مجتمع المدينة قبل الهجرة وبعدها (3)

نظام المؤاخاة في عهد النبوة:

وقد واجه المسلمون المهاجرون من مكة إلى المدينة مشاكل متنوعة حيث تركوا أهليهم ومعظم ثرواتهم بمكة، ولم تكن لهم مهارة في الزراعة والصناعة المنتشرتين في المدينة، وممارستهم للتجارة تحتاج إلى رؤوس أموال كانوا لا يمتلكونها، وكانت علاقاتهم بالمجتمع المدني حديثة، فقد ترك المهاجرون أهليهم ومعارفهم بمكة بالإضافة إلى اختلاف مناخ مكة عن المدينة وإصابتهم بالحمى، فتولد عندهم إحساس بالحنين إلى مكة. ولمواجهة هذه المشاكل والتخفيف عن المهاجرين عقد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار المؤاخاة وتم ذلك في السنة الأولى للهجرة في دار أنس بن مالك رضي الله عنه(1)، ونظام المؤاخاة يُعبِّر عن الحب والتعاون والمواساة التي غرسها الإسلام في قلوب الصحابة الأولين.

ولم يبخل الأنصار في مواساة المهاجرين بشيء بل قدَّموا من التضحيات وضروب الإيثار ما خلَّد ذكرهم في القرآن الكريم قال تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: 9] وبلغ كرم الأنصار أن اقترحوا على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن يقسم نخيلهم بينهم وبين المهاجرين، مع أن النخيل كان مصدر معيشة الكثيرين منهم. على أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم طلب من الأنصار أن يقوموا بإدارة بساتين النخيل ويحتفظوا بها لأنفسهم على أن يشركوا المهاجرين في التمر (2).

ويبدو أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يشأ أن يُشغل المهاجرين بالزراعة ليتفرغوا لمهام الدعوة والجهاد، كما أنهم (لا يعرفون العمل) (3) كما عبَّر الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم مما يؤدي إلى خفض الإنتاج الزراعي الذي تحتاجه المدينة.

كما وهبت الأنصار كل فضل في خططها وقالوا: إن شئت فخذ منازلنا فقال لهم خيرا وابتنى لأصحابه في أراض وهبتها لهم الأنصار وأراض ليست ملكاً لأحد (4).

وقد أثَّر هذا التعامل الكريم في المهاجرين، فلهجت ألسنتهم بكرم الأنصار، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال المهاجرون يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل، ولا أحسن بذلاً من كثير، لقد كفونا المؤونة وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله. قال: (لا، ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم) (5).

ومع هذا البذل والإيثار الذي أظهره الأنصار فإن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أوجد نظام المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، فآخى بين كل مهاجري وأنصاري اثنين فشملت المؤاخاة تسعين رجلاً من المهاجرين والأنصار(6)، وقد ترتب على تشريع نظام المؤاخاة حقوق خاصَّة بين المتآخين كالمواساة التي تشمل كل أوجه العون على مواجهة أعباء الحياة سواءً كان عوناً مادياً أو رعاية أو نصيحة أو تزاور أو محبة. كما ترتب على المؤاخاة أن يتوارث المتآخون دون ذوي أرحامهم مما يرقى بالعلاقة بين المتآخين إلى مستوى أرفع من أخوة الدم.

وقد طابت نفوس الأنصار بذلك، وتصور الروايات عمق التزامهم وتفانيهم في تنفيذه. ومن النماذج الفريدة لهذه المؤاخاة بين سيدنا سعد بين الربيع (الأنصاري) وسيدنا عبد الرحمن بن عوف (المهاجري) رضي الله عنهما.

فقد قال سعد لعبد الرحمن: إنَّ لي مالاً فهو بيني وبينك شطران، ولي امرأتان فانظر أيها أحب إليك فأنا أطلقها فاذا حلَّت فتزوجها. فقال عبد الرحمن ابن عوف رضي الله عنه: بارك الله لك في أهلك ومالك. دلوني على السوق؛ فلم يرجع حتى رجع بسمن وأقطّ قد أفضله(7).

ولا شك أن المرء يقف مبهوراً أمام هذه الصور الرائعة من الأخوّة المتينة والإيثار المتبادل الذي لا نجد له مثيلاً في تواريخ الأمم الأخرى. وليس موقف ابن عوف في أنفته وكرم خُلقه وعدم استغلاله لأخيه بأقل روعة من إيثار ابن الربيع لذلك بُورك له في عمله ونمت ثروته حتى صار من أغنياء المسلمين فقد أبى إلا أن يكون صاحب اليد العليا التي تعطي ولا تأخذ.

ونظراً لأن التوارث بين المتآخين كان في ظروف استثنائية اقتضته، فقد رجع التوارث إلى وضعه الطبيعي المنسجم مع الفطرة البشرية على أساس صلة الرحم، وأبطل التوارث بين المتآخين بنص القرآن الكريم: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ [الأنفال: 75] وكان ذلك بعد غزوة بدر الكبرى التي أصاب المسلمون من غنائمها الكثير. وقد ذكر ابن عباس رضي الله عنهما أن ما أنفي من نظام المؤاخاة هو الإرث فقط وأما النصر والرفادة والنصيحة فباقية (8).

وقال الحافظ النووي: وأما المؤاخاة في الإسلام والمحافظة على طاعة الله تعالى والتناصر في الدين والتعاون على البر والتقوى وإقامة الحق فباق لم ينسخ(9).

إنَّ استجابة المسلمين لأوامر الله تعالى تظهر في انخلاعهم عن علاقاتهم الاجتماعيَّة والمكانيَّة إذا اقتضت ذلك مصلحة العقيدة.

آصرة العقيدة هي أساس الارتباط بين الناس:

ولا شك أن الروابط التي تجمع بين الناس مختلفة، وهم يجتمعون بشكل قبائل وشعوب وأوطان وقوميات، وقد يجتمع أبناء القوميات المختلفة تحت لواء واحد بسبب الدين أو المصالح المشتركة. وتعتبر آصرة القربي أو الدم والانتماء إلى أصل عرقي من أقدم الروابط التي كوَّنت المجتمعات البشريَّة، ويوم أن ظهر الإسلام كانت تجمعات الناس تظهر بشكل قبائل كما في جزيرة العرب وأماكن أخرى وقوميات كما في بلاد فارس، ومجتمعات دينية كما في الامبراطورية البيزنطية، وقد جعل الإسلام رابطة العقيدة هي الأساس الأول في ارتباط الناس وتآلفهم وإن أقرَّ بعض الأواصر الأخرى إذا أنضوت تحت هذا الأصل مثل الأرحام التي حثَّ الإسلام على وصلها. ورتب على ذلك الأحكام المتعلقة بالتكافل الاجتماعي والإرث، ومثل صلة الجوار وما يترتَّب عليها من حقوق الجار ومثل الصلة بين أفراد العشيرة وما يترتَّب عليها من تضامن في الديَّات، ومثل الصلة بين أبناء المدينة وجعلهم أولى من سواهم بزكاة أغنيائهم... لكن هذه الصلات ينبغي أن تنضوي تحت آصرة العقيدة فاذا خالفتها وأضرت بها لم يبق لها أي اعتبار، فأساس الارتباط في الإسلام هو العقيدة التي قد تقتضي مصلحتها التفريق بين المرء وأبيه أو ابنه أو زوجته أو عشيرته.. وهكذا قاتل أبو عبيدة رضي الله عنه أباه - وهو يمجد الأصنام فقتله عندما التقى به في معركة بدر الكبرى. ورأى أبو حذيفة رضي الله عنه أباه المشرك يُسحب ليرمى في القليب ببدر دون أن ينكر قلبه ذلك (10).

قال ابن اسحق:(11)

وحدثني ابن وهب أخو بني عبد الدار أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين أقبل بالأسارى فرَّقهم بين أصحابه وقال: استوصوا بهم خيراً وكان أبو عزيز بن عمير بن هاشم أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمه في الأسرى قال أبو عزيز: مرَّ بي مصعب بن عمير ورجل من الأنصار يأسرني فقال - أشدد يديك به فإنَّ أمه ذات متاع لعلها تفديه منك.... قال ابن هشام: وكان أبو عزيز هذا صاحب لواء المشركين ببدر بعد النضر بن الحارث ولما قال أخوه مصعب لأبي اليسر - وهو الذي أسره ما قال، قال له أبو عزيز: يا أخي هذه وصاتك بي ؟ فقال له مصعب إنَّه أخي دونك.

وروى الترمذي: (12) بإسناد قال عنه صحيح وهو: حدثنا ابن أبي عمر أخبرنا سفيان عن عمر وابن دينار سمع جابر ابن عبد الله يقول: كنا في غزاة - قال سفيان يروون أنها غزوة المصطلق - فكسح رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار... وفيه فسمع ذلك عبد الله بن أُبي بن سلول فقال: أوقد فعلوها؟ والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل وقال غير عمرو: فقال له ابنه عبد الله بن عبد الله: والله لا تنقلب حتى تقر أنك الذليل ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العزيز ففعل.

وقد كان عبد الله بن عبد الله بن أُبي رضي الله عنه باراً بأبيه هياباً له(13)، لكن مصلحة العقيدة هي المعتبرة عنده أولاً فلما رأى أباه يؤذي المسلمين عرض على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقتله ويأتيه برأسه (14).

وقد أوضح القرآن الكريم أنَّ العقيدة هي الأساس في ارتباط الناس بعضهم ببعض فيما قصه عن نوح عليه السلام وابنه: ﴿وَنَادَىٰ نُوحٞ رَّبَّهُۥ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ٱبۡنِي مِنۡ أَهۡلِي وَإِنَّ وَعۡدَكَ ٱلۡحَقُّ وَأَنتَ أَحۡكَمُ ٱلۡحَٰكِمِينَ٤٥ قَالَ يَٰنُوحُ إِنَّهُۥ لَيۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَيۡرُ صَٰلِحٖۖ فَلَا تَسۡ‍َٔلۡنِ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۖ إِنِّيٓ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلۡجَٰهِلِين﴾[هود:45-46] .

وهكذا بيَّن الحق سبحانه أن ابن نوح وإن كان من أهله باعتبار القرابة لكنه لم يعد من أهله لمَّا فارق الحق وكفر بالله تعالى ولم يتبع نوحاً نبي الله.

وصرَّح القرآن الكريم بعلة انقطاع الآصرة بين نوح وابنه بقوله: ﴿إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَيۡرُ صَٰلِحٖۖ﴾ فاذا كانت القرابة من الدرجة الأولى تنبتّ عندما تصطدم بالعقيدة فالأحرى أن تنبتّ صلات الدم والعرق والوطن واللون إذا اصطدمت مصلحة العقيدة.

وقد حصر الإسلام الأخوة والموالاة بين المؤمنين فقط قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10]، وقطع الولاية بين المؤمنين والكافرين من المشركين واليهود والنصارى حتى ولو كانوا أباءهم أو إخوانهم أو أبناءهم ووصف من يفعل ذلك من المؤمنين بالظلم مما يدل على أن موالاة المؤمنين للكافرين من أعظم الذنوب قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [التوبة: 23].

وقد وضع القرآن الكريم مصالح المسلم وعلاقاته الدنيوية كلها في كفّة ووضع حب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم والجهاد في سبيل العقيدة في كفّة أخرى، وحذر المؤمنين وتوعدهم إن هم غلّبوا مصالحهم وعلاقاتهم الاجتماعية على مصلحة العقيدة قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [التوبة: 24] وقد نزلت هذه الآيات من سورة التوبة في الحضِّ على الهجرة إلى المدينة المنورة للدفاع عن الدولة الإسلامية التي نشأت فيها... وقد نجح الصحابة الكرام في امتحان العقيدة... ففارقوا الأهل والأموال والمساكن التي يحبونها وهاجروا إلى الله تعالى ورسوله والجهاد في سبيله.

وخلاصة القول أنَّ المجتمع المدني الذي أقامه الإسلام كان مجتمعاً عقدياً يرتبط بالإسلام، ولا يعرف الموالاة إلا لله ولرسوله وللمؤمنين. وهو أعلى أنواع الارتباط وأرقاها إذ يتصل بوحدة العقيدة والفكر والروح فالمؤمنون بعضهم أولياء بعض تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم، وهذا المجتمع مفتوح لمن أراد أن ينتمي اليه مهما كان لونه أو جنسه على أن يخلع من صفاته الجاهلية ويكتسب الشخصية الإسلامية ليتمتع بسائر حقوق المسلمين.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

يتبع...

الحلقة السابقة هـــنا

(1) ابن سعد : الطبقات : ج1 قسم 2 ص9، وابن سيد الناس: عيون الأثر 1/200.

(2) البخاري : الصحيح 5/329.

(3) المصدر السابق : 2/329.

(4) البلاذري : أنساب الأشراف 1/270.

(5) ابن سيد الناس : عيون الأثر 1/200 ، وابن كثير : السيرة النبوية 2/328.

(6) ابن سعد : الطبقات : ت ج 1 قسم 2/9، والبلاذري : أنساب الأشراف 1/270.

(7) سنن النسائي 6/137.

(8) انظر تفسير الآية للشوكاني : فتح القدير 2/330-331 ، وعن سبب النزول انظر بسند الطياسي 2/19، ومجمع الزوائد للهيثمي 7/28.

(9) صحيح البخاري : 3/119 – 6/55 - 56 8/190-191.

(10) صحيح مسلم : 4/1960 الحاشية.

(11) سيرة ابن هشام 2/75.

(12) ابن كثير : البداية والنهاية 2/206-207.

(13) سنده في كتاب التفسير 5/90.

(14) الحميدي : المسند 2/520.

(15) الهيثمي : مجمع الزوائد 9/37.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين