رسالة سيرة النبي الأمين إلى إنسان القرن العشرين (5)

ولما هبَّت أوربا في القرن السادس عشر من غفلتها الطويلة ورقدتها العميقة، رأت أنَّ العلاج الوحيد الشافي لهذه الأمور كلها، هو التحرير من عبودية الكنيسة، لكنها لم تقطع مرحلة (لا إله) كاملة، وظنت لاكنيسة) مرادفة لِ(لا إله) فنفت الكنيسة وأسقطتها من الحساب، وسلَّطت على نفسها آلهة أخرى كثيرة، ولم يتوصل إلى (إلا الله)، وظلت تنحت آلهة جديدة - متفادية من الإله الأحد الصمد - عبر ثلاثة قرون من تاريخها الأدق، وبقيت تمثل ﴿أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ﴾ [الصافات: 95]، ولا تزال كارهة لآلهتها القديمة، ناحتة لآلهة شتى جديدة، بأسماء طريفة، وعناوين جديدة، من (ديمقراطية) و (دكتاتورية، و (رأسمالية) و (اشتراكية) و (وطنية) و (قومية)، تهوم أوربا وتتيه، قد تنشر لحمة حياتها وسداها، وقد تطويها وقد تبعثر أدوات ساعة حياتها ثم تؤلفها وتضعها في مكانها، ولكن بدون جدوى، عييت حيلها، وعجزت آلتها، أرادت أن تحكم عرى حياتها فتفككت، وأن توطد أركانها فتقوضت، وأن تشيد بنيانها فتداعى، وتحاول أن تقيم الأمور فتتعقّد بقدر ذلك، وبقدر ما تحاول أن تتخلص من المآزق تتورط فيها، ولن تجد مخلصاً ولا ملجأ من الله إلا إليه.

ومهما خطَّطت حياتها تخطيطاً بارعاً، وعدَّلت فيها وغيرت، وحذفت منها وأضافت إليها، ومهما اخترعت لها عناوين جديدة، وأشكالاً حديثة، ومهما وزعت مسئولية فرد على أفراد، أو أسندت مسئولية أفراد إلى فرد من خلاصة الأفراد، وصفوة الأشخاص الأمناء الشاعرين بالمسئولية، وطوَّقته بآلاف الحدود والقيود، وكبَّلته بآلاف القوانين والضوابط، فلن يقدم ذلك في القضية ولا يؤخر - سواء كان المسئول الأمين هو الفرد أم الجماعة، أو الأمة بأسرها - ما لم يتغير القلب ويخضع صاحبه أمام قدرة قاهرة، عليمة بصيرة، هي القدرة الإلهية، وما لم يخش قلبه مؤاخذة الله تعالى، ومحاسبة الآخرة، وما لم يتملَّك عليه الشعور بالخير والرغبة في الصلاح، والنزعة إلى الأمانة.. وذلك أنَّ الأسماء والعناوين لا تغير في الحقائق والمفاهيم.

ورسالة السيرة النبوية إلى عالم القرن العشرين - الذي تقوده اليوم أوربا من غير جدارة واستحقاق- أن يفر الضالون عن الله إلى الله، وأن لا يتخذوا من دونه إلهاً، وأن يرتموا في حضن رحمته، ويطّرحوا على عتبة عبوديته إرتماء الطفل الصغير في حجر أمه، وأطراح العبد المطيع الخاضع، الخائف الخاشع على عتبة سيده: ﴿فَفِرُّوٓاْ إلى ٱللَّهِۖ إِنِّي لَكُم مِّنۡهُ نَذِيرٞ مُّبِينٞ * وَلَا تَجۡعَلُواْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَۖ إِنِّي لَكُم مِّنۡهُ نَذِيرٞ مُّبِينٞ﴾[الذاريات:50-51].

وهي رسالة تخاطب بها السيرة النبوية العالم البشري كله كل عام، وترسلها إلى أجزاء العالم، يحملها الأثير إلى أرجاء العالم، والبحار على أمواجها، إلى الأمم والأقوام، وجميع الأقطار والبلاد، ولو هدأت قليلاً هذه الضوضاء والضجة التي كدرت على العالم صفو الحياة، والتي تحول دون سماع العويل والنحيب، لسمعنا النداء الذي سمعه أهل الكتاب في فجر الإسلام: ﴿قَدۡ جَآءَكُم مِّنَ ٱللَّهِ نُورٞ وَكِتَٰبٞ مُّبِينٞ * يَهۡدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضۡوَٰنَهُۥ سُبُلَ ٱلسَّلَٰمِ وَيُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إلى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِهِۦ وَيَهۡدِيهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ﴾[المائدة:15-16].

إنَّ الأنبياء هم مُجدِّفر سفينة البشرية، وهم الذين قادوها إلى ساحل النجاة عبر التاريخ البشري، ومهما تنكر أحد لهذه السفينة، واستغنى عنها، وتفاداها إلى (جبل) فإن مصيره المحتوم هو مصير ابن نوح الشارد المارد العاتي الطاغي، الذي قال: ﴿قَالَ سَآوِي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ﴾ [هود: 43].

فقال له: ﴿لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ﴾، وقد قرر الله تعالى بعد بعثة النبي الأعظم خاتم الرسل والأنبياء محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّ سعادة الأمم والأفراد، والشرق والغرب، والأولين والآخرين، منوطة بالإيمان برسالته، والاهتداء بسيرته، والتشبث بذيله، والتمسك بسنته، ومن اتجه عنه إلى الشرق أو الغرب، وآوى إلى (جبل) فلن يعود إلا بالويل ولن ينال إلا الشقاء، ولن يستقبله إلاَّ البلاء ولن يظلم إلاَّ نفسه.

الحلقة الرابعة هـــنا

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبوية 1400 هـ

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين