مجتمع المدينة قبل الهجرة وبعدها (2)

أثر الهجرة في التكوين الاجتماعي لسكان المدينة:

وقدم المهاجرون إلى المدينة المنورة - كما أطلق على يثرب في الإسلام - وكانوا في البدء من عشائر مختلفة من قريش، ثم استمرت الهجرة وصار حقاً على المسلمين الجدد في أرجاء الجزيرة أن يهاجروا إليها، وظلَّ الأمر كذلك حتى أوقفت الهجرة رسمياً بعد فتح مكة عام ثمان للهجرة.

والهجرة حدث عظيم استحق أن يكون بداية العام الهجري الجديد عند المسلمين منذ أن وضع الخليفة عمر ابن الخطاب رضي الله عنه التقويم الهجري.

فالهجرة كانت دليلاً على الإخلاص والتفاني في سبيل العقيدة فقد فارق المهاجرون وطنهم ومالهم وأهليهم ومعارفهم استجابة لنداء الله ورسوله. ولما اعترضت قريش سبيل صهيب الرومي رضي الله عنه بحجة أنه جمع أمواله من عمله بمكة ولم يكن ذا مال قبل قدومه مكة، ترك لهم أمواله وهاجر بنفسه فبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ربح صهيب (1). ومنع المشركون أبا سلمة رضي الله عنه من الهجرة بزوجته وابنه فلم يمنعه ذلك من الهجرة وحيداً تاركاً زوجته وطفله، وقد ظلت زوجته أم سلمة تخرج كل غداة بالأبطح تبكي حتى تمسي نحو سنة حتى تمكنت من الهجرة بابنها ولحقت بزوجها(2). وهكذا فإن الهجرة اقترنت بظروف صعبة كانت تمحيصاً لإيمان المؤمنين واختباراً لقوة عقيدتهم، واستعلاء إيمانهم على الأعراض والمصالح والعلائق الدنيوية.

وقد دلت أحداث الهجرة على سلامة التربية المحمدية للصحابة رضوان الله عليهم فقد صاروا مؤهلين للاستخلاف في الأرض وتحكيم شرع الله تعالى والقيام بأمره والجهاد في سبيله وهم يُقبلون على بناء دولة المدينة المنورة بعد أن كانوا مستضعفين في الأرض يخافون أن يتخطّفهم الناس.

وقد اختار الله تعالى المدينة لهجرة المسلمين لما صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (قد أُريت دار هجرتكم، أُريت سبخة ذات نخل بين لابنين). رواه البخاري ومسلم (3).

وتأخر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الهجرة وأخَّر معه أبا بكر الصديق رضي الله عنه حتى أذن الله تعالى له بالهجرة. قالت عائشة رضي الله عنها: وتجهز أبو بكر قِبَل المدينة فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي، فلما أذن الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج لم يعلم أحداً بذلك إلاً علياً وأبا بكر وآله، وكان المشركون قد غاظتهم هجرة المسلمين فأتمروا لقتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال: 30]

وقد خرج الاثنان إلى جبل ثور حيث أويا إلى غار فيه وتعقبهم المشركون إلى المكان حتى بَدَت أقدامهم خارج الغار فقال الصديق رضي الله عنه: لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا! فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثها)، متفق عليه (4) لكنّ الله تعالى صرف المشركين عنهما فلم يفطنوا لهما وخرج الاثنان بعد ثلاثة أيام في طريقها إلى المدينة (5) يقطعان الصحراء ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد بلغ الثالثة والخمسين وأبو بكر رضي الله عنه الحادية والخمسين، لكن القلوب الموصولة بالله تعالى لا يُعيقها شيء عن بلوغ القصد وتحقيق أهداف الرسالة، ورسالة الإسلام جاءت تنظم أمور العبادات والمعاملات فهي دستور للحياة لابدَّ لتطبيقه من أرض وأمَّة تقام فيها أحكام الله تعالى التي اكتمل تشريعها فيما نزل في المدينة المنورة من قرآن وما نطق به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو عمله أو أمره من سنة... وهي تعطي صورة لأمثل دولة ضمَّت أمثل مجتمع ظهرت في تاريخ البشر، وهي النموذج الذي ينبغي على المسلمين في كل زمان ومكان أن يحتذوه ليكفلوا لأنفسهم سعادة الدارين ويبتعدوا عن الشقاء والحياة الضنكى والضياع وسط ركام الجاهلية الذي يزحف من كل مكان ولا منجى لهم إلا بالعودة إلى الله تعالى والاقتداء بهدي رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

استجابة المسلمين للأمر بالهجرة:

منذ أمر الله تعالى المسلمين بالهجرة إلى المدينة المنورة نزلت الآيات القرآنية في الحثِّ على الهجرة وبيان فضل المهاجرين، فقد كانت الدولة الإسلامية الناشئة في المدينة المنورة بحاجة إلى المهاجرين من المؤمنين ليتوطّد سلطان الإسلام فيها إذ يغالبه اليهود والمشركون والمنافقون، وتحيط به قوى الأعراب والمشركين من حول المدينة، ويترصد كفار قريش الذين اقضت الهجرة مضاجعهم فمضوا يخططون للإجهاز على كيان الإسلام الفتي ودولته الناشئة، لذلك تابعت الآيات في الأمر بالهجرة وبيان فضلها وعظم أجرها حتى وعد الله تعالى المهاجرين بمنعهم وتمكينهم من مراغمة أعدائهم والتوسعة عليهم في أرزاقهم، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 100] أي أن الذين يخرج بنيَّة الهرجة فيموت في الطريق فقد حصل له عند الله ثواب من هاجر. وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ [الحج: 58] فهنا أقسم تعالى أن يرزق المهاجرين في سبيله رزقاً حسناً سواء قُتلوا في الجهاد أو ماتوا في فراشهم في غير جهاد.

وقد منع القرآن الكريم المسلمين القادرين على الهجرة من الإقامة مع المشركين قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّىٰهُمُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ ظَالِمِيٓ أَنفُسِهِمۡ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمۡۖ قَالُواْ كُنَّا مُسۡتَضۡعَفِينَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ قَالُوٓاْ أَلَمۡ تَكُنۡ أَرۡضُ ٱللَّهِ وَٰسِعَةٗ فَتُهَاجِرُواْ فِيهَاۚ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا٩٧ إِلَّا ٱلۡمُسۡتَضۡعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلۡوِلۡدَٰنِ لَا يَسۡتَطِيعُونَ حِيلَةٗ وَلَا يَهۡتَدُونَ سَبِيلٗا٩٨ فَأُوْلَٰٓئِكَ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَعۡفُوَ عَنۡهُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَفُوًّا غَفُورٗا٩٩﴾[النساء:97-99].

وذلك لأن الإقامة مع المشركين فيها تكثير سوادهم وانتفاعهم بالمسلمين في صناعاتهم وزروعهم، بل ربما اضطروهم للمشاركة معهم في حربهم ضد المسلمين كما وقع في غزوة بدر الكبرى، بالإضافة إلى تعرضهم للفتنة من قبل الكفار لصرفهم عن دينهم، ولا يخفى ما في بعدهم عن دولة الإسلام من منع استفادة المسلمين منهم في حربهم ومصالحهم وتكثير سواد هم لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « من جامع مشركاً وسكن معه فإنه مثله» رواه أبو داود(6).

وقد تأخر بعض المسلمين بمكة عن الهجرة تحت ضغوط أزواجهم وأولادهم فلما هاجروا من بعد ورأوا الذين سبقوهم من المهاجرين وقد تفقهوا في الدين هموا بمعاقبة أزواجهم وأولادهم وكان ذلك سبباً في نزول الآية الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ﴾ [التغابن: 14].

ويتَّضح من ذلك كله أنَّ الهجرة كانت فرضاً في "أول الإسلام على من أسلم حتى إذا كانت غزوة الأحزاب سنة خمس للهجرة وتبيَّنت قدرة الدولة الإسلامية على الدفاع عن نفسها وحماية كيانها أمام قوى الأحزاب مجتمعين لم تعد بحاجة إلى مهاجرين جدد، فقد تغيرت خطة الدولة الإسلامية من الدفاع إلى الهجوم وعبَّر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك بقوله: (الآن نغزوهم ولا يغزوننا)

وكذلك ضاقت المدينة بسكانها المتزايدين وما يحتاجونه من القوت والمسكن فطلب رسول الله الكريم من بعض المهاجرين بعد الخندق العودة إلى ديارهم قائلاً (هجرتكم في رحالكم) إذ لم تعد ثمة حاجة لإقامتهم في المدينة بل صار بقاؤهم في قبائلهم أجدى لقيامهم بالدعوة إلى الإسلام خارج المدينة وتوسيع انتشار الإسلام.

ولكنَّ ذلك لا يعتبر وقفاً رسمياً للهجرة، بل إن إعلان وقف الهجرة كان بعد فتح مكة حيث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية واذا استنفرتم فانفروا) أخرجه البخاري. وهذا سقط فرض الهجرة إلى المدينة وبقي فرض الجهاد والنيَّة على من قام به أو نزل به عدو، لكن الهجرة باقية الحكم في حق من أسلم في دار الكفر ولم يأمن الفتنة على دينه مع قدرته على الخروج منها.

لقد أدت الهجرة المستمرة إلى تنوع سكان المدينة المنورة فلم يعودوا قاصرين على الأوس والخزرج ويهود بل نزل معهم المهاجرون من قريش وقبائل العرب الأخرى... والمجتمع المدني الجديد أرسيت قواعده وشيِّد بنيانه على أساس روابط العقيدة التي استعلت على ارتباطات القبيلة وعصبيتها وسائر الروابط الأخرى، وبرزت فكرة الأمَّة الواحدة كما سيتضح عند دراسة دستور المدينة المنورة وتقسيمات السكان صار أساسها عقديا وصاروا يقسمون إلى ثلاث مجموعات هي:

 المؤمنون المنافقون اليهود

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

يتبع...

الحلقة السابقة هـــنا

(1) الحاكم : المستدرك (3/398، وقال صحيح على شرط مسلم.

(2) انظر سيرة ابن هشام.

(3) صحيح البخاري 7/186، وصحيح مسلم 7/57.

(4)صحيح البخاري 7/2177، وصحيح مسلم 7/109.

(5) أحمد: المسند رقم351 ، وانظر ابن كير : البداية والنهاية 3/187-188.

(6) الحديث أخرجه الترمذي سنن 4/202، وقال هذا حديث حسن صحيح ،والحاكم في المستدرك 3/490، وقال :صحيح الاسناد ولم يخرجاه وأقره الحافظ الذهبي.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين