تفسير سورة قريش(1)

قول الله جلَّ ثناؤه: ﴿لِإِيلَٰفِ قُرَيۡشٍ١ إِۦلَٰفِهِمۡ رِحۡلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيۡفِ٢ فَلۡيَعۡبُدُواْ رَبَّ هَٰذَا ٱلۡبَيۡتِ٣ ٱلَّذِيٓ أَطۡعَمَهُم مِّن جُوعٖ وَءَامَنَهُم مِّنۡ خَوۡفِۢ٤﴾ [قريش:1-4].

فهذه السورة الكريمة، من أقصر قصار المفصَّل في القرآن، وهي على قصرها تنطوي على معانٍ كثيرة، وتشير إلى معارف شتى، لا يقوم بحقِّها إلا كتاب يؤثر الإطناب والاستقصاء، على الإيجاز والتلخيص.

ولولا ما أخذنا به أنفسنا من التزام القصد، وتجنُّب الإطالة، لكان لنا في هذا المجال تجوال أي تجوال.

غير أننا – التزاماً لما أخذنا أنفسنا به – نُجمل القول منها حول النقاط الآتية:

1 – ما معنى الإيلاف، وما المراد منه؟

2 – ما معنى كلمة (قريش) وماذا يُراد بها؟

3 – ما وجه المنَّة الإلهيَّة على قريش في إيلافها الرحلتين؟

4 – ما سرُّ العناية الربَّانيَّة بقريش؟

فأما الإيلاف: (فإنه دائر في اللغة حول الأنس وعدم الوحشة، يقول الإمام الطبرسي: (الإيلاف: إيجاب الإلف بحسن التدبير والتلطف، يقال: ألف يألف إلفاً، وآلفه يؤلفه إيلافاً، إذا جعله يألف، فالإيلاف نقيض الإيحاش، ونظير الإيناس، وإلْفُ الشيء: لزمه على عادة في سكون النفس إليه.

وأوالف الطير هي دواجنها التي تألف البيوت وتلزمها، وأوالف الحمام هي التي ألفت مكة والحرم شرفهما الله تعالى. ومن ذلك قول ذي الرمَّة:

ذكرت إذ مرَّت بنا أم شادن = أمام المطايا تشرئب وتسنح

من المؤلفات الرمل أدماء حرة = شعاع الضحى في جيدها يتوضح.

من المعاني اللغوية لكلمة (إيلاف): أن يصير ما دون الألف ألفاً، تقول: آلفت دنانير فلان تعني أنها صارت ألفاً وقد كانت دون ذلك.

ومن معانيها: أن يبلغ عدد القبيلة ألفاً، تقول: لقينا أعداءنا مؤلفين فقهرناهم، وعليه قول الشاعر:

وآل مزبقياء غداة لاقوا = بني سعد بن ضبة مؤلفينا

ومن معانيها: أن يكون المرء صاحب ألف من الإبل أو الغنم أو ما شاكل ذلك، يقول القائل: آلف فلان إيلافاً فهو مؤلف يعني أنه صاحب ألف، ومنه قول الكميت بن زيد الأسدي:

بعام يقول له المُؤلِفُو = ن هذا المعيم لنا المرجل

يعني أنه عام شديد القسوة، بالغ الجدابة، هزلت فيه الأنعام فلم تعد قادرة على إعطاء اللبن ولا على حمل الراكب، فأصبح صاحب الألف من الإبل عيمان مرجلًا يعني شديد الشهوة إلى اللبن مضطراً إلى السير راجلاً.

والإيلاف في الآية الكريمة تختلف فيه آراء أهل العلم بالقرآن.

فالهروي يقول: الإيلاف حبال؛ أي: عهود كانت بين قريش وبين ملوك العجم، فكان هاشم يؤالف إلى ملك الشام، وكان المطلب يؤالف إلى كسرى، وكان عبد شمس يؤالف إلى ملك مصر، وكان نوفل يؤالف إلى ملك الحبشة.

وقد كان هؤلاء الإخوة – من ولد عبد مناف – يسمون (المجبرين)، فكان تجار قريش يختلفون إلى الأمصار بحبل هؤلاء الإخوة، فلا يتعرض لهم معترض.

يقول الهروي: ومعنى يؤالف: يعاهد ويصالح ونحو هذا، فيكون الفعل منه آلف – بالمد – على وزن فاعل، ويكون مصدر الفعل إلافا – بغير ياء – مثل قتال، وربما كان الفعل منه أيضاً: أألف على وزن أفعل مثل أأمن، ويكون المصدر في هذه الحال إيلافًا بالياء مثل إيمان.

وقد قرأ القَرَأةُ لإلاف قريش – بغير ياء – وهي قراءة ابن عامر، فدلت هذه القراءة على صحَّة ما قاله الهروي، وكذلك قرأ أبو جعفر والوليد عن أهل الشام، وأبو حَيْوة (إلافهم) مهموزة مختلساً بلا ياء.

والأزهري يقول: والإيلاف شبه الإجارة بالخفارة، يقال: آلف يؤلف إذا أجار الحمائل بالخفارة. والحمائل: جمع حمولة وهي الإبل التي تحمل.

ثم يقول رحمه الله تعالى: وتأويل ذلك أن قريشاً كانوا سكان الحَرَم، ولم يكن لهم زرع ولا ضرع، وكانوا يميرون في الشتاء والصيف آمنين، والناس يتخطَّفون من حولهم، فإذا عرض لهم عارض قالوا: نحن أهل حرم الله، فلا يتعرَّض الناس لهم.

والسؤال بعد ذلك هو: بم يتعلق حرف الجر في كلمة (لإيلاف)؟

وجواب ذلك: أنه متعلق بسورة الفيل، من حيث كانت الصلة بين السورتين شديدة الوثاقة، وآية ذلك أن (أُبيًّا) رضي الله عنه كان يعتبر السورتين سورة واحدة، وكذلك أثبتهما في مصحفه غير مفصول بينهما.

وعلى ذلك يكون المعنى: أن الله جل ثناؤه فعل ما فعل بأصحاب الفيل من جعل كيدهم في تضليل، وجعلهم كعصف مأكول، لأجل إيلاف قريش رحلة الشتاء إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى الشام.

والذين يتدبرون القرآن في ضوء من السيرة النبوية الشريفة والتاريخ الإسلامي الموثوق، ينازعون في صحَّة هذا التعليق وصوابه، من حيث كان هلاك جيش أبرهة في العام الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان إيلاف قريش للرحلتين قبل ذلك بدهر طويل.

فلا يتصوَّر أن يكون الإهلاك المتأخِّر، سبباً للإيلاف المتقدِّم، وعلةً له، وباعثاً عليه، وإلا كان السبب متأخراً عن المسبب، وكانت العلة متأخِّرة في الوجود عن المعلول، وهذا أمر لا تقبله صحاح العقول.

وقضاء لحق هذا المعنى، سلك أهل العلم بالقرآن سبلاً مختلفة، لتطويع هذا التعلق، وإعطائه صورة سائغة، لا يضيق بها المنطق ولا تأباها القواعد.

وصفة هؤلاء الأقوال، أن الإيلاف على ضربين: إيلاف عام، شامل لكل مؤانسة وموافقة بين قريش، في مقامهم وسيرهم وجميع أحوالهم، وإيلاف خاص... والإيلاف المذكور صدر السورة هو الإيلاف بالمعنى العام، والمذكور بعده، هو الإيلاف بالمعنى الخاص، أعني إيلاف قريش رحلتها، وذكر الخاص بعد العام في هذا المقام، كذكر جبريل وميكال بعد الملائكة في سورة البقرة على ما يقول تعالى: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 98].

ولا خلاف في أنَّ الإيلاف بمعناها العام لم يكن موجوداً لقريش قبل قصَّة الفيل، وإنما نشأ بعد ذلك مضيًّا مع السنَّة البشريَّة القائمة على أنَّ الشدائد تذهب بالأحقاد وتجمع بين المختلفين، فصح أن تكون غارة أبرهة وجيشه سبباً لهذا الإيلاف وعلةً له وباعثاً عليه.

وفي معنى الإيلاف يقول الشيخ الطَّبَرْسي: (إن الله تعالى فعل بأصحاب الفيل ما فعل، لتؤلف قريش بمكة ويمكنهم المقام بها، بعد أن هابوا أبرهة وهربوا منها، فأهلكه الله لترجع قريش إلى مكة ويؤلفوا بها، ويولد بينهم محمد؛ ليبعثه الله بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.

قال الطبرسي: والإيلاف المذكور ثانياً، إنما هو ترجمة عن الأول، وبدل منه، وتحقيق ذلك: أن قريشاً كانت آمنة بالحرم من الأعداء أن تهاجمهم فيه، كما كانت آمنة كلما خرجت لتجارتها أن يتعرَّض لها متعرض، والحرم -كما هو معروف- واد جديب، وإنما كانت قريش تعيش فيه بالتجارة ولولا الأمن في جوار الحرم، لم يقدروا على التصرف، ولا أمكنهم المقام به، فلما قصد أصحاب الفيل مكة، أهلكهم الله تعالى، لتألف قريش الرحلتين اللتين بهما معيشتهم ومقامهم بمكة.

يقول الشيخ أبو السعود: إنَّ الله تعالى أهلك من قصد قريشاً من الحبشة، ليتسامع الناس، فيتهيبوهم زيادة تهيُّب، ويحترموهم فضل احترام، حتى ينتظم لهم الأمن في رحلتيهم، فلا يجترئ أحد عليهم، وهم يمتارون ويتَّجرون.

وصفوة هؤلاء الأقوال: أن كلمة الإيلاف لا يراد بها إيلاف مستأنف جديد، بحيث يلزم ذلك المحذور الذي حرص أئمة العلم بالقرآن على تجنبه فيما أوردنا من كلامهم، بل المراد هو استمرار الإيلاف ودوامه ورسوخه وثباته، وهو الإيلاف القديم الذي كان لقريش قبل غارة جيش أبرهة وهلاكه.

فالمعنى على هذا: هو أن الله تعالى أهلك الذين أرادوا الإغارة على بيته الكريم، لتدومَ لقريش الهيبة في نفوس العرب، ويزداد توقيرهم رسوخاً في الصدور، فلا يطمع فيهم طامع، ولا يزعج أمنهم مغرور، وبذلك يزداد إلفهم الرحلتين ثباتاً ورسوخاً.

واستعمال الحدث، مراداً منه الثبات والاستمرار، والرسوخ والدوام، هو من الاستعمالات المأنوسة في الأساليب العربية الفصيحة، ولهذا الاستعمال شاهد بالاعتبار، لا ترد له شهادة، فذلك قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ...﴾ [النساء: 136]. ففي تفسير هذه الآية قال جار الله الزمخشري: إن الخطاب فيها للمسلمين، ومعنى قول الله تعالى للمسلمين آمنوا: يعني اثبتوا على الإيمان، وداوموا عليه، وازدادوه.

ولا ينبغي أن يخفى أن تفسير الإيمان بالثبات على الإيمان، يرشحه أبلغ ترشيح وأقواه قول الله تعالى بعد هذه الآية: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا﴾ [النساء: 137].

وبهذا النظر يسوغ فهم الثبات على الإيمان، ومن أمر المسلم بالإيمان في الآية الشريفة.

وأما كلمة (قريش) فإن لها في اللغة عدة معان:

أحدها: التَّجمُّع والالتئام، كما يقول الشاعر:

إخوة قرشوا الذنوب علينا = في حديث من دهرهم وقديم

وثانيها: التكسب، ومن ذلك قول العربي: قرشي يقرش قرشاً إذا كسب.

وثالثها: التفتيش عن ذوي الخلة من الفقراء وذوي الحاجات، لسد خلاتهم وقضاء حاجاتهم.

وإنما سمِّيت قريش قريشاً من أجل أحد هذه المعاني، أو من أجلها جميعاً.

وقريش هي القبيلة العربية – سليلة إسماعيل – التي كانت تقطن الحرم، والتي أعطت سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شرف النسب، فأعطاها صلوات الله عليه رفعة الذكر وبُعد الصيت، وهي أولاد النضر بن كنانة بن خزيمة، فكل من كان من ولد النضر فهو قريشي، وبرهان ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنا ولد النضر ابن كنانة، لا نقفو أمنا، ولا ننتفي من أبينا) يعني: لا نترك النسب إلى الآباء لننتسب إلى الأمهات.

يتبع...

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين