بنفسه

روت أسماء بنت أبي بكر أنهم قالوا لها: ما أشد ما رأيت المشركين بلغوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان المشركون قعوداً في المسجد الحرام فتذاكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يقول في آلهتهم فبينما هم كذلك إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد فقاموا إليه وكانوا إذا سألوه عن شيء صدقهم فقالوا: ألست تقول في آلهتنا كذا وكذا قال: " بلى " قال فتشبثوا به بأجمعهم.

فأتى الصريخ إلى أبي بكر فقيل له : أدرك صاحبك .

فخرج أبو بكر حتى دخل المسجد فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس مجتمعون عليه فقال: ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم قال: فلهوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واقبلوا على أبي بكر يضربونه.

قالت: فرجع إلينا فجعل لا يمس شيئا من غدائره إلا جاء معه ـ يعني من شدة ما ضربوه على رأسه ـ وهو يقول: تباركت يا ذا الجلال والإكرام

وصورة أخرى من حب سيدنا أبا بكر للنبي صلى الله عليه وسلم وذلك حينما أذن الله لنبيه بالهجرة، وأذن النبي لأبي بكر بالصحبة فرح بذلك فرحاً شديداً حتى أن فرحته أبكته، كما تقول عائشة رضي الله عنها في حديث البخاري: "ما علمت الرجل يبكي من شدة الفرح إلا يومئذ حينما رأيت أبي يبكي من شدة الفرح". ثم خَرَجَ مع رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ يَمْشِي سَاعَةً بَيْنَ يَدَيْهِ وَسَاعَةً خَلْفَهُ، حَتَّى فَطِنَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَذْكُرُ الطَّلَبَ فَأَمْشِي خَلْفَكَ، ثُمْ أَذْكُرُ الرَّصَدَ فَأَمْشِي بَيْنَ يَدَيْكَ.

وهذا سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحكي لنا قصة حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول: كنت أمشي مع النبي ومعنا بعض أصحابه، وأخذ رسول الله بيدي ومشى، يقول عمر: فوجدت نفسي أقول: والله يا رسول الله إني أحبك، فقال له النبي:' أكثر من ولدك يا عمر؟' قلت: نعم، قال:' أكثر من أهلك يا عمر؟' قلت نعم، قال:' أكثر من مالك يا عمر؟' قلت نعم، قال:' أكثر من نفسك يا عمر؟' قال: لا، وانظر إلى صدقه مع نفسه ومع النبي فقال النبي لا يا عمر، لا يكمل إيمانك حتى أكون أحب إليك من نفسك' يقول عمر: فخرجت ففكرت ثم عدت أهتف بها: والله يا رسول الله لأنت أحب إليّ من نفسي، فقال النبي:' الآن يا عمر الآن'.

فقال عبد الله بن عمر: ماذا فعلت يا أبي لتعود بها؟ فقال عمر: يا بني خرجت أسأل نفسي من أحتاج يوم القيامة أكثر، نفسي أم رسول الله؟ فوجدت حاجتي إليه أكثر من حاجتي إلى نفسي، وتذكرت كيف كنت في الضلال وأنقذني الله به. فقال له عبد الله بن عمر: يا أبت إن نسيت كل شيء عن رسول الله، فما هو الشيء الذي لا تنساه أبدا؟ قال عمر: إن نسيت ما نسيت فلا أنسى يوم ذهبت إليه أقول: ائذن لي أن اخرج إلى العمرة يا رسول الله، فقال لي:' لا تنسنا يا أخي من صالح دعائك' فقال كلمة ما يسرّني أن لي بها الدنيا

وصورة ثانية من صور حب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم له وهي صورة أنقلها لكم من غزوة بدر

قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوي الصفوف قبل المعركة، وبيده سهم، فلما وصل إلى سواد بن غزية، رآه بارزًا، فقال: «استو يا سواد» فقال سواد: فَقَالَ: يا رسول الله، أَوْجَعَتْنِي، وَقَدْ بَعَثَكَ اللهُ بِالْعَدْلِ، فَأَقِدْنِي. فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: «اسْتَقِدْ». قَالَ: يا رسولَ اللهِ، إنك طَعَنْتَنِي وليس عليّ قَمِيصٌ. قال: فَكَشَفَ رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم عن بطنه، وقال: «اسْتَقِدْ». فَاعْتَنَقَهُ، وَقَبَّلَ بَطْنَهُ، فقال: «مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا يَا سَوَادُ؟» قال: يا رسول الله، حَضَرَنِي مَا تَرَى، وَلَمْ آمَن الْقَتْلَ، فَأَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ آخِرَ الْعَهْدِ بِكَ أَنْ يَمَسَّ جِلْدِي جِلْدَكَ، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ

وفي غزوة أحد ظهرت صور كثيرة من حب الصحابة للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بصورة عملية، وذلك حينما حاصر المشركون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه، وفي هذا الموقف العصيب سارع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقاموا حوله سياجاً بأجسادهم، وبالغوا في الدفاع عنه، فقام أبو طلحة يسور نفسه بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويرفع صدره ليقيه من سهام العدو، ويقول: " نحري دون نحرك يا رسول الله ".

وأبو دجانة يحمي ظهر رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - والسهام تقع عليه ولا يتحرك، ومالك بن سنان يمتص الدم من وجنته ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى أنقاه،

وأبو عبيدة بن الجراح ينزع السهم من وجنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسنانه حتى استله وسقطت اسنانه

في حادثة الغدر التي قامت بها قبيلتي عضل والقارة، وعرفت في السيرة بـ«يوم الرجيع»، كان من آثارها، أن بيع زيد بن الدثنة وخبيب بن عدي إلى قريش. فلما قدم زيد ليقتل قال له أبو سفيان: أنشدك بالله يا زيد، أتحب أن محمدًا عندنا الآن في مكانك تضرب عنقه، وأنك في أهلك؟ قال: والله ما أحب أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه. وأني جالس في أهلي.

فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدًا يحب أحدًا، كحب أصحاب محمد محمداً

إنه الحب الكبير لرسول الله صلى الله عليه وسلم ملأ قلوبهم فأحبهم الله سبحانه ورضي عنهم، ورفع شأنهم في الدنيا والآخرة.

فهل نقتدي بهم في الحب لننال هذا الرضا الله سبحانه

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين