فصاحته صلى الله عليه وسلم وقوّة حجّته وإفحامه للخصوم (1)

كان صلى الله عليه وسلم في فصاحة اللسان، وبلاغة القول قد بلغ المحلّ الأفضل، والموضع الذي لا يجهل، سلاسة طبع، وبراعة منزع، وإيجاز مقطع، وفصاحة لفظ، وجزالة قول، وصحّة معان، وقلة تكلف، أوتي جوامع الكلم، وخُصّ ببدائع الحكم، وعلم ألسنة العرب، فكان يخاطب كلّ طائفة منها بلسانها، ويحاورها بلغتها، ويباريها في منزع بلاغتها، حتّى كان كثير من أصحابه يعجبون منه، ويسألونه في غير موطن عن شرح كلامه، وتفسير قوله، ومن تأمل حديثه وسيرته علم ذلك وتحقّقه.

وليس كلامه مع قريش ككلامه مع أقيال حضرموت، وملوك اليمن، وعظماء نجد، بل يستعمل لكلّ قبيلة ما استحسنته من الألفاظ، وما انتهجته من طرق البلاغة، ليبيّن للناس ما نزّل إليهم، وليحدّث الناس بما يعلمون.

لقد كان صلى الله عليه وسلم أفصح العرب لساناً، وأوضحهم بياناً، وأوجزهم لفظاً، وأقواهم حجّةً، قد آتاه الله الحكمة وفصل القول والخطاب، وفَوَاتِحَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِمَهُ وَجَوَامِعَهُ، وعلّمه ما لم يكن يعلم، كلامه كلّه يصدق عليه أنّه جامع مانع، سهل ممتنع، جزل فصل، لا تكلّف فيه ولا تصنّع، قد عصمه الله عن قول الشعر وقرضه، رحمة بالعباد، كيلا يلتبس عليهم ما لا يلتبس.

وفي ذلكَ يَقُولُ صلى الله عليه وسلم: (أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ)، وقال: (أنا أفصح العرب، بيد أنّي من قريش، واسترضعت في بني سعد بن بكر).

وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام: (أَنَا مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الأُمِّيُّ، قَالَهُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، وَلا نَبِيَّ بَعْدِي، أُوتِيتُ فَوَاتِحَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِمَهُ وَجَوَامِعَهُ، وَعَلِمْتُ كَمْ خَزَنَةُ النَّارِ وَحَمَلَةُ الْعَرْشِ، وَتُجُوِّزَ بِي، وَعُوفِيتُ وَعُوفِيَتْ أُمَّتِي، فَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا مَا دُمْتُ فِيكُمْ، فَإِذَا ذُهِبَ بِي فَعَلَيْكُمْ بِكِتَابِ اللهِ، أَحِلُّوا حَلالَهُ، وَحَرِّمُوا حَرَامَهُ) [رواه أحمد في مسند المكثرين برقم /6318/، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنَ عَمْرٍو رضي الله عنه خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ يَوْماً كَالمُوَدِّعِ فَقَالَ].

ولا عجب أن يُؤتِيَهُ الله فَوَاتِحَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِمَهُ وَجَوَامِعَهُ إذ القول البليغ الفصيح أداة نصرة الحقّ وتأييده، ووسيلة الدعوة إلى الله بالحجّة البالغة، والحكمة البيّنة، والموعظة الحسنة، وهل يُتصوَّر أو يُعقَل أو يُقبَل: أن يكون الباطل أقوى حجّةً، وأفصح بياناً من دعاة الحقّ، الذين اصطفاهم الله لوحيه وتبليغ رسالاته!؟

وقد أجمع العلماء والأدباء، وأئمّة اللغة المَصاقِع على أنّ فصاحة النبيّ صلى الله عليه وسلم وبلاغته ما فوقها إلاّ بيان القرآن وإعجازه:

يقول إمام نحاة البصرة، علاّمة الأدب، وناقد الشعر يونس بن حبيب: " ما جاءنا عن أحد من روائع الكلام ما جاءنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " [الجاحظ في البيان والتبيين، 2/19].

ويقول الإمام الزمخشريّ في مطلع كتابه: " الفائق في غريب الحديث ": " هذا اللسان العربيّ كأنّ الله عزّت قدرته مخضه وألقى زبدته على لسان محمّد عليه وآله أفضل صلاة، وأوفر سلام، فما من خطيب يقاومه إلاّ نكص مفكّك الرجل، وما من مصقع يناهزه إلاّ رجع فارغ السجل، وما قرن بمنطقه منطق إلاّ كان كالبرذون مع الحصان المطهّم، ولا وقع من كلامه شيء في كلام الناس إلاّ أشبه الوضح في نقبة الأدهم ".

ويقول القاضي عياض بن موسى اليحصبيّ السبتيّ: " وأمّا فصاحة اللسان، وبلاغة القول، فقد كان النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم من ذلك بالمحلّ الأفضل، والموضع الذي لا يجهل، سلاسة طبع، وبراعة منزع، وإيجاز مقطع، ونصاعة لفظ، وجزالة قول، وصحّة معان، وقلّة تكلّف ".

لقد " أوتي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم، وخصّ ببدائع الحكم، وعلّم ألسنة العرب، فكان يخاطب كلّ أمّة منها بلسانها، ويحاورها بلغتها، ويباريها في منزع بلاغتها، حتّى كان كثير من أصحابه يسألونه في غير موطن عن شرح كلامه، وتفسير قوله، ومن تأمّل ذلك وسبره، علم ذلك وتحقّقه " [الشفا 1/177/].

ويقول الإمام ابن الأثير في مقدّمة كتابه: " النهاية في غريب الحديث والأثر ": " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أفصح العرب لساناً، وأوضحهم بياناً، وأعذبهم نطقاً، وأسدّهم لفظاً، وأبينهم لهجة، وأقومهم حجّة، وأعرفهم بمواقع الخطاب، وأهداهم إلى طرق الصواب، تأييداً إلهيّاً، ولطفاً سماويّاً، وعناية ربّانيّة، ورعاية روحانيّة، حتّى لقد قال عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه، وسمعه يخاطب وفد بني نهد: " يا رسول الله نحن بنو أب واحد، ونراك تكلّم وفود العرب بما لا نفهم أكثره؟! "، فقال صلى الله عليه وسلم: (أدّبني ربّي فأحسن تأديبي، وربّيت في بني سعد)، فكان صلى الله عليه وسلم يخاطب العرب على اختلاف شعوبهم وقبائلهم، وتباين بطونهم وأفخاذهم وفصائلهم، كلاًّ منهم بما يفهمون، ويحادثهم بما يعلمون، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أنْ أخاطب الناس على قدر عقولهم)، فكأنّ الله عزّ وجلّ قد أعلمه ما لم يكن يعلمه غيره من بني أبيه، وجمع فيه من المعارفِ ما تفرّق، ولم يوجد في قاصي العرب ودانيه.. " [النهاية في غريب الحديث والأثر 1/4/.].

ويقول الدكتور عصام قصبجي: " فإذا كان البليغ من يؤلّف بين نور القلب ونور اللسان، فلا يكون ما يقوله كلاماً من الكلام، وإنّما يكون روحاً من الروح، ولا يكون حروفاً تنظم، وإنّما يكون قلوباً تلهم، فذلكم هو الرسول الأفصح الأبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم: تكلّم فأوجز، وأشار فأوحى، وكنّى فأوضح، وأومأ فأعلم، ورمز فألهم، وشبّه فأحكم. فليت شعري أين الشعر أم أين السحر من حديث كأنّه تسبيح الفلك، أو ترانيم الوجود، ينساب في الأفهام قبل الأسماع، وفي القلوب قبل الأفهام! طوبى لقلب أشرب برد حديثه كوثراً عذباً، حتّى عرج على إيقاع الغبطة إلى سدرة المنتهى " [نقلاً عن كتاب: " في ظلال الحديث النبويّ " ص/16/ للدكتور نور الدين عتر].

أجل، لقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم أبلغ العرب قاطبة، وأفصح من نطق بالضاد، وعلّم العباد، ولكنّ هذه الحقيقة البدهيّة تحتاج إلى بسط بيانها، واستشعار حقيقتها، واستجلاء طرف من أسرارها، وقد تحدّث عن بعض حقائقها وأسرارها أديب العربيّة مصطفى صادق الرافعيّ فقال:

" هذه هي البلاغة الإنسانيّة التي سجدت الأفكار لآيتها، وحسرت العقول دون غايتها، لم تصنع، وهي من الإحكام كأنّها مصنوعة، ولم يتكلّف لها، وهي على السهولة بعيدة ممنوعة.

" ألفاظ النبوّة يعمرها قلب متّصل بجلال خالقه، ويصقلها لسان نزل عليه القرآن بحقائقه، فهي إن لم تكن من الوحي الجليّ، ولكنّها جاءت من سبيله.. محكمة الفصول حتّى ليس فيها عروة مفصولة، وكأنّما هي في اختصارها وإفادتها نبض قلب يتكلّم، وإنّما هي في سموّها وإجادتها مظهر من بلاغته وفصاحته صلى الله عليه وسلم.. إن خرجت في الموعظة قلت: أنين من فؤادٍ مقروح، وإن راعت بالحكمة قلت: صورة بشريّة من الروح.. وهي البلاغة النبويّة، تعرف الحقيقة فيها كأنّها فكر من أفكار الخليقة، وتجيء بالمجاز الغريب، فترى من غرائبه أنّه مجاز في حقيقة، وهي من البيان في إيجازٍ، تتردّد فيه عين البليغ فتعرفه مع إيجاز القرآن فرعين.. على أنّه سواء في سهولة إطماعه، وفي صعوبة امتناعه، إن أخذ أبلغ الناس في ناحيته لم يأخذ بناصيته، وإن أقدم على غير نظرٍ فيه رجع مبصراً، وإن جرى في معارضته انتهى مقصّراً " [إعجاز القرآن والبلاغة النبويّة، ص/312/ باختصار يسير].

وقد حاول الرافعيّ استجلاء بعض جوانب الفصاحة النبويّة، واكتشاف بعض أسرارها، على أنّ الإحاطة بذلك ليست في وسع بشر، ويبقى الباب مفتوحاً لكلّ أديب مجتهد، ليدلي بدلوه، يقول رحمه الله:

" أمّا فصاحته صلى الله عليه وسلم فهي من السمت الذي لا يؤخذ فيه على حقّه، ولا يَتعلّق بأسبابه متعلّق، فإنّ العرب وإن هذّبوا الكلام وحذقوه، وبالغوا في إحكامه وتجويده، إلاّ أنّ ذلك قد كان منهم عن نظر متقدّم، ورويّة مقصودة، وكان عن تكلّف يُستعان له بأسباب الإجادة التي تسمو إليها الفطرة اللغويّة فيهم، فيشبه أن يكون الكلام مصنوعاً مقدّراً، على أنّهم مع ذلك لا يسلمون من عيوب الاستكراه والزلل والاضطراب، ومن حذفٍ في موضع إطناب، وإطناب في موضع، ومن كلمة غيرها أليق، ثمّ هم في باب المعاني ليس لهم إلاّ حِكمة التجرِبة، وإلاّ فضل ما يأخذ بعضهم عن بعض، قلّ ذلك أو كثر، والمعاني هي التي تعمر الكلام، وتستتبع ألفاظه، وبحسبها يكون ماؤه ورونقه، وعلى مقدارها، وعلى وجه تأديتها يكون مقدار الرأي فيه، ووجه القطع به ".

" بيد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفصحَ العرب، على أنّه لا يتكلّفُ القولَ، ولا يقصد إلى تزيينه، ولا يبغي إليه وسيلة من وسائل الصنعة، ولا يجاوز به مقدار الإبلاغ في المعنى الذي يريده، ثمّ لا يعرض له في ذلك سقط، ولا استكراه، ولا تستزلّه الفجاءة، وما يبده من أغراض الكلام، عن الأسلوب الرائع، وعن النمط الغريب، والطريقة المحكمة، بحيث لا يجد النظر إلى كلامه طريقاً، يتصفح منه صاعداً أو منحدراً، ثمّ أنت لا تعرف له إلاّ المعاني التي هي إلهام النبوّة، ونتاج الحكمة، وغاية العقل، وما إلى ذلك مما يخرج به الكلام، وليس فوقه مقدار إنسانيّ من البلاغة، والتسديد، وبراعة القصد، والمجيء في كلّ ذلك من وراء الغاية.

وإنّ كلامه صلى الله عليه وسلم لكما قال الجاحظ: " هو الكلام الذي قلّ عدد حروفه، وكثر عدد معانيه، وجَلَّ عن الصَّنعة، ونُزِّه عن التكلف.. استعمل المبسوطَ في موضع البسط، والمقصورَ في موضع القصر، وهَجَر الغريبَ الوحشيَّ، ورغِبَ عن الهجين السُّوقيّ، فلم ينطِقْ إلاّ عن مِيراثِ حكمَةٍ، ولم يتكلَّم إلاّ بكلامٍ قد حُفَّ بالعصمة، وشُيِّد بالتأييد، ويُسِّرَ بالتوفيق، وهذا الكلامُ الذي ألقَى الله المحبّةَ عليه، وغشَّاهُ بالقَبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة، وبَيْن حُسنِ الإفهام، وقلّة عدد الكلام، مع استغنائه عن إعادته، وقِلّةِ حاجة السامع إلى معاوَدته، لم تسقط له كلمة، ولا زَلّت به قَدَم، ولا بارَتْ له حجَّة، ولم يَقُم له خَصم، ولا أفحمه خطيب، بل يبذُّ الخُطَبَ الطِّوال بالكلام القِصير، ولا يَلتمِس إسكاتَ الخصم إلاّ بما يعرفه الخصم، ولا يحتجُّ إلاّ بالصِّدق، ولا يطلب الفَلْج إلاّ بالحق، ولا يستعين بالخِلابة، ولا يستعمل المؤارَبة، ولا يهمِز، ولا يَلْمِز، ولا يُبْطِئُُ، ولا يَعْجَل، ولا يُسْهِب، ولا يَحْصَر، ثم لم يَسْمع الناسُ بكلامٍ قَطّ أعمَّ نفعاً، ولا أصَدَق لفظاً، ولا أعدلَ وزناً، ولا أجملَ مذهباً، ولا أكرَمَ مطلباً، ولا أحسنَ موقعاً، ولا أسهلَ مخرجاً، ولا أفصحَ عن معناه، ولا أبين عن فحواه، من كلامه صلى الله عليه وسلم.. ولعلّ بعض من لم يتّسع في العلم، ولم يعرف مقادير الكلم يظنّ أنّا قد تكلّفنا له في الامتداح والتشريف، ومن التزيين ما ليس عنده، ولا يبلغه قدره، كلاّ، والذي جرّم التزيّد عند العلماء، وقبّح التكلّف عند الحكماء، وبهرج الكذّابين عند الفقهاء، لا يظنّ هذا إلاّ من ضلّ سعيه.. ".

ولا نعلم هذه الفصاحة قد كانت له صلى الله عليه وسلم إلاّ توفيقاً من الله وتوقيفاً، إذ ابتعثه للعرب، وهم قوم يقادون من ألسنتهم، ولهم المقامات المشهورة في البيان والفصاحة، ثم هم مختلفون على ذلك في تفاوت ما بين طبقاتهم في اللغات، وعلى اختلاف مواطنهم، فمنهم الفصيح والأفصح، ومنهم الجافي والمضطرب، ومنهم ذو اللوثة والخالص في منطقه، إلى ما كان من اشتراك اللغات، وانفرادها بينهم، وتخصص بعض القبائل بأوضاع وصيغ مقصورة عليهم، لا يساهمهم فيها غيرهم من العرب، إلاّ من خالطهم، أو دنا منهم دنو المأخذ.

فكان صلى الله عليه وسلم يعلم كلّ ذلك على حقّه، كأنّما تكاشفه أوضاع اللغة بأسرارها، وتبادره بحقائقها، فيخاطب كلّ قوم بلحنهم، وعلى مذهبهم، ثم لا يكون إلاّ أفصحهم خطاباً، وأسدّهم لفظاً، وأبينهم عبارة، ولم يعرف ذلك لغيره من العرب، ولو عرف لقد كانوا نقلوه، وتحدثوا به، واستفاض فيهم.

ومثل هذا لا يكون لرجل من العرب إلاّ عن تعليم وتلقين، أو رواية عن أحياء العرب، حيّاً بعد حيّ، وقبيلاً بعد قبيل، حتّى يفلي لغاتهم، ويتتبّع مناطقهم، مستفرغاً في ذلك متوفّراً عليه، وقد علمنا أنّه صلى الله عليه وسلم لم يتهيّأ له شيء ممّا وصفنا، ولا تهيّأ لأحد من سائر قومه على ذلك الوجه، علماً ليس بالظنّ، ويقيناً لا مساغ للشبهة فيه، إذ ترادفت به طرق الأخبار المتواترة، وكان مصداقه من أحوال العرب أنفسهم، فما عرف أنّ أحداً منهم تقصص اللغات، وحفظ ما بينها من فروق الأوضاع، واختلاف الصيغ، وأنواع الأبنية، واستقصى لذلك، يستظهر به عليهم، أو ينتحله فيهم، بل كانت هذه الأسباب مقطوعة منهم، لا تجد في الطبيعة ما يمتدّ له بها، أو ينميها، أو يجعل لها عندهم شأناً، أو يبغيها حاجة من الحاجات الباعثة عليها، فليس إلاّ أن يكون ما خصّ به النبيّ صلى الله عليه وسلم من ذلك قد كان توفيقاً وإلهاماً من الله، أو ما هذه سبيله، مما لا ننفذ في أسبابه، ولا نقضي فيه بالظنّ، فقد علّمه الله من أشياء كثيرة، ما لم يكن يعلم، حتّى لا يعيا بقوم إن وردوا عليه، ولا يحصر إن سألوه، ولا يكون في كل قبيل إلاّ منهم، لتكون الحجّة به أظهر، والبرهان على رسالته أوضح، وليعلم أنّ ذلك له خاصّة من دون العرب، فهو يفي بهم في هذه الخصلة البيّنة، كما يفي بهم في خصال أخرى كثيرة. فهذه واحدة.

وأمّا الثانية؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم في اللغة القرشيّة التي هي أفصح اللغات وألينها بالمنزلة التي لا يدافع عليها، ولا ينافس فيها، وكان من ذلك في أقصى النهاية، وإنما فضلهم بقوّة الفطرة، واستمرارها، مع صفاء الحسّ، ونفاذ البصيرة، واستقامة الأمر كلّه، بحيث يصرّف اللغة تصريفاً، ويديرها على أوضاعها، ويشقّق منها في أساليبها ومفرداتها، ما لا يكون لهم إلاّ القليل منه، لأنّ القوة على الوضع والكفاية في تشقيق اللغة، وتصاريف الكلام، لا تكون في أهل الفطرة مزاولة ومعاناة، ولا بعد نظر فيها، وارتياض لها، إنّما هي إلهام بمقدار، تهيّء له الفطرة القوّية، وتعين عليه النفس المجتمعة، والذهن الحادّ، والبصر النفّاذ، فعلى حسب ما يكون للعربيّ في هذه المعاني، تكون كفايته، ومقدار تسديده في باب الوضع.

وليس في العرب قاطبة من جمع الله فيه هذه الصفات، وأعطاه الخالص منها، وخصّه بجملتها، وأسلس له مأخذها، وأخلص له أسبابها كالنبيّ صلى الله عليه وسلم، وماذا عسى أن يكون وراء ذلك في باب الإلهام، وجمام الطبيعة، وصفاء الحاسّة، وثقوب الذهن، واجتماع النفس، وقوّة الفطرة، ووثاقة الأمر كلّه بعضه إلى بعض.

ولا يذهبنّ عنك أنّ للنشأة اللغويّة في هذا الأمر ما بعدها، وأنّ أكبر الشأن في اكتساب المنطق واللغة للطبيعة والمخالطة والمحاكاة، ثمّ ما يكون من سموّ الفطرة وقوّتها، فإنّما هذه سبيله: يأتي من ورائها، وهي الأسباب إليه، وقد نشأ النبيّ صلى الله عليه وسلم وتقلّب في أفصح القبائل، وأخلصها منطقاً، وأعذبها بياناً، فكان مولده في بني هاشم، وأخواله في بني زهرة، ورضاعه في سعد بن بكر، ومنشؤه في قريش، ومتزوّجه في بني أسد، ومهاجرته إلى بني عمرو، وهم الأوس والخزرج من الأنصار، لم يخرج عن هؤلاء في النشأة، واللغة، ولقد كان في قريش وبني سعد وحدهم ما يقوم بالعرب جملة، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (أنا أفصح العرب، بيد أني من قريش، ونشأت في بني سعد بن بكر) [هم بنو سعد بن بكر (وقد ذكرهم المؤلّف في الجزء الأول في " أفصح القبائل ")، وكانوا من العرب الضاربة حول مكة، وكان أطفال القرشيّين يتبدّون فيهم، وفي غيرهم يطلبون بذلك نشأة الفصاحة، ولا يزال كبراء مكة إلى اليوم يرسلون أحداثهم إلى أماكن هذه القبائل من البادية، وخاصّة إلى قبيلة عدوان في شرق الطائف، وهي قريبة من بني سعد، وإنّما يطلبون بذلك إحكام اللهجة العربيّة، وصحّة النشأة، وحريّة النزعة، وما إليها مما هو الأصل في هذه العادة، يتوارثونها في التربية العربيّة من قديم.. والرواة جميعاً على أن بني سعد بن بكر خصّوا من بين قبائل العرب بالفصاحة، وحسن البيان].

وهو قول أرسله في العرب جميعاً، والفصاحة أكبر أمرهم، والكلام سيّد عملهم، فما دخلتهم له حميّة، ولا تعاظمهم، ولا ردّوه، ولا غضّوا منه، ولا وجدوا إلى نقضه سبيلاً، ولا أصابوا للتهمة عليه طريقاً، ولو كان فيهم أفصح منهم لعارضوه به، ولأقاموه في وزنه، ثمّ لجعلوا من ذلك سبباً لنقض دعوته، والإنكار عليه، غير أنّهم عرفوا منه الفصاحة على أتمّ وجوهها، وأشرف مذاهبها، ورأوا له في أسبابها ما ليس لهم، ولا يتعلّقون به، ولا يطيقونه، وأدنى ذلك أن يكون قوي العارضة، مستجيب الفطرة، ملهم الضمير، متصرّف اللسان، يضعه من الكلام حيث شاء، لا يستكره في بيانه معنى، ولا يندّ في لسانه لفظ، ولا تغيب عنه لغة، ولا تضرب له عبارة، ولا ينقطع له نظم، ولا يشوبه تكلّف، ولا يشقّ عليه منزع، ولا يعتريه ما يعتري البلغاء في وجوه الخطاب، وفنون الأقاويل، من التخاذل، وتراجع الطبع، وتفاوت ما بين العبارة والعبارة، والتكثير لمعنى بما ليس منه، والتحيّف لمعنى آخر بالنقص فيه، والعلوّ في موضع، والنزول في موضع، إلى أمثال أخرى لا نرى العرب قد أقرّوا له بالفصاحة إلاّ وقد نزّه صلى الله عليه وسلم عن جميعها، وسلم كلامه منها، وخرج سبكه خالصاً لا شوب فيه، وكأنّما وضع يده على قلب اللغة ينبض تحت أصابعه، ولو هم اطلعوا منه على غير ذلك، أو ترامى كلامه إلى شيء من أضداد هذه المعاني، لقد كانوا أطالوا في ردّ فصاحته، وعرّضوا، ولكان ذلك مأثوراً عنهم، دائراً على ألسنتهم، مستفيضاً في مجالسهم، ومناقلاتهم، ثمّ لردّوا عليه القرآن، ولم يستطع أن يقوم لهم في تلاوته وتبيينه، ثمّ لكان منهم من يعيب عليه في مجلس حديثه، ومحاضرة أصحابه، أو ينتقص أمره، ويغض من شأنه، فإنّ القوم خلّص، لا يستجيبون إلاّ لأفصحهم لساناً، وأبينهم بياناً، وخاصّة في أول النبوة، وحدثان العهد بالرسالة، فلمّا لم يعترضه شيء من ذلك، وهو لم يخرج من بين أظهرهم، ولا جلا عن أرضهم، ورأينا هذا الأمر استمرّ على سنّته، واطّرد إلى غايته، وقام عليه الشاهد القاطع من أخبارهم، علمنا قطعاً وضرورة أنّه صلى الله عليه وسلم كان أفصح العرب، وافياً بغيره، كافياً من سواه، وأنّه في ذلك آية من آيات الله لأولئك القوم، و: {... كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُون}[البقرة:187] " [" تاريخ آداب العرب " للرافعيّ 2/281 ـ 287/].

للمقالة تتمة في الجزء التالي.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين