فيتامين

إننا على مفترق طريق، يصرّحُ بذلك العدوّ والصّديق، لذلك علينا أن نسرع في الاختبار، فحصوننا مهدّدةٌ من الداخلِ بالانهيار، وأسوارنا معرّضةٌ من الخارج للدمار!

كلُّ حدثٍ حولنا يحتاجُ إلى قولةِ حكيمٍ، يتبنى لنا السليمَ من السّقيم. وكلُّ موقف يجري في عالمنا يتطلب رجاحةَ عقل وحِلْمَ حليمٍ عليم.

في طبّ الأجساد، يَعرِفُ كثيرون مدى أهمية "فيتامين دال"، فهو فيتامين يصنعهُ جسم الإنسان عندَ التعرّض لأشعة الشمس، لذلك فهو يُسمى عند المختصين بفيتامين أشعة الشمس، وهو محفزّ أساسي لتنشيط جهاز المناعة، ومستويات كافية منه تؤدي إلى تأخر الشيخوخة وفق دراسات واختبارات، ونقصه يتسبب بلين العظام وهشاشتها.

هذا في طب الأبدان، فماذا عن الأرواح والعقول؟! ألها "فيتامين دال" أيضًا؟ ما هي عناصره؟! ما هو دوره؟ وهل هو مهم؟ وكيف يتجلى فينا نقصُهُ؟!

ضمن سلسلة (فيتامين "د" لتحسين الأحوال)، سأقدم جرعات روحية وعقلية ونفسية، نتغذى بها في مسيرتنا المحفوفة بالمخاطر والصعوبات، مستعينين بالله تعالى لتغيير حالنا، وتيسير أمورنا، وتفريج كروبنا..

وإذا كان "فيتامين د" الجسدي هو فيتامين أشعة الشمس، فإن "فيتامين د" الروحي والعقلي هو فيتامين النور والضياء المستمدين من شمس الشريعة ونور الحق المبين، فهو المصباح في لجج الفتن المظلمة التي تعترينا، وهو الدليل كلما اعوجت السُّبل فينا، واختطلت علينا.

وما للين عظامنا وضعف حيلتنا وحَيْلِنا إلا علامة على نقص النور في أفهامنا، وتراجع منسوب الضياء في أرواحنا. وما هشاشة جهاز مناعتنا النفسية، وتخبطنا في مواجهة الضغوط الثقافية والأخلاقية إلا دلالة واضحة على انخفاض هذا الفيتامين في عروقنا، ومسارات تفكيرنا.

لقد هرمت أمةٌ أكثرُ من نصفها شباب، وخارت سواعدُها التي كانت تَهُدّ الشدادَ الصّعاب! لكن الأمل بالشفاء موجود، فليس منا من ييأس من رَوْحِ الرب المعبود.

وعلى هذا سنلتقي بإذن الله، محاولين أن نستعيد عناصر قوتنا من خلال إعادة تصنيع "فيتامين د" لتحسين الأحوال.

فتعالوا لنتعرف على مكونات هذا الفيتامين، والتي سأقدمها لكم تحت هذه العناوين: الدين- الدعوة- الدعاة- الدعاء- دفع السيئة بالحسنة- الدعم النفسي- الدنيا- الدار الآخرة... هذه العناصر وغيرها، مفردات تحمل بالنسبة لنا إكسير الحياة، ودعامات معنوية ومادية للاستمرار في مسيرة العطاء الدنيوية، ورحلة الجزاء الأخروية.

إن أول وأهم مكوّن من مكونات هذا الفيتامين هو عنصر الدين (فيتامين "دين")..

هو بالنسبة لنا ضروري كالماء والهواء، بل إن وجوده مؤشر على وجود الإنسان وتوازنه، نفسياً وروحياً وعقلياً واجتماعياً، فيما نقصه سبب لضياع الإنسان بين ألغاز الوجود، وتيهه بين أسئلته الكبرى..

من أين جئتُ؟

لم أتيتُ؟

إلى أين المصير؟

فمن ذا الذي يُشبع جوعة الفطرة، ويروي ظمأها، ويملأ فراغها؟!

من ذا الذي يقيم الوفاق بين مطالب الجسد وأشواق الروح؟!

من ذا الذي يعقد الوئام والانسجام والوسطية والاعتدال بين أبعاد الإنسان؟!

إننا نعاني من أعراض خطيرة، وهي تتفاقم مع الوقت، وغياب الدين عن حياتنا يعتبر جزء كبير من المشكلة، وفي استحضاره جزء كبير من الحل..

في هذا القرن العجيب ، لا زلنا نسمع من يهاجم الدين، فيقول: الدين أفيون الشعوب، وهي عبارة على قياس شعوب تحشش، وتتخدّر، فتقاتل باسم الدين، وتقتل لأجل سموه!

وعلى الرغم من صعوبة هذا الزمان، لكننا مؤمنون بأن (الدين فيتامين الشعوب، وغيابه هو آفتهم وأفيونهم)..

اقرؤوا معي، وقيسوا عليه:

قال الأستاذ: انظروا حولكم يا أولادي، هل ترون إلا الشرّ؟ كيف يرضى إله أن يحصل هذا في كونه؟ إنه إذًا إله شرير!!

فقام أحد تلاميذه سائلًا: أيها الأستاذ: هل البرد موجود؟ أجاب الأستاذ: ما هذا السؤال؟! طبعاً،البرد موجود. قال التلميذ: كلا، البرد ليس موجودًا، إن التعبير الفيزيائي الدقيق للبرد هو انخفاض درجة الحرارة أو بصيغة أخرى: البرد هو عدم وجود الحرارة.

ثم سأل أستاذه ثانيةً: وهل الظلام موجود؟

أجاب الأستاذ: بالتأكيد، الظلام موجود!

قال التلميذ: كلا، الظلام غير موجود، إن التعبير الدقيق للظلام هو انحجاب النور، أو بصيغة أخرى الظلام هو عدم وجود النور.

إذًا التعبير الدقيق لهذا الشرّ الموجود في الكون هو غياب الخير وانعدامه، ونحن مسؤولون عنه.

هذا هو تمامًا التوصيف الحقيقي لعبارة: غياب الدين هو آفة الشعوب.

الدين الذي يمنح نفوسنا الطمأنينة والسكينة، والدافع لفعل الخير، والرادع عن اقتراف الشر، الدين الذي يعقد الروابط الإنسانية، متجاوزة حدود الدم واللون، واللغة والطائفة والمنطقة، الدين الذي ينمي الشعور بالمسؤولية عن كل أقوالنا وأفعالنا تجاه أنفسنا ومجتمعنا ورّبنا، الدين الذي يعطينا الحق عند الضعف، والرجاء عند الخوف، والأمل عند اليأس، والصبر عند البأس، هو الرقيب في الخلوات، والنصوح في الملمات..

إنه هذا الدين: صلة روحية، ومدافعة عقلية، ومكابدة أخلاقية.

الدين.. هو الاسم الجامع لكل ما يُتعبّد به ربّ لطيف كريم عدل رحيم..

لكن كيف نأخذ هذا الفيتامين لتتحسن أحوالنا على مستوى العلاقة بخالق هذا الكون، ثم بمخلوقاته؟ وهل بات الدين موضةً قديمةً في زمن العلم، ويمكننا الاستغناء عنه وإبعاده عن مجالات الحياة؟ وهل يعيش من ألقى الدين وراء ظهره مرتاحاً سعيداً؟

الإجابات تجدونها في المقالة الثانية من سلسلة (فيتامين "دال" لتحسين الأحوال)، بمشيئة الله..

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين