مجتمع المدينة قبل الهجرة وبعدها (4)

الحب أساس المجتمع المدني:

وقد أقام الإسلام المجتمع المدني على أساس الحب والتكافل، كما في الحديث الشريف: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) فالتواد والرحمة والتواصل أساس العلاقة بين أفراد المجتمع كبيرهم وصغيرهم غنيهم وفقيرهم حاكمهم ومحكومهم.

وقد تكفَّلت تعاليم الإسلام بتدعيم الحب وإشاعته في المجتمع ففي الحديث النبوي: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) فيعيش المؤمنون بعيداً عن الأثرة والاستغلال وهم يتعاونون في مواجهة أعباء الحياة (فمن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته) كما في الحديث الذي أخرجه الترمذي والإمام أحمد (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) كما في الحديث الذي أخرجه الترمذي وأبو داوود.

وعلاقات المؤمنين قائمة على الاحترام المتبادل فلا يستعلي غني على فقير ولا حاكم على محكوم ولا قوي على ضعيف: (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) رواه الإمام مسلم

وقد تفتر العلاقة بين المسلم وأخيه أو تنقطع ساعة غضب لكن انقطاعها لا يستمر فوق ثلاث ليل: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام) كما في الصحيحين.

وتدعم أسس الحب بالصلة والصدقة (تهادوا تحابوا) ويضع الغني أمواله في خدمة المجتمع وسدِّ الثغرات التي تظهر في بنائه الاقتصادي بسبب التفاوت في توزيع الثروة فيخرج زكاة أمواله فريضة من الله يواسي المحتاجين بأمواله حتى إنهم ليفرحون إذا كثرت ثروته إذ تعود عليهم بالخير والمواساة.

أخرج الإمام البخاري (6/31 كتاب التفسير ) عن أنس ابن مالك رضي الله عنه قال: (كان أبو طلحة أكثر أنصاريّ بالمدينة نخلاً، وكان أحب أمواله اليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فلما نزلت: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران: 92] قام أبو طلحة رضي الله عنه فقال: يا رسول الله ان الله يقول: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ وإنَّ أحب أموالي إليَّ (بيرحاء)، وانها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ذلك مال رايح(1)، ذلك مال رايح، وقد سمعت ما قلت واني أرى أن تجعلها في الأقربين، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه).

وكان أغنياء الصحابة يعرفون أنهم مستخلفون على المال الذي اكتسبوه، فإذا وجدوا ثغرة تعجز الدولة عن سدها أو لا تنتبه لها بذلوا أموالهم في سدها... وقد ثبت في التاريخ أنَّ عثمان رضي الله عنه تصدق بقافلة ضخمة ألف بعير تحمل البر والزيت والزبيب على فقراء المسلمين عندما حلَّت الضائقة الاقتصادية بالمدينة المنورة في خلافة الصديق رضي الله عنه وقد عرض عليه التجار خمسة أضعاف ثمنها ربحاً فقال: أعطيت أكثر من ذلك. فقالوا: من الذي أعطاك وما سبقنا إليك أحد، ونحن تجار المدينة؟ قال: إن الله أعطاني عشرة أمثالها ثم قسمها بين فقراء المسلمين.

ومثل هذا كثير في سير المسلمين من سلفنا الصالح لذلك لم تظهر الروح الطبقية ولم يحدث الصراع الطبقي... ولم يتكتل الناس وفق مصالحهم الاقتصادية لحرب من فوقهم أو تحتهم... إنَّ المجتمع الإسلامي لم يشهد صراع الطبقات ولا يعرف استعلاء غني على فقير ولا حاكم على محكوم ولم يعترف ابتداء باختلاف البشر تبعاً لألوانهم وأعراقهم أو دمائهم فالمسلمون سواسية كأسنان المشط لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى.. والمجتمع الإسلامي مفتوح أمام الجميع ففرص الارتقاء والكسب متكافئة أمام أفراده، والعلاقات الاجتماعية متكافئة أيضاً، فلم يحدث أن منع فقير من الزواج بغنية أو حجب ضعيف عن الترقي إلى أرفع مناصب الدولة وأعلى مراكز القيادة والتوجيه في المجتمع، فليست هناك طبقية يصطدم رقي الفرد بسقوفها ولو قدّر للمجتمع الإسلامي أن يستمر في تقدمه العلمي والحضاري ويمسك بزمام البشرية اليوم لظهرت مزايا الإسلام في بناء مجتمع متراص على أساس الحب والتكافل وليس الحقد والصراع الذي ليس وراءه إلا الدمار.

وإذا كان هذا هو موقف أغنياء المسلمين في المجتمع المدني فما هو موقف ضعفائهم وفقرائهم؟

الأغنياء والفقراء يجاهدون في صف واحد:

لقد وقف الأغنياء والفقراء يجاهدون في صف واحد: فالعقيدة الإسلامية منعت ظهور الصراع الطبقي في المجتمع الإسلامي وآخت بين الأغنياء والفقراء ووحدت الصف الداخلي لمواجهة متطلبات الجهاد، وهذه صورة من المجتمع المدني توضّح كيف عاشت مجموعة من أفقر المسلمين في عصر السيرة.

قال تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 273].

ذكر ابن سعد في طبقاته (2) بإسناده إلى محمد بن كعب القرظي رضي الله عنه أنَّ هذه الآية نزلت في أهل الصفة، وذكر الطبري (3) في تفسيره بأسانيده عن مجاهد والسدي أنها نزلت في فقراء المهاجرين.

وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يُفكر في إيجاد مأوى للفقراء المقيمين والوفود الطارقين لأنَّ تدفق المهاجرين إلى المدينة المنورة استمر خاصة قبل غزوة الخندق حيث كان الكثيرون منهم يستقرون داخل المدينة إلى جانب الوفود الكثيرة التي طرقت المدينة آنذاك، ومنهم من لم يكن على معرفة بأحد من المدينة، وقد حانت الفرصة عندما تم تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة الشريفة وذلك بعد ستة عشر شهراً من الهجرة إلى المدينة حيث بقي حائط القبلة الأولى في مؤخرة المسجد النبوي فسقف واطلق عليه اسم (الصفة)، وكان أول من نزلها فقراء المهاجرين، ثم من أخلاط القبائل حتى زادوا على السبعين(4)، وكان أبو هريرة رضي الله عنه عريف أهل الصفة فكان واسطة بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان يعرف مراتبهم في العبادة والمجاهدة (5).

وقد انقطع أهل الصفة للعلم والعبادة وألفوا الفقر والزهد فكانوا في خلوتهم يصلون ويقرأون القرآن ويتدارسونه ويتعلم بعضهم الكتابة، حتى أهدى أحدهم قوسه لعبادة بن الصامت رضي الله عنه لأنه كان يعلمهم القرآن والكتابة (6)، واشتهر عريفهم أبو هريرة رضي الله عنه بكثرة حديثه وسعة حفظه.

لكن انقطاع أهل الصفة للعلم والعبادة لم يعزلهم عن المشاركة في أحداث المجتمع والاسهام في الجهاد، بل كان منهم الشهداء ببدر وأحد وخيبر وتبوك واليمامة فكانوا رهباناً في الليل فرسانا في النهار(7)، فالإسلام لا يعرف العزلة عن الحياة بل يربي أتباعه على السلوك الإيجابي المؤثر في واقع المجتمع.

وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتعهد أهل الصفة بنفسه، فيزورهم ويتفقد أحوالهم ويعُود مرضاهم كما كان يكثر مجالستهم ويرشدهم ويواسيهم ويذكّرهم ويقص عليهم ويوجههم إلى قراءة القرآن الكريم ومدارسته وذكر الله والتطلع إلى الآخرة، ويشجعهم على احتقار الدنيا وعدم تمني متاعها، وكان إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئاً، واذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها، وكثيراً ما كان يدعوهم إلى تناول الطعام في إحدى حجرات أزواجه أمهات المؤمنين(8)، ولم يكن صلى الله عليه وآله وسلم يغفل عنهم، بل كانت حالتهم ماثلة أمامه، وقد جاءه مرة مال فسألته ابنته فاطمة شيئاً فعلّمها وزوجها عليا رضي الله عنهما كلمات يدعوان بها وقال: (لا أعطيك وأدع أهل الصفة تلوي بطونهم من الجوع)(9). وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوزع أهل الصفة بين أصحابه بعد صلاة العشاء ليتناول الطعام ويأخذ بقيتهم معه، وكان سبعون من الفقراء - وهم الذين استشهدوا يوم بئر معونة - يقرأون القرآن ويتدارسونه ويتعلمون بالليل ويعلمون ويتصدقون على أهل الصفة بالنهار وكان ذلك أول الإسلام (حتى جاء الله بالغنى).

رحم الله القوامين الصوامين المجاهدين الزاهدين أهل الصفة وصدق الله العظيم ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ [البقرة: 273] .

فأين هذا النموذج مما يحدثه الفقراء المدقعون في المجتمعات الجاهلية من تكوين العصابات التي تتولى أعمال السرقة والقتل وأنواع العدوان الذي يُفقد المجتمعات الاستقرار والإحساس بالأمن... إلا أنه الفرق بين تربية محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتربية الجاهلية... والفرق بين نظام الله ونظام البشرية.

فهذه صورة من الارتباط القوي الذي أوجده الإسلام عملياً في المدينة المنورة حيث تظهر صورة المجتمع الإسلامي بأزهى وأكمل حالاتها، ومنها تتبين لماذا لا يحدث الصراع الطبقي في المجتمع الإسلامي ولماذا يقف الأغنياء والفقراء في صف واحد لدعم رسالة الإسلام.

دستور المدينة:

تعتبر الوثيقة التي كتبها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار من ناحية وبين المسلمين واليهود من ناحية أخرى أول دستور أعلنه الإسلام. حيث أوضحت التزامات جميع الأطراف داخل المدينة المنورة وحدَّدت الحقوق والواجبات، وقد شك بعض الباحثين المعاصرين في صحتها(10)، لكن معظمهم اعتمدوا عليها في دراساتهم عن المجتمع المدني في عصر السيرة. والحكم بوضع الوثيقة مجازفة لأن كتب الحديث النبوي المعتمدة أوردت مقتطفات كثيرة تشمل عددا كبيراً من بنودها المتعلقة بتنظيم العلاقة بين المهاجرين والأنصار، ولكن الوثيقة بجملتها لم ترد بإسناد صحيح متصل بل جاءت في سيرة ابن اسحق دون إسناد وفي تاريخ ابن أبي خيثمة بإسناد ضعيف فيه كثير بن عبد الله المزني، وفي كتاب الأموال لأبي عبيد من مراسيل الزهري ومراسيله ضعيفة عند المحدثين لكنه إمام في المغازي. وأسلوب الوثيقة يشبه أسلوب كتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأخرى مما ينم عن أصالتها.

والوثيقة في الأصل وثيقتان، الأولى تتناول تحديد العلاقة بين المسلمين واليهود والراجح أنها كتبت قبل موقعة بدر الكبرى حيث صرح أبو عبيد بأنَّ ذلك قبل أن يظهر الإسلام ويقوى (11) كما بيَّن البلاذري أن ذلك قبل الإذن بالقتال (12).

وأما الوثيقة الثانية التي تحدد علاقات المهاجرين والأنصار بعضهم ببعض فقد كُتبت بعد بدر في السنة الثانية للهجرة وكانت صحيفة معلقة في جفن سيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذي الفقار الذي غنمه ببدر والذي صار للإمام علي رضي الله عنه ومعه الصحيفة فكان يحدث بها(13).

وقد التزم اليهود بموجب الوثيقة بالمشاركة مع المسلمين في الدفاع عن المدينة المنورة ولكن هل نُفذ ذلك عملياً؟ إن سائر الأحاديث المروية عن اشتراك اليهود مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الحروب ضعيفة (14) بينما وردت أحاديث صحيحة تدل على منع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لهم من الاشتراك مع المسلمين في الحروب(15) عندما حاولوا الاشتراك تعزيزاً للأحلاف القديمة بينهم وبين الأوس والخزرج من ناحية وسعياً لتوثيق الصلة بينهم بغية الإفادة من ذلك في التأثير عليهم وغلغلة النفاق في صفوفهم. لكنَّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قطع عليهم الطريق برفض معونتهم ما داموا على الشرك.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

يتبع...

الحلقة السابقة هـــنا

(1) أي أن أجرها يروح ويغدو عليه (فتح الباري 3/326).

(2) الطبقات الكبرى 1/255.

(3) الطبري : 5/291 طبعة محمود محمد شاكر.

(4) أبو نعيم الحلية : 1/339-341.

(5) المصدر السابق 1/347.

(6) سنن أبو داوود 2/237.

(7) أكرم العمري : أهل الصفة ص 151 (بحث منشور في مجلة كلية الدراسات الإسلامية سنة 1968م).

(8) صحيح البخاري رقاق باب 14 والاستئذان باب 14.

(9) مسند أحمد 1/79-106 ، ومسند أحمد 2/515، 3/429، 490.

(10) ذهب الدكتور يوسف العش إلى أنها موضوعة (الدولة العربية وسقوطها ص 20 حاشية رقم 9).

(11) وردت هذه المقتطفات في صحيحي البخاري ومسلم وسنن أبي داوود وابن ماجة والترمذي ومسند الإمام أحمد.

(12) الأموال رقم 518.

(13) أنساب الأشراف 1/286.

(14) صحيح البخاري : 9/14. والترمذي الجامع 6/182، وابن ماجة (السنن) 2/88 ، وأحمد في المسند 1/79 ، 119 ، 122.

(15) أبو يوسف : الرد على سيرة الأوزاعي ص40 ، وسنن البيهقي 9/53 ، وسنن الترمذي 4917 ، ونصب الراية للزيلعي 3/422.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين