تأملات تربوية في وصايا لقمان الحكيم (3)

5- الإيمان بقدرة الله تعالى ودوام مراقبته: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} (۳۷).

يمضي السياق في حكاية وصايا لقمان لابنه، فتجيء الوصية الثانية لتقرر عظمة علم الله ودقته وشموله وإحاطته وقدرته. وفي ذلك تصوير رائع يرتعش له الوجدان البشري وهو يتابعه في المجال الكوني الفسيح، فلقمان يؤكد لابنه أن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علما، فهو بذلك يريد أن يغرس في نفسه الثقة بعدالة الجزاء لا يفلت منه مثقال حبة من خردل، وفي نفس الوقت ينبهه إلى دوام مراقبته تعالى على نفسه، فإنه يطلع على خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا تخفى عليه الأشياء وإن كانت دقيقة أو لطيفة أو ضئيلة. فهو تعالی خبير بدبيب النمل الأسود في الليل البهيم.

قال رسول الله: (لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء، ليس لها باب ولا كوة، لخرج عمله للناس كائنا ما کان). رواه احمد (17/329) وقال الأرناؤوط: إسناده ضعيف، وروي، في هذا الصدد، أن ابن لقمان سأل أباه عن الحبة تقع في سفل البحر أيعلمها الله؟ فراجعه لقمان بهذه الآية. وقيل: المعنى أنه أراد بالأعمال المعاصي والطاعات، أي: أن تلك الحسنة أو الخطيئة إن كانت مثقال حبة يأت بها الله(۳۹).

إن هذا الأسلوب التربوي الرائع الذي يربط فيه الأب ابنه بخالقه، ويصور له مؤكدا أن لا مناص من قدرة الله تعالى الذي لا يعجزه أي شيء، خليق بكل أب أو مربٍّ أن يقتدي به، ويجعله نصب عينيه أبدا في تربية الأطفال وتهذيبهم. فإذا نشأ الطفل على هذا الخلق وترعرع عليه، فإن ثمرته هي أن تتأصل فيه مراقبة الله تحفظه من الزلل والسقوط في براثن الرذائل وسفاسف الأعمال. والعالم نفسه هو أولى الناس تخلقا بهذا الأدب الرفيع، وإلا صار على النقيض من ذلك بفقدانه. يقول ابن القيم: دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه، فاستدامته لهذا العلم واليقين هي المراقبة، وهي ثمرة علمه بأن الله سبحانه رقيب عليه..(40). لذلك أكد المفكرون المسلمون على ضرورة أن يتخلق بهذا الخلق كل من يتصدى للتدريس والتعليم والتربية سواء كان عالما أو شيخا أو أستاذا أو معلما، فهم القدوة التي تنعقد عليها عيون الأطفال وطالبو العلم. فدوام المراقبة الله تعالى في السر والعلن، والمحافظة على خوفه، أي العالم، في جميع حركاته وسكناته، وأقواله وأفعاله، فإنه أمين على ما أودع من العلوم وما منح من الحواس والفهوم(41)

وهذا يتحصل في الموعظة ترجية وتخويفاً مضافاً ذلك إلى تبيين قدرة الله تعالی.

6- إقامة الصلاة: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ} (42). يشير اسم الصلاة إلى أن فيها صلة بين الإنسان وربه، لذا يوصي لقمان ابنه بإقامة الصلاة بحدودها وفروضها وأوقاتها، والتوجه بها إلى الله تعالی خالصة، وينبهه إلى عظم هذه العبادة. كما يريد أن يحسسه بعظم هذه الطاعة. فالمرء عندما يكون واقفا في الصلاة بجسمه الضئيل الضعيف خاشعا متضرعا بين يدي الله عز وجل الذي له ملكوت كل شيء، هذا الوقوف يمده بطاقة روحية تبعث فيه الشعور بالصفاء الروحي، والاطمئنان القلبي، والأمن النفسي.

يقول الطبيب توماس هایسلوب: إن الصلاة أهم أداة عرفت حتى الآن لبث الطمأنينة في النفوس، وبث الهدوء في الأعصاب (43).

إن تربية الطفل منذ الصغر على إقامة الصلاة وتحبيبها إليه، وحثه على مواظبتها وإتيانها في أحسن وجه، تعويد له على دوام الاتصال بخالقه، واستمداد العون والبركة منه دون سواه. فيصير ذلك لديه سلوكا اعتیاديا في السر والعلن، ظاهرا وباطنا. وثمرة ذلك كله تكمن في حبه للصلاة وترجمتها إلى سلوك عملي ينأی به عن الفحشاء من القول والفعل، والتحلي بالأخلاق الفاضلة، والحرص على أن يجده الله حيث يحب، ويفقده حيث يكره.

هذا درس رائع قدمه لقمان لولده، وهو نموذج يجب أن يحتذي به كل من يشتغل في حقل التربية والتعليم، فلا يكتفي بضخ المعرفة في عقول الصبيان والأطفال والطلبة، بل من الضروري التركيز على الالتزام بالطاعات، وفي مقدمتها الصلاة. فإذا لم يعوَّد الطفل على أدائها، والحرص عليها، وفهمها على وجهها الصحيح؛ نما وشب على الاستخفاف بباقي الطاعات والعبادات الأخرى، وهذه طامة كبرى. فلقمان الحكيم قد كان مدركا تمام الإدراك خطورة ذلك، لأنه مباشرة بعد تقريره لمبدأ التوحید، توحيد الله، وتنبيهه إلى قدرة الله تعالى التي لا تكل ولا تغفل أي شيء، وهو الفاصل بين عباده يوم الحساب، أمر ابنه بالصلاة، لأنها خير وسيلة، وأنجع أداة للاتصال بالخالق مباشرة دون حجاب، وبها ينشرح صدره، ويلين قلبه، ويطمئن فؤاده، وتسكن جوارحه، ويصفو عقله، ويصحو وجدانه. حبذا لو وعى ذلك علماؤنا وشيوخنا ومفكرونا وأساتذتنا ومعلمونا وهم يمارسون مهامهم التربوية والتعليمية.

مجلة رابطة الأدب الإسلامي، العدد: 111

يتبع...

الحلقة السابقة هــنا

الهوامش:

37- سورة لقمان، الآية16.

38- مسند الإمام أحمد، وحسنه الهيثمي في المجمع.

39- الجامع لأحكام القرآن، القرطبي 16/477.

40- مدارج السالكين، ابن القيم، 2/67-68.

41- تذكرة السامع والمتكلم، ابن جماعة، ص15.

42- سورة لقمان، الآية17.

43- دع القلق وابدأ الحياة، دیل کارینجي، ص359-360.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين