مجتمع المدينة قبل الهجرة وبعدها (5)

إن استمرار المحالفات القديمة بين الأوس والخزرج واليهود يتضح من قول الأنصار للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في أحد: (ألا نستعين بحلفائنا من يهود)(1).

كما يتضح من شفاعة عبد الله بن أبي سلول كبير المنافقين في بني قينقاع حلفاء قومه الخزرج، ومن محاولة بعض الأوس تخليص حلفائهم يهود بني قريظة من القتل بعد نزولهم على حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فحكّم النبي صلى الله عليه وآله وسلم سعد بن معاذ فحكم بقتلهم وبذلك تبرأ من حلفهم كما تبرأ من قبله عبادة بن الصامت (من بني عمرو ابن عوف من الخزرج) رضي الله عنه؛ من بني قينقاع حين حاربوا المسلمين.

وقد كفلت الوثيقة الحرية الدينية ممَّا يدل على أن أحداث جلاء اليهود لا علاقة لها باختلاف العقيدة، خاصة وأن الحرية الدينية لغير المسلمين ظلت مكفولة في الدولة الإسلامية كما أنها في أبرز خصائص الحضارة الإسلامية.

وحددت الوثيقة مسؤولية الإجرام وحصرها في مرتكبيها من اليهود، فالمجرم ينال عقابه وإن كان من المتعاهدين، وقد اعترف اليهود بوجود سلطة قضائية عليا يرجع إليها سائر سكان المدينة بما فيهم اليهود، لكن ذلك لا يتعلق بالقضايا الخاصَّة بين اليهود ولا بأحوالهم الشخصية فهم يرجعون في ذلك إلى أحبارهم وإن كان من حقهم أن يعرضوا ذلك على القضاء الإسلامي أيضاً.

وقد منعت الوثيقة اليهود من إجارة قريش أو نصرها أو التعهد بحماية تجارتها كما منعتهم من القيام بنشاط عسكري خارج المدينة مما يؤثر على أمن المدينة واقتصادها.

فاليهود كمواطنين في الدولة الإسلامية يجب أن يخضعوا للنظام العام، وقد اعتبرت الوثيقة منطقة المدينة المنورة حرماً لا يحل انتهاكه وبذلك أحلت إلا من داخل المدنية ومنعت الحروب الداخلية.

أما الوثيقة التي كتبت بين المهاجرين والأنصار بعد غزوة بدر الكبرى فقد ذكر فيها مصطلحا (المؤمنين، والمسلمين) مما يشير إلى التمييز بين المصطلحين لظهور المنافقين في مجتمع المدينة. وقد قررت الوثيقة أن المؤمنين والمسلمين أمَّة واحدة من دون الناس فهم يرتبطون برابطة العقيدة التي توحد مشاعرهم وأفكارهم وسلوكهم وتجعلهم يخضعون للشرع وليس للعرف، كما تجعل ولاءهم لله ولرسوله وليس للقبيلة، وتميّز الجماعة الدينية في المجتمع المدني كان مقصوداً ليزداد تماسكها واعتزازها بذاتها، ويتضح ذلك في تمييزها بالقبلة واتجاهها إلى الكعبة بعد أن اتجهت ستة عشر أو سبعة عشر شهراً إلى بيت المقدس، وقد أذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأتباعه بالصلاة بالنعل وصبغ الشيب بالحناء والكتم مخالفة لليهود، وصار التمايز مبدأ إسلامياً للحديث الشريف (ومن تشبه بقوم فهو منهم) لكن هذا التمايز والاستعلاء لا يشكل حاجزاً بين المسلمين وغيرهم فكيان الجماعة الإسلامية مفتوح وقابل للتوسع ويستطيع الانضمام اليه مَنْ قَبِل (أيديولوجيته).

وقد ذكرت الوثيقة: الكيانات العشائرية التي ينتسب إليها الأنصار، ولا يعني ذلك الإبقاء على العصبية القبلية والعشائرية لأنَّ الإسلام حرَّم ذلك: (ليس منا من دعا إلى عصبية) وإنما اعترف الإسلام بالارتباطات التي تنضوي تحت رابطة العقيدة وتخدم المجتمع الإسلامي وتُسهم في بناء التكافل الاجتماعي بين أبنائه، مثل الارتباطات الخاصة بين أفراد الاسرة الواحدة والعشيرة الواحدة وما يترتب على ذلك من حقوق وواجبات كالتضامن في دفع الديات وفكاك الأسرى وإعانة المحتاج منهم، فقد رتَّب الإسلام على الوحدات الاجتماعية الصغيرة والقيام بمهام التكافل الاجتماعي وبذلك سد ثغرات كبيرة مما يرفع عبئاً كبيراً عن كاهل الدولة تنوء به الدول الحديثة.

وهكذا فإن إقرار الروابط العشائرية قصد به الاستفادة منها في التكافل الاجتماعي ولكن لا تناصر في الظلم ولا عصبية، وبذلك حوَّل الإسلام وجهة الروابط القبلية واستفاد منها بتكييفها وفق أهدافه العليا، ولا شك أن هذا التحول الخطير وضعت أمامه عراقيل خطيرة من قِبَل المنافقين واليهود الذين حاولوا إثارة العصبية في مواقف شتى، ولكنَّ العقيدة الإسلامية غالبت هذه العراقيل وغلبتها وتمكّنت من إحلال المفاهيم الإسلاميَّة الجديدة محل العصبيات الجاهليّة.

وكذلك أكدت الوثيقة على المسؤولية الجماعية واعتبرت سائر المؤمنين مسؤولين عن تحقيق العدل والأمن في مجتمع المدينة إذ لم توجد بعد قوة منظمة كالشرطة لتعقب الجناة.

ونظرا لكون تشريع الحدود مصدره الله تعالى فإن السعي لتطبيقها واجب ديني على المؤمنين، وهذا يكسب الأحكام قدسية ويعطيها قوة كبيرة ويمنع ما ينشأ في نفوس بعض الناس من الرغبة في تحدّيها والخروج عليها كما يحدث في ظل القوانين الوضعية.

وقد حصرت الوثيقة مسؤولية إعلان الحرب والسلم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا أعلن الحرب فإن سائر المؤمنين يصبحون في حالة الحرب مع الخصم ولا يمكن لفرد منهم مهادنته لأنه مرتبط بالسياسة العامة للمؤمنين.

كما أقرّت الوثيقة مبدأ الجوار وجعلته حقاً لكل مسلم، كما حصرت الموالاة بين المؤمنين، والموالاة تقتضي المحبة والنصرة، فلا تجوز موالاة غير المؤمنين.

وأكدت الوثيقة في ختام بنودها أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو المرجع الوحيد في كل خلاف يقع بين المسلمين في المدينة.

وهكذا حددت الوثيقة العلاقات بين الأطراف المختلفة في المدينة المنورة وأوضحت الحقوق والواجبات العامة فكانت بذلك أول دستور أعلنه الإسلام (2).

ما أحدثه الإسلام من تغيير في الحياة عند ظهوره:

لا شك أنَّ لكل حضارة وفكر ودين طابعاً يطبعه وصبغة تصبغه ولوناً يُميِّزه، وعلى قدر أصالة الحضارة وعمقها وشمولها يكون تأثيرها في الإنسان الذي يعيش في إطارها وقد تتشابه الأفكار والمعتقدات ولا تستقل عن بعضها إلا في جوانب معيَّنة كما هو الحال في الفلسفات المادية المهيمنة على عالمنا المعاصر، فإنَّ التحول من واحدة إلى أخرى لا يتطلب تغييرا جذرياً وانقلاباً شاملاً في حياة الإنسان بل يكفي أن تتغير قناعته بمبدأ منها وتزداد بآخر ليتم التحول الفكري إلى المبدأ الجديد.. إنَّ هذا التحول لا يحتاج إلى مجهود كبير إذ ليس له أثر على السلوك اليومي والعادات المتأصلة في النفس فلا ينعكس إذاً على واقع الحياة.

إنَّ هذه الظاهرة لا تنطبق على الإسلام، فهذا الدين منذ ظهوره أحدث انقلاباً جذرياً في حياة الفرد والجماعة بحيث تغير سلوك الأفراد اليومي وعاداتهم المتأصلة تغيراً كلياً، كما تغيَّرت مقاييسهم وأحكامهم ونظرتهم إلى الكون والحياة والإنسان... وكذلك تغيَّرت بنية المجتمع بصورة واضحة فاختفت مظاهر وصور وبرزت معالم وظواهر جديدة.

إن النقلة التي أحدثها الإسلام في تاريخ الجزيرة العربية عميقة وشاملة، ففي عالم العقيدة يمثل طفرة من عبادة الأشياء المحسوسة كالأصنام والأوثان والكواكب التي يرونها ويلمسونها إلى عبادة الله الواحد الذي ليس كمثله شيء والذي لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار.

والذي لا يمكن تصوره ومثله ومعرفة كنهه، بل يُعرف بما وصف به نفسه في كتابه الكريم وعلى لسان رسوله الأمين دون تمثيل ولا نفي أو تعطيل.

وهذه طفرة من (العقل البدائي) الذي يتعامل مع المحسوسات إلى العقل الحضاري، الذي يتمكّن من فهم التوحيد والتنزيه لله رب العالمين. وفي سلوك الإنسان اليومي أحدث الإسلام تغييراً جذرياً.. فالنقطة كبيرة بين ما كان عليه في جاهليته وما صار اليه في إسلامه... لم يعد العربي كما كان متفلتا من ضوابط القانون في معاملاته وعلاقاته الاجتماعية بل صار منضبطاً بضوابط الشريعة في جزئيات حياته من أخلاق وعادات ونوم واستيقاظ وطعام وشراب وزواج وطلاق وبيع وشراء... ولا شك أنَّ العادات تتحكم في الإنسان ويصعب عليه التخلص منها واكتساب عادات وصفات جديدة.. لكن ما ولَّده الإسلام في أنفسهم من إيمان عميق مكّنهم من الانخلاع من الشخصية الجاهلية بكل ملامحها واكتساب الشخصيّة الإسلاميّة بكل مقوماتها. فاعتادوا على عبادة الله تعالى واتجهوا بكل نشاطهم الاجتماعي والاقتصادي إليه لأنَّ العبادة في الإسلام شاملة لكل نشاط وحركة يقصد بها وجه الله تعالى، والتزموا بأداء الصلاة التي هي عماد الدين يومياً خمس أوقات محددة.. ولا شك أنَّ النفس تكسل وتحاول التنصل من الواجبات والالتزامات، لكن المسلم وقد أسلم وجهه لله تعالى تمكّن من الاعتياد عليها قال تعالى مبيناً ما تحتاجه الصلاة من صبر: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾ [طه: 132].

وكذلك الأمر بالنسبة للصوم ما فيه من خرق لعادات الإنسان اليومية في تناول الطعام والشراب يحتاج إلى إرادة قوية وعزيمة مؤمنة.. والتخلي عن جزء مما يملك الإنسان من مال كل سنة لأداء الزكاة يحتاج إلى التخلص من الحرص والشح فلابدَّ أن يكون حب السلم لله تعالى أعظم من حبه للمال ليُخرج زكاته ولذلك فإن كثيراً من المرتدين في خلافة الصديق رضي الله عنه أعلنوا استعدادهم للبقاء على إسلامهم إذا أعفوا من الزكاة. وإلى جانب الاعتياد على الأوامر الجديدة وحمل النفس عليها كان لابدَّ للمسلم أن يتخلص من كثير من العادات المتأصلة كشرب الخمر والأنكحة الجاهلية التي أبطلها الإسلام والربا الذي كان يقوم عليه اقتصاد مكة وغيرها. إنَّ المسلمين تخلصوا من هذه العادات وغيرها استجابة لله تعالى... فما نزل قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ٩٠ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ فِي ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِ وَيَصُدَّكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِۖ فَهَلۡ أَنتُم مُّنتَهُونَ٩١﴾[المائدة:90-91] حتى خرجت الأنصار بدِنَان الخمر إلى الأزقة وأراقوها وقالوا: (انتهينا ربنا انتهينا ربنا) وشرب الخمر التي أقلعوا عنها كان عادة متأصلة في حياة الفرد والمجتمع؛ والخمر التي أراقوها كانت مالاً ضحوا به تسليماً لله رب العالمين.

ولم يكن العربي ليخضع لدولة وإنما كانت الوحدة السياسيَّة والاجتماعيَّة هي القبليَّة وكانت الدويلات التي نشأت في أنحاء من شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام بوقت طويل قد اندثرت وطغت البداوة والقبلية بما فيها من عصبية ونزاع وصراع وتفكك في سائر شبه الجزيرة، فلما جاء الإسلام أرسى مفهوم الدولة وربط سائر القبائل والأفراد بها، فقامت دولة المدينة المنورة على أساس فكري بحت وتوسعت لتوحيد شبه الجزيرة العربية لأول مرة في تاريخها تحت راية الإسلام فكانت هذه نقلة في تاريخ شبه الجزيرة العربية السياسي.

وهكذا فإن الإسلام أحدث تغييراً جذريا في حياة الفرد والمجتمع في المدينة المنورة لما تميَّز به من عمق وشمول وقدرة على التأثير حتى صبغ الحياة بكل جوانبها بصبغة ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾ [البقرة: 138].

صدق الله العظيم

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

المصدر: بحوث المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبوية /الدوحة/محرم 1400هـ.

الحلقة السابقة هــــنا

(1) مستدرك الحاكم 2/122، وسنن البيهقي 9/37.

(2) سيرة ابن هشام 2/64، والمدونة الكبرى لسحنون 3/40 ، وزاد المعاد لابن القيم 2/92.

(3) انظر بحثي : (أول دستور أعلنه الإسلام) مجلة كلية الإمام الأعظم ببغداد العدد الأول 1392هـ = 1972م.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين