من أعلام المدينة بشير بن سعد الأنصاري (أبو النعمان) رضي الله عنهما (1)

نسبه وكنيته:

هو: الصحابي الجليل بشير بن سعد بن ثعلبة بن الجلاس(1) بن زيد بن مالك (الأغر)(2)، بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن حارثة بن ثعلبة... إلى قحطان(3)، أبو النعمان الأنصاري الخزرجي(4).

كنيته: أبو النعمان، والنعمان - ابنه - صحابي أيضًا، وبه كان يكنيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكثيرًا ما يناديه: ((يا أبا النعمان.))(5)، فيجيبه:

((لبيك يا رسول الله...))(6).

أمه: أُنيسة بنت خليفة بن عدي بن عمرو بن امرئ القيس بن مالك الأغر، الأنصارية الخزرجية(7)، وبجدها - مالك هذا - يلتقي نسبها بزوجها: سعد بن ثعلبة.

أسرته:

وبيت بشير بن سعد رضي الله عنه من البيوتات الخزرجية الكريمة، ومن الأسر العريقة، ذات الجاه واليسار، والعز والرياسة. وقد عنيت بتربية أبنائها على فنون القتال والفروسية، وأرضعتهم لبان الحصافة والثقافة؛ لينشؤوا متفتحي العقول، حديدي الأذهان، يقرؤون ويكتبون، في عهد كانت الأمية فاشية فيه، فنبغوا شعراء نابهين، وخطباء فصحاء.

فبشير بن سعد شاعر، وأبوه شاعر، وأولاده شعراء، وزوجه: عمرة بنت رواحة (أخت عبد الله بن رواحة) شاعرة أيضًا، وأخوال أولاده شعراء؛ منهم الصحابي الأمير عبد الله بن رواحة شاعر، وأحفاد البشير وحفدته كلهم شعراء، ولأسرتهم في الشعر أنداد.

وكذلك كانت بعض البيوتات العربية؛ كبيت حسان بن ثابت الأنصاري، وبيت زهير بن أبي سلمى المزني،وغيرهم(8).

إسلامه:

لم يكن لبشير بن سعد قبل الإسلام أثر يذكر - حسب علمي وفيما وقفت عليه من المصادر التي بين يدي -؛ فلما أضاء الإسلام قلبه منذ الساعات الأُوَل لوصول سفير الإسلام الأول مصعب بن عمير إلى المدينة، برزت هذه الشخصية المتميزة فكان ((أول من أسلم من الأنصار))(9)، برزت هذه الشخصية المتميزة، وبذلك نرى أن الإسلام هو الذي صنع هذا العلم المدنيّ الفذ.

بشير بن سعد في الإسلام:

ومنذ شرح الله صدر بشير للإسلام، إلى أن اتخذه الله شهيدًا في معارك الفتوح في (عين التمر)؛ ما فتئ جنديًا مخلصًا للإسلام، يندبه الرسول صلوات الله وسلامه عليه للمعارك وقيادة الغزوات، وهو يجيب: ((لبيك يا رسول الله))، ثم ما يؤوب من غزاة إلا إلى نفير. حتى لقي ربه راضيًا مرضيًا، رضي الله عنه.

تجهز النفر الأنصار إلى مكة - قبل الهجرة - لمبايعة النبي الكريم، عليه الصلاة والسلام في العقبة، فكان بشير بن سعد على قومه. ثم عاد إلى المدينة؛ ليؤدي إلى قومه رسالة الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، فكان يتخلل جماعاتهم، يدعوهم إلى الإسلام، وكان نعم النصير لسفير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ مصعب بن عمير رضي الله تعالى عنه. فما استدار العام، حتى فشا الإسلام في المدينة، وأخذ بشير بن سعد رضي الله عنه يعد رواحله متأهبًا للقاء النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم لبيعة العقبة الثانية، مع النفر الكرام من قومه(10).

ويحظى بشير بن سعد رضي الله عنه بشرف البيعة العظيمة، ثم يرجع إلى المدينة ليتهيأ لاستقبال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتضيء المدينة بمقدم الرسول الأعظم صلوات الله وسلامه عليه(11)، فيكون بشير بن سعد مع أشراف قومه؛ مع سعد بن الربيع، وعبد الله بن رواحة وغيرهما رضي الله عنهم أجمعين في استقبال المصطفى الكريم عليه الصلاة والسلام. ويأخذ بشير بن سعد - مبادرًا سعد بن الربيع وعبد الله بن رواحة - بخطام ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرجوه النزول عليه، وموكب النبي صلى الله عليه وآله وسلم متوجه من قباء إلى المدينة. فيَبِشُّ الرسول الكريم بوجه بشير وصحبه رضي الله عنهم. ثم يدعو له ولهم، ويقول: ((خلوا سبيلها فإنها مأمورة.))(12).

وينقطع بشير بن سعد لصحبة رسول الله عليه الصلاة والسلام، لا يُغِبُّ مجلسه، ويعرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبشير منزلته، فكان يقدمه، ويَهِشُّ له، وبشير يغترف من معين النبوة الصافي، ويَبَرُّ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويطرفه بما لديه من ثمر ومتاع؛ مودة وإكرامًا، ويبادل الرسول بشيرًا الودَّ والحبَّ، فيشاركه في كل مناسبة تخصه، فلما كان ولادة ابنه النعمان، سُرَّ صلى الله عليه وآله وسلم أعظم السرور(13)، فهنأ بشيرًا، وبارك له، وحنك الوليد المحبوب - وهو ابن الإسلام البكر؛ إذ النعمان أول مولود للأنصار بعد الهجرة، ودعا له(14).

وتمضي الأيام، وبشير بن سعد رضي الله عنه ملازم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لا يقطع أمرًا أو يستأمره، ويأخذ بما يوجهه إليه؛ كما في قضية نِحْلَتِهِ وَلِيدَهُ الأثير: النعمان.

ففي رواية أخرجها البخاري عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: إن أباه أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني نحلت ابني هذا غلامًا، فقال: ((أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَ مِثْلَهُ؟)). قال: لا. قال: ((فأَرْجِعْهُ)).

وفي رواية: ((... إِنَّ أُمَّه بنتَ رَوَاحَةَ سألتني بعض الموهبة لهذا. قال: ((ألكَ ولد سواه؟)). قال: نعم. قال: فأراه قال: ((لا تشهدني على جَور))، وفي رواية: ((لا أشهد على جَور))(15).

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يتوجه إلى بشير بن سعد، يسأله عن أحوال قومه الأنصار وأمورهم؛ من غاب منهم ومن حضر، ومن أقام ومن ظعن، من ذلك: أنه لمَّا نزل قوله تعالى:  إن الله لا يحب كل مختال فخور (16) دخل ثابت بن قيس بن شماس(17) منزله، وأغلق بابه، وطفق يبكي وينتحب؛ لأنه كان يحب الجمال والشرف، وكان جهير الصوت، وفقده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فسأل عنه بشير بن سعد، فأخبره خبره، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مُطَمْئِنًا، وقال له: ((إنك لست منهم))(18).

شعره:

ويذكر ابن عساكر أن لبشير بن سعد شعرًا جيدًا، وقد استدل منه أنه قدم الشام، وآوى إلى أعمال دمشق، وأثبت قطعة من شعره، قال: إنها من قصيدة طويلة(19).

وعلى الأكثر أنه قال هذه القصيدة في الجاهلية قبل الهجرة، وإلا فهو رضي الله عنه قد استشهد في عين التمر سنة اثنتي عشرة للهجرة.

وقد أثبت أبو الفرج الأصفهاني لبشير بن سعد قطعة شعرية يقول فيها(20):

لِعَمْرَةَ بِالبَطْحَاءِ بَيتٌ مُعَرَّفٌ= وبين البطاحِ مسكنٌ ومحاضرُ

لَعَمْري لحيٌّ بين دار مزاحمٍ= وبين الحمى لا يحسم الستر حاصرُ

أحقُ بها من فتيةٍ وركائبٍ= يقطِّعُ عنها الليلَ عوجٌ ضوامرُ

تقولُ وتذري الدمعَ عن حُرِّ وجهها= لعلَّكَ نفسًا قبلَ نفسي تُبَاكرُ

أَباحَ لها بطريق فارس عائطًا= له من ذرا الجَولان قفلٌ وزاهرُ

فَقَرَّبتُها للرَّحلِ وهي كأنَّها= ظليمُ نعامٍ بالسماوةِ نافرُ

فباتَتْ سَراها ليلَةً ثمَّ عَرَّسَتْ= بيثربَ والأعرابُ بادٍ وحاضرُ

ولعل البيت الذي استدل منه ابن عساكر أن بشير بن سعد قدم الشام وآوى إلى بعض أعمال دمشق، هو قوله:

...................... له من ذرا الجولان قفل وزاهر

وذكر أبو الفرج أن والد بشير شاعر أيضًا، وهو القائل(21):

إِنْ كنتِ سائلةً والحقُّ مَعْتَبَةٌ= فالأزدُ نسبتنا والماءُ غسانُ

شُمُّ الأنوفِ لهم عِزُّ ومَكرمةٌ= كانتْ لهمْ من جبالِ الطَّودِ أركانُ

وأخو بشير بن سعد شاعر أيضًا، ومن قوله(22):

إذا لم أزُرْ إِلا لآكُلَ أَكْلَةً= فلا رَفَعَتْ كَفِّي إليَّ طعامي

فما أكلةٌ إن نلتُها بغنيمةٍ= ولا جَوعَةٌ إن جِعْتُها بِغَرَاِم

وابنه النعمان شاعر مشهور، وله ديوان شعري.

كان بشير بن سعد رضي الله عنه يسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن دقيق الأمر وجليله، بما يَرُدُّ عليه، وعلى إخوانه بالفائدة والنفع، ((فقد روى مسلم عن أبي مسعود الأنصاري البدري رضي الله عنه قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن في مجلس سعد بن عبادة، فقال له بشير بن سعد: أمرنا الله أن نصلي عليك يا رسول الله؛ فكيف نصلي عليك؟

قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى تمنينا أنه لم يسأله، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((قولوا: اللهم صَلِّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. والسلام كما علمتم بنحوه))(23).

وفي رواية ثانية عند مسلم بسنده: أن بشير بن سعد قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أمرنا الله أن نصليَ عليك يا رسول الله، فكيف نصلي عليك؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((قولوا: اللَّهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد، وعلى أزواجه وذريته، كما باركت على إبراهيم، إنك حميد مجيد))(24).

ويظل بشير بن سعد رضي الله عنه ملازمًا رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ يَفِيدُ من أخلاق النبوة، مقتبسًا من سناها، متخلِّقًا بأخلاقها، وكلما ازداد لصوقًا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ ازداد له محبة وإيثارًا.

ولكنه مع طول صحبته كان يتحرج من الحديث، وكان يكف حديثه(25).

يتبع

(1) الجلاس: تنوزع في هذا الاسم بين الجيم والخاء.، فهو (الخلاس)، بالخاء المعجمة المفتوحة، وتثقيل اللام، صيغة مبالغة من (خلس)، عند الدارقطني، وابن الأثير في أسد الغابة 5/326، و ابن سعد في الطبقات 5/531، وابن عبد البر في الاستيعاب 1/149، وابن قدامة في الاستبصار، ص 122. وابن عساكر في مختصر تاريخ دمشق 6/162.

على حين هو (الجلاس) بالجيم المخففة المضمومة: عند ابن حزم في جمهرة أنساب العرب، ص 364، وعند ابن حجر في الإصابة 1/158، وكذا أثبتها الصالحي في السيرة الشامية 3/215.

(2) جمهرة أنساب العرب، ص 364. الاستبصار، ص 122.

(3) ابن عبد البر، الاستيعاب 1/149، 3/550. ابن حزم، جمهرة أنساب العرب، ص 364. ابن سعد، الطبقات الكبرى 6/53. الإصابة 3/559.

(4) الاستيعاب (على حاشية الإصابة) 1/149.

(5) مغازي الواقدي 2/440، السيرة الشامية 4/355.

(6) السابق نفسه.

(7) ابن سعد، الطبقات 3/532.

(8) ابن رشيق، العمدة 2/306.

(9) البداية والنهاية 6/358.

(10) البداية والنهاية 3/165.

(11) انظر حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، في كتاب سعد بن الربيع، ص 105.

(12) الطبقات الكبرى 1/237. البداية والنهاية 3/196. السيرة الشامية 3/272. وفاء الوفا 1/257. سعد بن الربيع، ص 107.

(13) لما ولد النعمان بن بشير رضي الله عنهما، ملأ المسلمون جنبات المدينة تكبيرًا وتهليلاً؛ فرحًا بمولده؛ لأنه كان قد بلغهم عن اليهود أنهم سحروا المسلمين فلا يولد لهم بعد الهجرة، فأكذب الله اليهود فيما زعموا. الطبري 2/401.

(14) الطبقات الكبرى 6/53. أسد الغابة 5/326. الكامل في التاريخ 2/77. الاستعياب 3/551. ابن الجوزي، المنتظم 5/77. البداية والنهاية 8/247. الإصابة 3/559. ابن حبيب، المحبر، ص 276.

(15) انظر: صحيح الإمام مسلم بشرح الإمام النووي (المنهاج) 11/68 وما بعدها. وانظر: السيرة الشامية 9/285

(16) سورة لقمان: 18.

(17) ثابت بن قيس بن شماس بن زهير بن مالك. بن كعب، أبو محمد وأبو عبد الرحمن، الأنصاري الخزرجي، خطيب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يوم الوفود، بشَّره صلى الله عليه وآله وسلم بالجنة، وعن أبي هريرة يرفعه ((نعم الرجل ثابت بن قيس)). استشهد في معركة اليمامة، أوصى بعد موته ونفذت وصيته. انظر الاستيعاب 1/192. الإصابة 1/195.

(18) أسامة بن منقذ، لباب الآداب، ص 13. ورد في بعض الروايات: أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم سأل سعد بن معاذ عن ثابت بن قيس لما افتقده، قال ابن كثير: ((وطرق هذه الرواية معللة لرواية حماد بن سلمة؛ إذ تفرد فيها...))، والصحيح: أن الذي سأله النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ثابت بن قيس هو: بشير بن سعد، وليس (سعد بن معاذ)، فإن هذه الآية قد نزلت في وفد بني تميم، والوفود إنما تواتروا في سنة تسع من الهجرة، و (سعد بن معاذ) رضي الله عنه استشهد عقيب غزوة الخندق - ومن جراها - بأيام، والله أعلم. انظر: ابن كثير، تفسير القرآن العظيم 4/245 وما بعدها. وعند: الذهبي، سير أعلام النبلاء 1/310؛ أنها آية الحجرات في رفع الصوت.

(19) د. الجبوري، شعر النعمان، ص 9.

(20) الأغاني 14/120.

(21) السابق نفسه.

(22) السابق نفسه.

(23) انظر: السيرة الشامية 12/433.

(24) السابق 9/243.

(25) مسند الإمام أحمد 30/358.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين