الجنة والنار موجودتان الآن؟

أرسل أحد الإخوة من طلبة العلم، يسألني عن رأيي في هذا التسجيل المرئي للدكتور زغلول النجار، حفظه الله، الذي ينفي فيه ما ذهب إليه علماء أهل السنة قاطبة، من أن الجنة موجودة الآن، وكذلك النار.

الفيديو هـــنا

فكتبتُ في جوابه:

أصلحه الله وغفر له.

نحب الدكتور زغلول، ولكن حبنا للحق أشد.

لقد تجاوز الدكتور الفاضل اختصاصه في هذه المسألة، فأتى بما لا يُقبل.

وحسبك دلالة على ثغرة (التخصص) في كلامه، اجتهادُه في إنكار أن تكون الجنة موجودة الآن، الذي حمله على إنكار أن يكون آدم قد أهبط من جنة الخلد، حتى لقد جعل ذلك من قبيل الإسرائيليات أو الأساطير التي لا أساس لها من الصحة أبدا كما قال.

مع أن ما أنكره هو ما أطبق على إقراره أهل السنة والجماعة، حتى لقد حكى بعضهم إجماعهم عليه، كما سيأتي إن شاء الله في النقل عن تفسير القرطبي رحمه الله.

وحسبك دلالة على الخطورة الدينية في كلامه، هذا النقلُ الذي أنقله لك من كلام الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، حول هذه المسألة.

فإنه قال في كتابه: (أصول السنة) [ص 59] ما يلي:

والجنة والنار مخلوقتان، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: دخلتُ الجنة فرأيتُ قصرا ورأيتُ الكوثر.

واطلعتُ في الجنة فرأيت أكثر أهلها كذا.

واطلعت في النار فرأيت كذا وكذا.

فمن زعم أنهما لم تخلقا فهو مكذب بالقرآن وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحسبه يؤمن بالجنة والنار. اهـ

إن تقريرات الدكتور زغلول واحتجاجاته عليها في هذا التسجيل، هي نفس تقريرات واحتجاجات المعتزلة الذين يُعْلُون من شأن قناعاتهم العقلية، ولو على حساب النصوص.

كان على الدكتور زغلول حفظه الله أن يتذكر أن أخبار الغيب لا تخضع لمعايير وحسابات العلوم الكونية الدنيوية المادية، التي يُشهَد له فيها بطول الباع، وقد نفع الله به كثيرا في ذلك.

وكان عليه أن يرجع إلى هذا البحث في مظانه عند أهله، لينظر كيف وجه المفسرون وشراح الحديث النصوص، وأجابوا على كل الإشكالات التي أوردها.

ولعل كلامه يشي بأنه قد رجع إلى أقوال المفسرين فلم يقتنع بها.

وهذا شأنه في قناعته.

لكننا أيضا، لا ندع كلام ربنا، والثابتَ في حديث نبينا صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، لقول الدكتور زغلول، ولا لقول غيره.

وإلا فكيف ينفي الدكتور أن الجنة موجودة الآن، بعد قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]؟ فقال سبحانه: (أُعِدَّتْ) ولم يقل: سوف تُعَدّ..

هذه الآية التي تحاشا الدكتور أن يذكرها أو أن يجيب عليها، ولم يوردها عليه أحد من الحضور في مناقشته، مع أنها وثيقة الصلة بالبحث، بل هي تنقض كل ما قرره.!

هذه الآية هي عُمدة علماء أهل السنة فيما ذهبوا إليه من أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن حقيقة.

بالإضافة إلى ما ثبت في الصحيحين وغيرهما في غير موضع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أُرِيَ الجنة والنار.

وليس كما زعم الدكتور زغلول من أن الجنة موجودة في علم الله فحسب.

قال النووي عند شرح حديث الإسراء في صحيح مسلم: وفي هذا الحديث دلالة لمذهب أهل السنة أن الجنة والنار مخلوقتان، وأن الجنة في السماء. اهـ

وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري عند شرح حديث الكسوف من صحيح البخاري: وفيه أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان اليوم. اهـ

وفي تفسير البحر المحيط لأبي حيان، عند قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [البقرة: 24] قال: مذهب أهل السنة أن الجنة والنار مخلوقتان على الحقيقة، وذهب كثير من المعتزلة والجهمية والنجاومية إلى أنهما لم يُخلقا بعد. اهـ

ثم أين يذهب الدكتور زغلول، بحديث الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: يَا آدَمُ، أَنْتَ أَبُونَا، خَيَّبْتَنَا وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ الْجَنَّةِ. قَالَ لَهُ آدَمُ: يَا مُوسَى، اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكَلَامِهِ، وَخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ، أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً؟ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى ثَلَاثًا ".

فهل يرى فضيلة الدكتور حفظه الله، أن ملامة موسى آدم، عليهما السلام، كانت من أجل خروج آدم من بستان باذخ من بساتين الدنيا؟!

وهل حُرِمتْ ذرية آدم من البساتين والجنان الغناء في مختلِف الأعصار والأقطار، بعد إهباط آدم من ذلك البستان المزعوم في مرتفع من الأرض؟!!

وأما استشكال الدكتور زغلول حفظه الله، بقوله تعالى عن الجنة: {عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} وبأن أرض الشام التي هي أرض المحشر، لا يمكن أن تتسع للبلايين من بني آدم.. فإشكال مدفوع بالثقة في تمام قدرة الله تعالى الذي لا يعجزه شيء، وهذا يقين لا موضع للتردد فيه، فلا نكلف أنفسنا حمل الهم في كيفية تحقق خبر الوحي، وكأننا شركاء في التدبير، وكأن الذي يعسر على تدبيرنا فهو على ربنا عسير. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

حسبنا يقيننا أن كل ما أخبر به الوحي، فهو كائن لا محالة، وأن ربنا سبحانه {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}

هذا مع أن التصور الذي وضعه الدكتور زغلول لحل الإشكال، المتمثل في الأرض الجديدة الشاسعة جدا.. سيواجه إشكالا آخر من جنس الأول، لم يأت الدكتور على ذكره، وهو: إذا كانت الجنة تستوعب حيّز السموات والأرض، فأين موضع جهنم؟؟

وهو إشكال مدفوع عندنا أيضا بقوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} الذي دفعْنا به الإشكال الأول.

وقد وُوجِه النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الإشكال غير مرة، فدفعه بنحو ذلك.

ففي صحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أرأيت جنة عرضها السموات والأرض، فأين النار؟ قال: أرأيت الليل الذي قد ألبس كل شيء، فأين جُعِل النهار؟ قال: الله أعلم. قال: كذلكَ الله يفعل ما يشاء. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولا أعلم له علة. ووافقه الذهبي في التلخيص.

أجل، ما أيسر دفع هذا الإشكال بمبدأ: { كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} الذي أجاب الله تعالى به تساؤل زكريا عليه السلام، في قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [آل عمران: 40]

وبه أجاب سبحانه تساؤل مريم عليها السلام، في قوله تعالى: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 47]

وفي مسند الإمام أحمد، أن هرقل كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم كتابا، جوابا لكتابه الذي بعث به إليه مع دحية الكلبي رضي الله عنه، يدعوه إلى الإسلام، وكان فيما جاء في كتاب هرقل إلى النبي صلى الله عليه وسلم: تَدْعُونِي إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، فَأَيْنَ النَّارُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! أَيْنَ اللَّيْلُ إِذَا جَاءَ النَّهَارُ؟

وقد أورد ابن كثير رحمه الله، الحديثين السابقين في تفسير آية آل عمران: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] ثم قال:

وهذا يحتمل معنيين:

أحدهما: أن يكون المعنى في ذلك: أنه لا يلزم من عدم مشاهدتنا الليل إذا جاء النهار ألا يكون في مكان، وإن كنا لا نعلمه، وكذلك النار تكون حيث يشاء الله عز وجل، وهذا أظهر..

الثاني: أن يكون المعنى: أن النهار إذا تغشى وجه العالم من هذا الجانب، فإن الليل يكون من الجانب الآخر، فكذلك الجنة في أعلى عليّين فوق السماوات تحت العرش، وعرضها كما قال الله عز وجل: {كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرْضِ} [الحديد:21] والنار في أسفل سافلين. فلا تنافي بين كونها كعرض السماوات والأرض، وبين وجود النار، والله أعلم. اهـ

هذا وأما باقي الإشكالات التي أثارها الدكتور زغلول في الاحتجاج إلى ما ذهب إليه من أن الجنة لم تخلق بعد، وأن آدم لم يكن في جنة الخلد حين أكل من الشجرة، فقد أثارها المعتزلة من قبل، وأجابهم عليها أبو عبد الله القرطبي المفسر، عند تفسير قوله تعالى في البقرة: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35] حيث قال:

ولا التفات لما ذهبت إليه المعتزلة والقدرية من أنه لم يكن في جنة الخلد وإنما كان في جنة بأرض عدَن. واستدلوا على بدعتهم بأنها لو كانت جنة الخلد لما وصل إليه إبليس، فإن الله يقول: "لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ" [الطور: 23] وقال: "لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً" [النبأ: 35] وقال: "لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً. إِلَّا قِيلًا سَلاماً" [الواقعة: 26- 25]. وأنه لا يخرج منها أهلها لقوله: "وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ" [الحجر: 48]. وأيضا فإن جنة الخلد هي دار القدس، قدست عن الخطايا والمعاصي تطهيرا لها. وقد لغا فيها إبليس وكذب، وأُخرِج منها آدم وحواء بمعصيتهما. قالوا: وكيف يجوز على آدم مع مكانه من الله وكمال عقله، أن يطلب شجرة الخلد وهو في دار الخلد والملك الذي لا يبلى؟ فالجواب: أن الله تعالى عرَّف الجنة بالألف واللام، ومن قال: أسأل الله الجنة، لم يفهم منه في تعارف الخلق إلا طلب جنة الخلد. ولا يستحيل في العقل دخول إبليس الجنة لتغرير آدم، وقد لقي موسى آدمَ عليهما السلام، فقال له موسى: أنت أشقيت ذريتك وأخرجتهم من الجنة. فأدخل الالف واللام ليدل على أنها جنة الخلد المعروفة، فلم ينكر ذلك آدم، ولو كانت غيرها لرد على موسى، فلما سكت آدم على ما قرره موسى صح أن الدار التي أخرجهم الله عز وجل منها، بخلاف الدار التي أخرجوا إليها. وأما ما احتجوا به من الآي، فذلك إنما جعله الله فيها بعد دخول أهلها فيها يوم القيامة، ولا يمتنع أن تكون دار الخلد لمن أراد الله تخليده فيها، وقد يخرج منها من قضي عليه بالفناء. وقد أجمع أهل التأويل على أن الملائكة يدخلون الجنة على أهل الجنة ويخرجون منها، وقد كان مفاتيحها بيد إبليس ثم انتزعت منه بعد المعصية، وقد دخلها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة الاسراء ثم خرج منها، وأخبر بما فيها، وأنها هي جنة الخلد حقا. وأما قولهم: إن الجنة دار القدس وقد طهرها الله تعالى من الخطايا، فجهْلٌ منهم، وذلك أن الله تعالى أمر بني إسرائيل أن يَدخلوا الأرض المقدسة وهي الشام، وأجمع أهلُ الشرائع على أن الله تعالى قَدَّسها، وقد شوهد فيها المعاصي والكفر والكذب، ولم يكن تقديسها مما يمنع فيها المعاصي، وكذلك دار القدس. قال أبو الحسن بن بطال: وقد حكى بعض المشايخ أن أهل السنة مجمعون على أن جنة الخلد هي التي أهبط منها آدم عليه السلام، فلا معنى لقول من خالفهم. وقولهم: كيف يجوز على آدم في كمال عقله أن يطلب شجرة الخلد وهو في دار الخلد، فيعكس عليهم ويقال: كيف يجوز على آدم وهو في كمال عقله أن يطلب شجرة الخلد في دار الفناء؟! هذا ما لا يجوز على من له أدنى مسكة من عقل، فكيف بآدم الذي هو أرجح الخلق عقلا، على ما قال أبو أمامة؟ اهـ من تفسير القرطبي

والله أعلم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين