نبي الرحمة (12)

المقاطعة العامة

• ميثاق الظلم والعدوان:

زادت حيرة المشركين، ووجدوا بني هاشم وبني المطلب مصممين على حفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم والقيام دونه، فاجتمعوا في خيف بني كنانة من وادى المُحَصَّبِ فتحالفوا على بني هاشم وبني المطلب ألا يناكحوهم، ولا يبايعوهم، ولا يجالسوهم، ولا يخالطوهم، ولا يدخلوا بيوتهم، ولا يكلموهم، حتى يسلموا إليهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للقتل، وكتبوا بذلك صحيفة فيها عهود ومواثيق (أن لا يقبلوا من بني هاشم صلحًا أبدًا، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل).

كتبها بَغِيض بن عامر بن هاشم، فدعا عليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فَشُلَّتْ يده.

تم هذا الميثاق وعلقت الصحيفة في جوف الكعبة، فانحاز بنو هاشم وبنو المطلب، مؤمنهم وكافرهم ـ إلا أبا لهب ـ وحُبِسوا في شعب أبي طالب، وذلك ليلة هلال المحرم سنة سبع من البعثة.

* ثلاثة أعوام في شعب أبي طالب:

واشتد الحصار، وقطعت عنهم الميرة والمادة، فلم يكن المشركون يتركون طعاماً يدخل مكة ولا بيعاً إلا بادروه فاشتروه، حتى بلغهم الجهد، والتجأوا إلى أكل الأوراق والجلود، وحتى كان يسمع من وراء الشعب أصوات نسائهم وصبيانهم يتضاغون من الجوع، وكان لا يصل إليهم شيء إلا سراً، وكانوا لا يخرجون من الشعب لاشتراء الحوائج إلا في الأشهر الحرم، وكانوا يشترون من العير التي ترد مكة من خارجها، ولكن أهل مكة كانوا يزيدون عليهم في السلعة قيمتها حتى لا يستطيعوا شراءها.

وكان حكيم بن حزام يحمل قمحاً إلى عمته خديجة, فتعرض له مرة أبو جهل ليمنعه، فتدخل أبو البختري، ومكنه من حمل القمح إلى عمته.

وكان أبو طالب يخاف على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكان إذا أخذ الناس مضاجعهم يأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يضطجع على فراشه، حتى يرى ذلك من أراد اغتياله، فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو إخوانه أو بني عمه فاضطجع على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون يخرجون في أيام الموسم، فيلقون الناس، ويدعونهم إلى الإسلام.

نقض صحيفة الميثاق:

في محرم سنة عشر من النبوة ذهب هشام بن عمرو من بني عامر إلى زهير بن أبي أمية المخزومي ـ أمه عاتكة بنت عبد المطلب ـ وقال: يا زهير، أرضيت أن تأكل الطعام، وتشرب الشراب، وأخوالك بحيث تعلم؟ فقال: ويحك، فما أصنع وأنا رجل واحد؟ أما والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها، قال: قد وجدت رجلاً، قال: فمن هو؟ قال: أنا، قال له زهير: أبغنا رجلاً ثالثاً. فذهب إلى المطعم بن عدي، فذكَّره أرحام بني هاشم، ولامه على موافقته لقريش على هذا الظلم، فقال المطعم: ويحك، ماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد، قال: قد وجدت ثانيًا، قال: من هو؟ قال: أنا، قال: أبغنا ثالثاً، قال: قد فعلت, قال: من هو؟ قال: زهير بن أبي أمية، قال: أبغنا رابعاً. فذهب إلى أبي البختري بن هشام، فقال له نحواً مما قال للمطعم، فقال: وهل من أحد يعين على هذا؟ قال: نعم. قال: من هو؟ قال زهير بن أبي أمية، والمطعم بن عدي، وأنا معك، قال: أبغنا خامساً. فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، فكلمه وذكر له قرابتهم وحقهم، فقال له: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟ قال: نعم، ثم سمَّى له القوم، فاجتمعوا عند الحَجُون، وتعاقدوا على القيام بنقض الصحيفة، وقال زهير: أنا أبدأُكم فأكون أول من يتكلم. فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير عليه حلة، فطاف بالبيت سبعاً، ثم أقبل على الناس، فقال: يا أهل مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى، لا يباع ولا يبتاع منهم؟ والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة. قال أبو جهل ـ وكان في ناحية المسجد: كذبت، والله لا تشق, فقال زمعة بن الأسود: أنت والله أكذب، مارضينا كتابتها حيث كتبت، قال أبو البختري: صدق زمعة، لا نرضى ما كتب فيها، ولا نقر به، قال المطعم بن عدي: صدقتما، وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها.

وقال هشام بن عمرو نحواً من ذلك. فقال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل، وتُشُووِر فيه بغير هذا المكان.

وأبو طالب جالس في ناحية المسجد، إنما جاءهم لأن الله كان قد أطلع رسوله صلى الله عليه وآله وسلم على أمر الصحيفة، وأنه أرسل عليها الأرضة، فأكلت جميع ما فيها من جور وقطيعة وظلم إلا ذكر الله عز وجل، فأخبر بذلك عمه، فخرج إلى قريش فأخبرهم أن ابن أخيه قد قال كذا وكذا، فإن كان كاذبًا خلينا بينكم وبينه، وإن كان صادقًا رجعتم عن قطيعتنا وظلمنا، قالوا: قد أنصفت. وبعد أن دار الكلام بين القوم وبين أبي جهل، قام المطعم إلى الصحيفة ليشقها، فوجد الأرضة قد أكلتها إلا (باسمك اللهم)، وما كان فيها من اسم الله فإنها لم تأكله.

ثم نقض الصحيفة وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه من الشعب، وقد رأي المشركون آية عظيمة من آيات نبوته.

آخر وفد قريش إلى أبي طالب:

خرج المسلمون ومن معهم من الشعب، واستمر أبو طالب يحوط ابن أخيه، وقد جاوز الثمانين، فاشتد عليه المرض، وحينئذ خاف المشركون سوء سمعتهم في العرب إن أتوا بعد وفاته بمنكر على ابن أخيه، فحاولوا مرة أخرى أن يفاوضوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين يديه.

قال ابن إسحاق وغيره: لما اشتكى أبو طالب، وبلغ قريشاً ثقله، قالت قريش بعضها لبعض: إن حمزة وعمر قد أسلما، وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها، فانطلقوا بنا إلى أبي طالب، فليأخذ على ابن أخيه، وليعطه منا، والله ما نأمن أن يبتزونا أمرنا، [فإنا نخاف أن يموت هذا الشيخ فيكون إليه شيء فتعيرنا به العرب، يقولون: تركوه حتى إذا مات عمه تناولوه]. مشوا إلى أبي طالب فكلموه، وهم أشراف قومه؛ عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وأبو سفيان بن حرب، في رجال من أشرافهم ـ وهم خمسة وعشرون تقريبًا ـ فقالوا: يا أبا طالب، إنك منا حيث قد علمت، وقد حضرك ما ترى، وتخوفنا عليك، وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك، فادعه، فخذ له منا، وخذ لنا منه، ليكف عنا ونكف عنه، وليدعنا وديننا وندعه ودينه، فبعث أبو طالب، فجاءه فقال: يابن أخي، هؤلاء أشراف قومك، قد اجتمعوا لك ليعطوك، وليأخذوا منك، ثم أخبره بالذي قالوا له وعرضوا عليه من عدم تعرض كل فريق للآخر. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(أرأيتم إن أعطيتكم كلمة تكلمتم بها، ملكتم بها العرب، ودانت لكم بها العجم)، فلما قال هذه المقالة توقفوا وتحيروا ولم يعرفوا كيف يرفضون هذه الكلمة الواحدة النافعة إلى هذه الغاية والحد. ثم قال أبو جهل: ما هي؟ وأبيك لنعطيكها وعشر أمثالها، قال: تقولون:(لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه). فصفقوا بأيديهم، ثم قالوا: أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلهًا واحدًا؟ إن أمرك لعجب. ثم قال بعضهم لبعض: إنه والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئًا مما تريدون، فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم، حتى يحكم الله بينكم وبينه، ثم تفرقوا.

وفي هؤلاء نزل قوله تعالى:{ ص * وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ * كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناص * وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ * وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ * ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [ص:١-٧].

عام الحزن:

*وفاة أبي طالب: كانت وفاته في رجب سنة عشر من النبوة، عن المسيب: أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، فقال:(أي عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله) فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب، ترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزالا يكلمانه حتى قال آخر شيء كلمهم به: على ملة عبد المطلب، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(لأستغفرن لك ما لم أنه عنه)، فنزلت:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:١١٣]ونزلت:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:٥٦]. عن العباس بن عبد المطلب، قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما أغنيت عن عمك، فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم:(هو في ضَحْضَاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار).

قال ابن إسحاق: لما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الأذى ما لم تطمع به في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش، فنثر على رأسه ترابا، ودخل بيته، والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته، فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لها:(لَا تَبْكِي يَا بُنَيَّةِ، فَإِنَّ اللَّهَ مَانِعٌ أَبَاكَ). قال: ويقول بين ذلك:(ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب).

*وفاة خديجة: كانت وفاتها في رمضان السنة العاشرة للبعثة، ولها خمس وستون سنة، وصلى الله عليه وآله وسلم في الخمسين من عمره. إن خديجة كانت من نعم الله الجليلة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بقيت معه ربع قرن تحن عليه ساعة قلقه، وتؤازره في أحرج أوقاته، وتعينه على إبلاغ رسالته، وتشاركه في مغارم الجهاد المر، وتواسيه بنفسها ومالها، يقول صلى الله عليه وآله وسلم:(آمنت بي حين كفر بي الناس، وصدقتني حين كذبني الناس، وأشركتني في مالها حين حرمني الناس، ورزقني الله ولدها وحرم ولد غيرها). عن أبي هريرة قال: أتى جبريل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت، معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها، وبشرها ببيت في الجنة من قَصَبٍ لا صَخَبَ فيه ولا نَصَبَ).

وقعت هاتان الحادثتان المؤلمتان خلال أيام معدودة، فاهتزت مشاعر الحزن والألم في قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم كثرعليه الأذى من قومه، فقد تجرأوا عليه بعد موت أبي طالب، فازداد غما على غم، حتى يئس منهم وخرج إلى الطائف، رجاء أن يستجيبوا لدعوته أو يؤووه وينصروه، فلم ير من يؤوي ولم ير ناصراً، وآذوه مع ذلك أشد الأذى.

ولأجل توالي مثل هذه الآلام في هذا العام سمي بعام الحزن، وعرف به في السيرة والتاريخ.

الزواج بسودة رضي الله عنها

وفي شوال من هذه السنة تزوج صلى الله عليه وآله وسلم سودة بنت زمعة، كانت ممن أسلم قديماً وهاجرت الهجرة الثانية إلى الحبشة، وكان زوجها السكران بن عمرو، قد أسلم وهاجر معها، فمات بأرض الحبشة، فلما حلت خطبها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتزوجها، وكانت أول امرأة تزوجها بعد وفاة خديجة.

يتبع.......

منقول بتصرف يسير من كتاب السيرة (الرحيق المختوم)

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين