الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في بيته (1)

بسم الله وحده ولا شيء معه دائماً وأبداً.

«إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حقّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1]، ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوۡلٗا سَدِيدٗا٧٠ يُصۡلِحۡ لَكُمۡ أَعۡمَٰلَكُمۡ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۗ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ فَازَ فَوۡزًا عَظِيمًا٧١﴾[الأحزاب:69-70] [هذه خطبة الحاجة. وقد ورد بها أكثر من حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسام. ونتفتح بها إحياء للسنة المطهرة]

وبعد:

أشهد أن أشقَّ لونٍ من ألوان الكتابة، هو الكتابة عن سيرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وما دار في خَلَدي أنني سأكتب في هذا المجال - على شدَّةِ حاجته إلى الكاتبين وخصوبته للدراسين - من مجالات الكتابة. ويرجع ذلك إلى أكثر من سبب، لعلَّ أول هذه الأسباب وأخطرها هو جلالُ الموضوع وعظمته. فكلَّما اقترب الإنسان من أخباره صلى الله عليه وآله وسلم يشعر بالهيبة والعظمة وتروعه الصورة المشرقة للنبوة ببهائها، وتملك عليه نفسه بروائها ونورها، ويجد المسلم نفسه مُستغرقاً متأمِّلاً بحيث يجد رسالةَ السماء كلها، بكل جلالها تجسَّدت فصارت سيرة محمد بن عبد الله، وخُلُق محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم. وأنَّى للكلمات أن تعبِّر عن ذلك، أو للقلم أن يصوِّره، يقيناً كلُّ من حاول أو كتب عن المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم يشعر بعجز القلم (حقيقة لا مجازاً) ويقيناً يشعر بأنَّ ما كتبه دون ما أحسَّه وشعر به.

ولعل السبب الذي يلي ذلك هو كثرة ما كُتب ونُشر عن سيرته صلى الله عليه وآله وسلم؛ وفي هؤلاء الكرام الكاتبين من كبار الأئمة وصفوة الصالحين ومن معاصري الأساتذة ورجحاء الباحثين ما يجعل الإنسان يتردَّد أن يقف في صفّهم ويتهيَّب أن تبدو قامته بإزائهم.

تردَّدتُ كثيراً من أجل هذا، وأصبحت فعلاً وحقيقة، ولكني عدت فأقدمت، أقدمت ضعيفاً أشعر بضعفي، عاجزاً أشعر بعجزي، ولكن أعانني وشجَّعني، وفسح لي في الامل، أنَّه نبيّ الرحمة، وأنَّه كان يرحم الضعيف، ويقبل منه جُهده مهما قلَّ، ويراه منه كافياً مجزياً، وكان حقا كما قال: (رحمة مُهْداة). ومنذ زمن بعيد يتردَّد بين جوانحي ذلك القول الحاني الحكيم (البوصيري في همزيته):

صَاحِ لاَ تَاسَ إِنْ ضَعُفْتَ عَنِ الطَّا ** عَـةِ وَاسْتَأْثَرَتْ بِهَا الأَقْوِيَاءُ

إِنَّ للهِ رَحْمَةً وَأَحَقُّ ** النَّاسِ مِنْهُ بِالرَّحْمَةِ الضُّعَفَاءُ

من هنا استأذنت من باب الرحمة.

وحين جعلت همي أن أتناولَ موضوع (الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في بيته) استشعرت الهيبة والرهبة مرَّةً أخرى - بعد أن كنت قد خليتها - وأنا أقترب من بيت النبوة، وإنَّها لرهبة أكبر وأعظم إذا كان الغرض من الاقتراب التعرُّف على ما في البيت الكريم ووصفه وتصويره، لقد كان صلى الله عليه وآله وسلم مَهِيباً في نفوس أصحابه لا يَرفعون إليه الطرف، ولا يحدُّون إليه النظر، ولا يملأون أعينهم منه، وكان ذلك من عظمة نفسه وروحه، لا من رهبةِ منظره وجبروته، ولذلك كان أصحابه يزدادون له هيبة وخشية وإعظاماً، كلما ازدادوا منه قُرباً وله مخالطة.

ولكني أقدم على محاولتي في الاقتراب من بيت النبوة بإذن صاحب البيت، بل بأمره صلى الله عليه وآله وسلم، أليس قد دعانا للبحث عن سنته وحفظها والعمل بها!؟.

وهنا أجدني مدفوعاً لتأكيد معنيين:

أولها - أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم، ربما كان الإنسان الوحيد الذي كانت حياته كلها في الضوء، - بل هو بالقطع - الإنسان الوحيد الذي رأته الدنيا وعرفته البشرية يُبيح معرفة ما كان منه، وما يكون في سرٍّ أو عَلَن، مما يتصل بتقلبه في الحياة في أي جانب أو لون من جوانبها وألوانها.

هو صلى الله عليه وآله وسلم الإنسان الوحيد الذي لم يكن له (سرّ)، هو الإنسان الوحيد الذي عرف الناس - كل الناس - كل تصرفه في كل شؤونه.

فمن حقّ كل واحد منا أن تكون حياته - الشخصية كما يسمونها - ملكاً له وحدَه، بل ذلك معدود من المروءة، وكرم الأخلاق. من حقّ كل واحد منا أن يستر عن الناس كيفية طعامه وشرابه، وماذا يأكل وماذا يشرب، ومن أين يحصل على ما يأكل وما يشرب ونظام ملابسه، وطريقة نومه وكيف يعامل أهله وأولاده، وما الوضع الذي يستقبل عليه ضيفانه، وماذا أطعمهم وكيف سقاهم.

ذلك حقنا، بل ذلك علينا، وهو معدود من علائم استقامة الطبع وسلامة الفطرة، أما النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يكن له (سرّ)، ولم يكن عنده جانب مخبوء من حياته، بل كلُّ حياته كانت في الضوء. فما الحكمة في ذلك؟ في تقديري أنَّ لذلك هدفين:

أ- أن تكتمل الأسوة، والقدوة. ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: 21]، فلا يكون هناك جانب غير معروف من حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم - مهما كان ضيقاً أو ضئيلاً - فيلقى شيئاً من الغموض، قد يظن ظانٌ أنَّ لهذا الجانب المستور أثراً في الجوانب الظاهرة، أعني أنَّه قد يقول قائل - ولو في نفسه -: مالنا ولرسول الله، فهو يأكل كذا، أو ينام كذا، أو تتنزل عليه الملائكة بكذا، فلسنا مثله فكيف نتأسى به.

ب - وأيضاً لهذا الوضوح أثر آخر في الدلالة على صدق النبوة، فلو كان هناك جانب غير معروف، أو (حياة شخصية) مستورة ماذا كان يمكن أن يتقوَّله الأعداء ويفتريه المفترون، وينسجه خيال المناوئين على طول العصور، منذ البعثة إلى اليوم.

إنَّ من رحمة الله أن كانت حياته صلى الله عليه وآله وسلم ملكاً للرسالة، كل حياته في بيته، في خارج بيته، في حِلِّه في ترحاله في حربه في سلمه، حتى صفة غُسله ووُضوئِه، بل استبرائه وتطهُّره، بل إزالة ما يكون على ثوبه مما يكون من الرجال. بل أبعد من هذا، ماذا يقول حين يأتي أهله. وها هو أمر السماء لأمهات المؤمنين: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ﴾ [الأحزاب: 34].

وستظل حياة نبيّنا نبعاً ثراً، ومَعيناً لا ينضب لمن يدرس، ويتدبَّر، ويعي فيتعظ ويعمل.

وثاني المعنيين الذي أريد أن أؤكده هو بشَريَّتُه صلى الله عليه وآله وسلم، ففي تأكيدها تأكيد لعظمته، وأيضاً التزام بالحق والصدق من سيرته، ذلك أنَّ بعض كرام الكاتبين يكاد يجرِّدُ المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم من بشريته، يدنو به من مصاف الملائكة ويتصور بهذا أنَّه يزداد له تعظيماً وإجلالاً. وهذا على ما فيه من مخالفة الحق، ومجانبة الصدق: ﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إلا بَشَرًا رَسُولًا﴾ [الإسراء: 93]، ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ...﴾ [الكهف: 110] وسورة فصلت: 6 ﴿إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: 188].

مع ما في نفي هذه البشرية المؤكَّدة عن الرسول المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم من مخالفة للحق، فليس فيها أيضاً التعظيم والإجلال الذي يرجونه من وراء نفيها، بل إنَّ العكس هو الصحيح، أعني أنَّ البشرية وتأكدها في حقه هي محل عظمته ومصدرها، حيث كان له ما في البشر، وكان فيه كل ما في البشر، ولكنه سما وارتفع عن نوازع الإنسان، وارتقى مع ما في البشرية من ثقلة الطين، وعلا مع ما في البشرية من نزعة إلى الأرض. هنا فعلاً تكمُن العظمة أن يكون بشراً، ويعلو فوق ما يقدر البشر.

منهج البحث:

حينما نقف أمام موضوعنا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في بيته) سنجد أنَّه ليس موضوعاً واحداً بل عدة موضوعات.

هذا إذا أردنا الوفاء للعنوان وفاءً كاملاً وترجمناه إلى معانيه ومراميه كلها، فحينما نقف عند بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سنرى ما يلي:

- بيوت النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، شكلها، ومكانها، ومتى وكيف بنيت.

- أثاث بيته صلى الله عليه وآله وسلم.

- كيف كان صلى الله عليه وآله وسلم يد خل البيت.

- لباسه صلى الله عليه وآله وسلم.

- تنظُّفه وتطهُّره وتزيُّنه وتجمُّله.

- طعامه صلى الله عليه وآله وسلم.

- استقباله للضيفان ومجلسه.

- أبوته لأولاده وأحفاده.

- زوجيَّته ومعاشرته لأزواجه.

- نومه - ويقظته.

- تعبُّده في بيته.

- معاملته لخدمه وعبيده.

كل هذه الموضوعات وغيرها كثير مما يتصل ببيت النبيّ وينبع منه، وربما كان المتبادر إلى الذهن بعضها دون البعض، ولكن عند التحقيق والتدقيق سنرى أنَّها كلها مُتصلة ببيت النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم.

ولا ندعي أننا قدرنا على الوفاء بها جميعها، ولا ببعضها، ولكنا حاولنا جهدنا، وقد أطلنا الكلام على جوانب تقديراً منا أنَّها لم تنلْ حقَّها من البحث والدرس من قبل. وأوجزنا الحديث عن بعضها تقديراً منا أنَّها درست مراراً وكثر فيها الحديث وصارت قريبة من الأذهان والأفهام. ونرجو أن نكون قد أصبنا في تقديرنا، وتوقعنا.

ومع أننا سنحاول جاهدين أن نكون أوفياء لعنوان البحث، بحيث نكون دائماً في بيت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا نبرحه، ولا نخرج منه، إلا أننا سنجد أنفسنا مضطرين أحيانا إلى أن نصحب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم خارج البيت، ما دام الأمرُ يتصل بشأن من شؤون البيت. كالتنظف والتعطر واللباس، فهي أمر متصل بالبيت، وتتمُّ أساساً في البيت لكن مظاهرها وآثارها تمتد حتماً خارج البيت، ولن نستطيع في هذه الحالة إلا أن نتتبعها، ونسير معها حيث هي، وأرجو إلا أكون قد بعدت عن البيت.

وأرجو أن يتحقق لي ما حاولته من الاعتماد على الأحاديث المقبولة صحيحة أو حسنة، وعزوها إلى من خرَّجها، والدلالة على موضعها من دواوين السنة، كذلك جعلت من منهجي ذكر الحديث كاملاً بتمامه، ولو كان موضع الشاهد جزءاً فقط. وربما حاولت أن أضيف في الموضوع الواحد نصوصاً أخرى، قد تكون في نفس المعنى، وقد تكون درجتُها أقلّ من حيث السند ولكني أرجو من وراء ذلك - غير التأكيد للنصوص المعروفة وتثبيتها – أن أخرج من دائرة النصوص المألوفة الدائرة على الألسن. ولم تعدْ تلفت ذهناً، أو تثير انتباهاً، فمثلاً عندما نتحدَّث عن (عيش رسول الله وزهده) نجد من الحديث «ما شبع آل محمد من خبز البُرِّ ثلاثاً» عن عائشة رضي الله عنها: «إنا كنا ننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين، وما أُوقد في أبيات رسول صلى الله عليه وآله وسلم نار..»..

فمثل هذا من الحديث متفق عليه، ليس بحاجة إلى تأكيد، ولكن علينا أن نقدم في هذا المعنى أحاديث وآثاراً أخرى - وإن كانت أقلُّ درجة - إثارة للانتباه، وتنشيطاً للأذهان، وإزالة لما قد يكون قد ملل نتيجة تكرير الحديث واحد والاعتماد عليه دائماً.

ومرة ثانية أؤكد أنَّ هذه محاولة جدُّ مُتواضعة لأن نستأذن المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم أن نعيش في أرجاء بيته المطهَّر، نتنفَّس عبق النبوَّة الخالد، ونملأ عيوننا من نور الرسالة الفيَّاض فتخشع القلوب، وتزداد إيماناً، وتزداد الطريق وضوحاً، ونزداد بها استمساكاً «والله من وراء القصد، وهو نعم المولى ونعم النصير».

بيوت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

من المناسب قبل أن نستأذن في دخول البيت النبويّ الشريف أن نتعرَّف على مكانه: أين كان، وعلى صفته: كيف كان.

وقد كان لنبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم في مكة بيت واحد، وفي المدينة عدة أبيات بعدد أزواجه رضي الله عنهن.

أما بيته في مكة، فقد أورد الطبري: 197/2 وصاحب الرحلة الحجازية وصفاً له، نقلته بنت الشاطئ عنها [موسوعة آل النبي ص455] حين قالت:

«في جوار الحرم الأقدس، حيث دور قريش حافّة بالمسجد الحرام مُستأثرة دون سائر القبائل بذلك الشرف الأسنى، قامت الدار التاريخية التي كتبت لها أن تشهد عرس محمد بن عبد الله الهاشمي، وأن تستقبله بعد خمسة عشر عاماً من العرس، عائداً من غار حراء، بعد أن تلقَّى رسالة السماء. وهذه الدار قد ارتفع عنها الطريق. فينزل إليها بعدد من الدرجات توصل إلى ممر قامت على يساره شبه مصطبة مرتفعة عن الأرض بنحو قدم، وطولها عشرة أمتار، أما عرضها فأربعة.

وعلى اليمين باب صغير، يصعد إليه بدرجتين، يؤدي إلى طرقة ضيقة عرضها نحو مترين، وفيها ثلاثة أبواب:

يفتح أولها من الجانب الأيسر، على غرفة صغيرة مساحتها نحو ستة أمتار، كانت للنبيّ المختار صلى الله عليه وآله وسلم محراباً ومعبداً، ويؤدي الباب الأمامي إلى بهو مُتسع طوله ستة أمتار وعرضه أربعة، وقد جعل مخدعاً للزوجين، أما الباب الثالث، فعلى يمين الداخل، وهو يفتح في غرفة مستطيلة، طولها سبعة أمتار وعرضها أربعة، وقد جعلت لبنات محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى طول هذا المسكن من الشمال فضاء واسع، مساحته ستة عشر متراً في سبعة أمتار، ويرتفع عن الأرض بنحو متر، وفيه كانت السيدة «خديجة»[رضي الله عنها]، تخزن تجارتها قبل الزواج، فلما تزوجت واعتزلت التجارة، استعملت هذه المساحة مضيفة لاستقبال الضيوف.

ولا تعطينا المصادر التي تيسرت أكثر من ذلك، على كثرة ما حاولنا أن نستنطقها، لم نعرف عن بيت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في مكة أكثر من هذا، فلم نرَ أثاث البيت، ولا طريقة الطعام والشراب، واستقبال الزوار والضيفان، ذلك أن جُلُّ هذه الفترة كان قبل البعثة، حيث لم يكن محمد صلى الله عليه وآله وسلم قد نال شرف الرسالة بعد، فلم يكن هناك ما يدعو لنقل ما يكون منه في عيشه وحياته..

وما كان بعد البعثة من هذه الفترة المكية كان مفعماً بالجهاد والنضال والكفاح المثابر الصابر الصامد، فلم تتح الفرصة للمسلمين الأولين السابقين لالتقاط الأنفاس وهدوء الأحوال، حتى يسجلوا ما كان في بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة:

أما في المدينة فنرى صورة بيوت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أكثر وضوحاً وتفصيلاً. لما وصل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم المدينة، وتنافس الأنصار كل يقول يا رسول الله، هلمَّ إلينا: إلى العدد والعدَّة والمَنَعة - ويأخذون بزمام ناقته..

قال صلى الله عليه وآله وسلم: خلوا سبيلها، فإنَّها مأمورة، حتى بركت عند موضع مسجده المبارك، واحتمل أبو أيوب رحل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيته، وأراده قوم من الخزرج على النزول عليهم، فقال: المرء مع رحله، فكان مقامه في منزل أبي أيوب رضي الله عنه حتى بني له مسجده ومساكنه..

(كذا) مساكنه بصيغة الجمع قاله ابن اسحاق، ورواه عنه ابن هشام (ج2 ص103تحقيق طه عبد الرؤوف) وأيضاً في عيون الأثر (ج1 ص195طبعة دار المعرفة). وقاله أيضاً ابن كثير فيما نقله عنه أبو الحسن الندوي في (السيرة النبويّة ص 155). وقاله أيضاً ابن عبد الوهاب في (مختصر سيرة الرسول ص 135 من طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود). وقالته بنت الشاطئ، بل زادته تحديداً، إذ قالت:

 «تنافس المهاجرون والأنصار في البناء حتى تم بناء مسجد المدينة، ومن حوله تسع حجرات» (موسوعة آل بيت النبيّ ص 262).

ولكن الذي يبتدره العقل أنَّه لم تبن بيوت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كلها وقت بناء المسجد، فلم تكن به حاجة إلى كل هذه الأبيات، فلعل هذا القول القائل: (أنَّه أقام عند أبي أيوب حتى بنى مسجده ومساكنه) وهم في الرواية أو تساهل في التعبير عن المفرد أو المثنى بصيغة الجمع.

وقد لفتت هذه الروايات الإمام الحافظ شمس الدين الذهبي فقال في (بلبل الروض) فيما حكاه عنه الزركشي في (إعلام الساجد ص224): «لم يبلغنا [أي: يقين] أنَّه عليه السلام بنى له تسعة أبيات حين بني المسجد، ولا أحسبه يفعل ذلك، إنما كان يريد بيتاً واحداً حينئذ لسودة أم المؤمنين، ثم لم يحتج إلى بيت آخر حتى بنى بعائشة رضي الله عنها في شوال سنة اثنتين، وكأنَّه عليه السلام بناها في أزمان مختلفة.

وهذا الذي قاله الذهبي أقرب إلى المعقول، والى المعهود من خُلقه وسُنَّتِه صلى الله عليه وآله وسلم، فليس من المعهود ولا المعقول أن يبني تسعة أبيات من أول يوم ينزل فيه المدينة، ولم تكن به حاجة إليها.

حارثة وبيوت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:

وما قاله الذهبي من أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم بناها في أزمان مختلفة، وإن كان أقرب إلى المعقول والمعهود إلا أنَّه مُعارض بما رُوي من أن هذه البيوت كانت لحارثة ابن النعمان الأنصاري، وكان جاراً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

جاء في كتاب: (الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في قلوب أصحابه)(۱): كان لحارثة بن النعمان الأنصاري، رضي الله عنه منازل بجوار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة، وكان بينهما تنور واحد يخبزان فيه سوية، وكان مسروراً بهذا الجوار، يستمع لتلاوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلاً.

وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد بعث مولاه زيد ابن حارثة، وأبا رافع إلى مكة المكرمة وأعطاها خمسمائة درهم وبعيرين. فقدما عليه بفاطمة وأم كلثوم بنتيه، وسودة زوجته، وأم أيمن زوج زيد وابنها أسامة، وخرج معهم عبد الله بن أبي بكر، فلما قدموا المدينة أنزلهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيت حارثة بن النعمان، وكان كلما تزوَّج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحوَّل له حارثة عن منزل بعد منزل، حتى صارت منازل حارثة كلها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وحين دخل علي بفاطمة رضي الله عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إني أريد أن أحولك إليَّ. قالت فاطمة: يا أبتاه لو كلَّمت حارثة أن يتحوَّل لي عن منزله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا بنية قد تحوَّل حارثة عنا حتى استحييت مما يتحوَّل لنا عن منازله، فبلغ ذلك حارثة، فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: يا رسول الله، بلغني أنك تريد أن تحول فاطمة إليك. وهذه منازلي وهي أسقب (أي أقرب) بيوت بني النجار بك، وإنما أنا ومالي لله ورسوله، والله يا رسول الله للذي تأخذه مني أحب إليَّ من الذي تدع.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: صدقت، بارك الله عليك، ثم حول فاطمة (اهـ).

ولعلنا نرى أنَّ التوفيق بين هذا وبين ما قيل من أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم بنى أبياته لنفسه، بأنَّه بنى أولاً بيتاً أو بيتين لسودة وعائشة رضي الله عنها، ثم تحول حارثة بن النعمان رضي الله عنه عن باقي أبياته، هبة أو بيعاً، فلم تحدد الرواية نوع هذا التنازل من حارثة، وإن كان المفهوم أنَّه تنازل بطريق الهبة.

تابع التتمة في الجزء التالي

المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسُنَّة النبويّة، الدوحة، محرم 1400هـ

***

(1) تأليف وليد الأعظمي، وأشار إلى أن مصادره في ذلك هي طبقات ابن سعد 3 و53/2 ج 8/119، والاستيعاب 1/306-307 والمستدرك 3/208، وصفون 1/187، وحلية الأولياء 1/356، الاصابة 1/112، ووفاء الوفاء 1/188.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين