تأملات تربوية في وصايا لقمان الحكيم (6)

5-استعمال أسلوب الحوار والسؤال:

إنَّ ابن لقمان سأل أباه حينما رأى البحر المتلاطم الأمواج فقال: يا أبتاه! لو وقعت حبة في هذا البحر أيعلمها الله تعالى؟ فأجاب لقمان بقوله: {يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير}، فأجاب إجابة دقيقة، فذكر بدل الحبة مثقال حبة من خردل وهي غاية في المبالغة في الصغر، كما ذكر بما يدل عليه بطريق أولى فقال: (يأت بها الله) أي قادر على أن يأتي بها.

وهنا إشارة واضحة إلى أهمية السؤال في اكتساب العلم والمعرفة، أو فيما استعصى واستشكل فهمه ومعرفته والإحاطة به.

إنَّ السؤال في العمليَّة التعليمية من أهم التقنيات التدريسية التي ركز عليها الفكر التربوي الإسلامي عند جملة من العلماء الذين تصدوا لهذا الجانب، باعتباره شكلا من أشكال التواصل بين المفيد والمستفيد. كما يعتبر هذا الأسلوب التربوي من أهم ملامح التفاعل بين المتعلم أو الطفل؛ والمعلم أو المربي، ومن خلاله يستطيع أن يقيس فهم المتعلم واستيعابه.

ويجب على المتربّي أن يأخذ الدرس والعبرة من هذا السلوك فيلتزم بأدب السؤال مع مدرسه ومربيه. وأدب السؤال يقتضي من المتعلم الاستعداد للسماع، ولا يتأتى له هذا السماع إلا إذا التزم الصمت بكل ما يحمله الصمت من دلالات، من أجل استيعاب المسموع، ولأجل التفكير والتفكُّر، لأن السماع هو، أيضا، إحدى وسائل التعلم. ولعل هذا ما جرى بين الابن وأبيه لقمان.

6-إعطاء البديل المناسب للسلوك المنهي عنه:

بعدما نهى في لقمان ابنه عن الخلق الذميم من التكبر ونحوه؛ رسم له الخُلُق الكريم الذي ينبغي أن يستعمله، فقال: {واقصد في مشيك}..، و{واغضض من صوتك}.... والمراد من ذلك كله هو غرس خلق التواضع والوقار والسكينة في نفس المسلم، لذا يجب على المربين أن يتأسوا بهذا الأسلوب التربوي الرائع، ويوجدوا البدائل المقبولة لكل المنهيات المستهجنة. ومن فضل الله تعالى أن ديننا يقوم على ذلك، فإنه لم ينه عن شيء إلا أتى بأحسن وأفضل، ودعا المسلمين إليه، وحضهم على الالتزام به.

7-استعمال لغة مفهومة وواضحة في مخاطبة الأطفال:

وهذا ما فعله لقمان في وعظه لابنه حينما تحدث عن الأصوات المرتفعة الكريهة شبهها بأصوات الحمير، وذلك لأن أصوات الحمير مفهومة جدا للأطفال ومزعجة، فاستخدم وسيلة التقبيح الواضحة والمفهومة لديهم.

إن توظيف هذا الأسلوب التربوي يتطلب من المدرس أن يراعي في خطابه مستوى المتعلم القبلي بالنسبة للغة والتعابير التي يستعملها، إذ هي المادة المعرفية، حتى يستطيع أن يخاطبه على قدر فهمه وعقله ومخزونه المعرفي، لأن التواصل الناجح مبني على وضوح الخطاب بين المرسِل والمرسَل إليه.

8-أسلوب الإقناع:

من نماذجه أن لقمان الحكيم حينما كان يورد الأمر أو النهي کان يتبعه بالشرح والتبرير.. مثلاً نجد لقمان يحذر ابنه من الشرك ويبرره مباشرة بكونه أعظم الظلم. ثم يعظ ابنه بألا يصعر خده للناس، وبألا يتكبر، فيبين له أن ذلك السلوك يمقته الله تعالى بقوله: {إن الله لا يحب كل مختال فخور}. ولما أمره بالغض من صوته والاعتدال فيه، أتبع ذلك بقوله: {إن أنكر الأصوات لصوت الحمير}، حتى تعاف النفس هذا الصوت، وتفر منه، فيتحرى الإنسان عدم التشبه بالحمار في رفع الصوت. وقد كان، قديما، يعد في مساوئ الآداب أن يجري ذكر الحمار في مجلس قوم من أولي المروءة؛ فكيف للمرء أن يحاكيه في شيء من أفعاله؟!

إنَّ هذه الوسائل الإقناعية ليست محصورة فيما ذكر، بل هي متنوعة تشمل الوسائل العقلية والعاطفية والمادية، وكل الوسائل المعاصرة، لذا، فمن الضروري أن يهتم بها المربون والمعلمون، ويتمكنوا منها جيداً، ويراعوا فيها عقول المتربين والمتعلمين حتى تكلل أعمالهم التربوية والتعليمية بالنجاح والتوفيق.

9-أسلوب التدرج

نلحظ هذا الأسلوب من خلال تقديم لقمان وصاياه لابنه، حيث تدرج من تثبيت العقيدة المبنية على توحيد الله والشكر له، ثم الدعوة إلى البر بالوالدين والشكر لهما. أما الخطوة التالية فهي التوجه إلى الله بالصلاة، والتوجه إلى الناس بالدعوة إلى الله تعالى، والصبر على تكاليف الدعوة ومتاعبها. بعد ذلك ينتقل إلى ذكر الأخلاق التي يجب أن يلتزم بها الداعي إلى الله، وتتمثل في خلق التواضع والسكينة والوقار، والقصد في المشي، والغض من الصوت... وهي كما يلاحظ ثمار للإيمان الصادق والعبادة الخالصة.

إن هذا الأسلوب الذي يعتمد على التدرج في الخطاب، وتقديم المادة الخطابية كيفما كان نوعها وطبيعتها؛ حري بكل مربٍّ ومدرس أن يسلكه في حياته المهنية، ويهتدي به في عمليته التعليمية والتربوية، فهو أجدى وأنجع في التواصل مع الأطفال والمتعلمين، وله آثار نافعة وفعالة في تحصيلهم العلمي والمعرفي. فالمادة العلمية أو المعرفية أو الأخلاقية المقدمة للأطفال والمتعلمين ينبغي أن تخضع لهذا الأسلوب التربوي القمين. وقد أكدت الدراسات التربوية والنفسية الحديثة مدى نجاعة هذه التقنية التربوية في عملية التواصل، وتدريس التلاميذ والمتعلمين، ومن يطلع على تراثنا التربوي وما ألفه علماؤنا المسلمون في هذا المجال يجده زاخرا بالإشارات اللطيفة، والشواهد من الكتاب والسنة، ومن مجتمع الصحابة رضوان الله عليهم، كلها تلح على ضرورة نهج أسلوب التدرج، وتؤكد عليه، وكفى ذلك شاهدا على فعالية هذا الأسلوب وقيمته.

وأخيراً؛ فهذه وصايا قد حكاها الله تعالى عن لقمان الحكيم، ليمتثلها الناس ويقتدوا بها، ويجعلوها نبراسا متميزا في حياتهم. ثم إن الوعظ الذي يقدمه الوالد، أو المربي ينبغي أن يكون شاملا لجميع ما يحتاج إليه المتربي من خلال خطة زمنية، ومن خلال فقه الأوليات، ولذلك شملت وصايا لقمان لابنه: الجانب العقدي، والجانب الأخلاقي، والجانب العملي.

ولا ريب أن التربية، تقتضي مؤهلات خاصة، أهمها قوة التحصين بالإيمان، وقوة الدفاع بالاستقامة، واقتفاء وسائل الحكمة والموعظة الحسنة. ولن يكون المربي مؤهلا لهذا إلا إذا استطاع أن يكون حكيما في وعظه وإرشاده، ومثالا في احتفاظه بهدوئه واتزانه الانفعالي في عمله التربوي والتوجيه والإرشادي، ونموذجا طيبا للناس بسلوكه العام، وتصرفاته في المواقف المختلفة. وهو بتقديمه هذا النموذج الطيب يدفع الناس إلى التحلي بكريم الصفات وجميل الأخلاق، اقتداء به ومنهجه، ولا شك أن للقدوة في هذا المجال أثرا لا ينكر.

إضافة إلى ما سبق، فإنَّ كلَّ مربٍّ أو داعٍ إلى الله هو في حاجة إلى تدبر الأسلوب القرآني العجيب الذي تولى عرض هذه الوصايا والمواعظ وهو يخاطب الفطر والقلوب والألباب.

مجلة الأدب الإسلامي، العدد: 111

الحلقة السابقة هــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين