مجتمع المدينة قبل الهجرة وبعدها (1)

المجتمع المدني:

(يثرب) - وهو الاسم القديم للمدينة المنورة - واحة خصبة التربة كثيرة المياه تحيط بها الحرات من جهاتها الأربع وأهمها حرة واقم من الشرق وحرة الوبرة في الغرب، وحرة واقم أكثر خصوبة وعمراناً من حرة الوبرة، ويقع جبل أحد شمالها وجبل عسير في جنوبها الغربي، وتقع فيها عدة وديان أشهرها وادي بطحان ومذينيب ومهزور والعقيق وهي منحدرة من الجنوب إلى الشمال حيت تلتقي عند مجتمع الأسيال من رومة.

وقد ورد اسم يثرب في الكتابات المعينية ما يدل على قدمها (1)، ولكن معلوماتنا عن تاريخها الذي يسبق الإسلام قليلة ومشتَّتة وتبدو أكثر وضوحاً كلما اقتربنا من الفترة الإسلامية.

اليهود:

تختلف النظريات حول أصل يهود المدينة المنورة -والحجاز عامَّة - والمكان الذي هاجروا منه والزمان الذي قدِموا فيه، ولكن أقواها يميل إلى أن بداية نزوحهم من الشام في القرنين الأول والثاني بعد الميلاد بعد أن نجح الرومان في السيطرة على سورية ومصر في القرن الأول. ق. م. وعلى اليهود ودولة الأنباط في القرن الثاني بعد الميلاد، مما أدىَّ باليهود إلى الهجرة إلى شبه جريرة العرب التي كانت بعيدة عن سيطرة الرومان الذين أفزعوهم.

غير أن هجرة اليهود إلى الحجاز اشتدت بعد فشل الثورة اليهودية ضد الرومان والتي أخمدها الامبراطور تيتوس في عام.٧م، وقد وصل بعض هؤلاء اليهود المهاجرين إلى يثرب كما وصلت مجموعة أخرى من اليهود إلى المدينة.

ولا تذكر المصادر إحصاء لعدد اليهود، لكن كتب السيرة ذكرت أعداد المقاتلين - وهم عادة الرجال البالغون - من كل قبيلة وهم سبعمائة من بني قينقاع ومثلهم تقريباً من بني النضير وما بين السبعمائة والتسعمائة من بي قريظة (2).

فالمقاتلون من يهود القبائل الثلاث يزيدون قليلاً على الألفين، هذا سوى بقية بطون يهود الأخرى الأقل أهمية والتي تسكن في أماكن متناثرة من يثرب أيضاً حيث يذكر السمهودي أنها تزيد على العشرين بطناً (3).

ولا شك أن المجتمع المدني الذي خضع لسيطرة اليهود قبل أن يتقوى كيان العرب فيه خضوعاً تاماً اقتصادياً وسياسياً وفكرياً حيث ترك اليهود بعض طوابعهم عليه. من ذلك أن اليهود نقلوا من الشام إلى يثرب فكرة بناء الآطام حيث بلغ عددها في يثرب تسعاً وخمسين أطماً (4) ، كما حملوا معهم خبراتهم الزراعية والصناعية مما أثر في ازدهار بساتين يثرب حيث النخيل والأعناب والرمان وبعض الجوز، كما ظهر الاهتمام بتربية الدواجن والماشية، وبرزت صناعات النسيج الذي تحوكه النِّسوة إلى جانب الأواني المنزلية وبعض الأدوات الأخرى اللازمة للمجتمع الزراعي. وكما أثَّر اليهود على مجتمع المدينة فقد تأثروا بالعرب من حولهم فظهرت طوابع الحياة القبلية على يهود بما فيها من عصبية وكرم واهتمام بالشعر وتدريب على السلاح، وطغيان النزعة القبلية على جهود جعلهم لا يعيشون ككتلة دينية واحدة بل قبائل متنازعة لم تتمكن من توحيد صفها حتى في عصر النبوة عندما واجهت أحداث الجلاء.

وبالطبع كان على رأس الأعمال الاقتصادية التعامل بالربا والذي يتقنه اليهود في كل مكان. وإن كان الربا معروفاً في مجتمع مكة التجاري أيضاً.

العرب:

وقد سكن الأوس والخزرج يثرب التي سبقهم إليها يهود، وتملكوا أخصب بقاعها وأعذبها مياها، مما اضطر الأوس والخزرج إلى سكنى الأراضي المهجورة من يثرب وينتمي الأوس والخزرج إلى قبيلة الأزد اليمانية الكبيرة والتي خرجت من اليمن إلى الشمال في فترات مختلفة ربما أقدمها في حدود عام 207م عندما هاجرت خزاعة إلى مكة.

واختلف المؤرخون في سبب هجرة الأزد فبعضهم يرجع ذلك إلى انهيار سد مأرب وحدوث سيل العرم، وبعضهم يقلل من أثر انهيار السد ويعزو ذلك إلى الاضطرابات السياسية والتدهور الاقتصادي الذي نجم عن سيطرة الرومان على البحر الأحمر وانتقال تجارة الهند عبره وهو الأرجح لشمول تأثير ذلك على السكان ومنهم الأزد التي كان معظمهم يسكن خارج منطقة سد مأرب (5).

وممن هاجر من الأزد الأوس والخزرج الذين استقروا بيثرب إلى جانب يهود.

فسكن الأوس منطقة العوالي بجوار قريظة والنضير، وسكن الخزرج سافلة المدينة حيث جاوروا بني قينقاع وكانت ديار الأوس أخصب من ديار الخزرج مما كان له أثر في المنافسة والصراع بين الطرفين(6).

ويحدد سديو تاريخ هجرتهم بعام 300م ثم سيطرتهم على يثرب في عام 492 م (7)، ولا شك أن ثمة تحولات اقتصادية وسكانية حدثت لصالح العرب وتمثلت في زيادة عدد هم وثروتهم(8)، ولا يوجد احصاء لعدد الأوس والخزرج ولكن القبيلتين قدمتا أربعة آلاف مقاتل للجيش الإسلامي الذي ذهب لفتح مكة سنة 8هـ (9)، وقد مهدت هذه التحولات لسيطرتهم على يثرب التي كانت السيادة فيها ليهود وقد حاول اليهود الدفاع عن تسلطهم بتفتيت وحدة العرب من أوس وخزرج وإثارة الشقاق بينهم فأفلحوا في إذكاء العداوة وقيام الحروب بين الجانبيين، وآخر ذلك يوم بعاث (10) قبل الهجرة بخمس سنوات حيث هزم الأوس الخزرج الذين طالما غلبوهم من قبل لتفوق قواتهم عليهم حتى لجأت الأوس إلى محالفة يهود النضير والقريظة فغلبتهم في بعاث، ولكنهم فطنوا إلى خطورة الإجهاز عليهم وأن ذلك يمكن لليهود من استعادة سيطرتهم على يثرب لذلك سعوا إلى المصالحة معهم، بل إن الجانبين اتفقا على ترشيح رجل من الخزرج هو عبد الله بن أبي بن سلول الذي وقف مع أهله على الحياد في (بعاث) ليكون ملكاً على يثرب مما يدل على تمكن العرب من المحافظة على قوتهم وتفوقهم على يهود بعد بعاث.

ولا شك أن وقائع أيام العرب بين الأوس والخزرج ولَّدت شعورا بالمرارة عند الطرفين ورغبة قوية في العيش بهدوء وسلام وهذا الشعور كان يرافق استقبال يثرب للإسلام حاملاً معه بشائر التآخي والسلام، وقد عبَّرت السيدة عائشة رضي الله عنها عن أثر الحروب والمنازعات في إقبال أهل المدينة على الإسلام بقولها: (كان يوم بعاث يوماً قدَّمه الله لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم فقدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد افترق ملؤهم وقتلت سرواتهم وجرحوا، قدَّمه الله لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم في دخولهم الإسلام(11).

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

يتبع...

(1) جواد علي : تاريخ العرب قبل الإسلام 3/295.

(2) ابن هشم السيرة 2/248-259 (تحقيق محيي الدين عبد الحميد) وانظر أحمد إبراهيم الشريف ص 294,

(3) وفاء الوفاء 1//112.

(4) السمهودي : وفاء الوفاء 1/116.

(5) أحمد إبراهيم :مكة والمدينة ص 315 ، ومحمد بيومي مهران: دراسات في تاريخ العرب القديم ص458-459.

(6) المصدر السابق ص337-340.

(7) سديو: تاريخ العرب العام ترجمة عادل زعيتر ص51.

(8) السمهودي : وفاء الوفاء 1/125-126 ، وأحمد إبراهيم الشريف : مكة المدينة في الجاهلية وعهد الرسول ص 325.

(9) أحمد إبراهيم الشريف : مكة والمدينة 348.

(10) ابن الأثير الكامل 1/660-680.

(11) صحيح البخاري 5/44 ، وانظر 5/67 منه أيضاً وابن هشام السيرة 1/183.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين