نبي الرحمة (11)

ممثل قريش بين يده صلى الله عليه وآله وسلم:

يروي ابن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي قال: حُدِّثت أن عتبة بن ربيعة، وكان سيداً، قال يوماً وهو في نادي قريش، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد؟ فأكلمه وأعرض عليه أموراً لعله يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟ فقالوا: بلى، يا أبا الوليد، قم إليه، فكلمه، فقام إليه عتبة، حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السِّطَةِ - المنزلة- في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكَفّرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(قل يا أبا الوليد أسمع).

قال: يابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستمع منه قال:(أو قد فرغت يا أبا الوليد ؟) قال: نعم، قال:(فاسمع مني)، قال: أفعل، فقال:{بسم الله الرحمن الرحيم} {حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ} [ فصلت:١-٥]. ثم مضى رسول الله فيها، يقرؤها عليه. فلما سمعها منه عتبة أنصت له، وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليهما، يسمع منه، ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى السجدة منها فسجد ثم قال:(قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك). فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه قال:هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم.

رؤساء قريش يفاوضون الرسول وأبو جهل يريد القضاء عليه صلى الله عليه:

اجتمع المشركون يوماً عند ظهر الكعبة بعد غروب الشمس، وأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعونه، فلما جاء عرضوا عليه نفس المطالب التي عرضها عتبة.قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(ما بي ما تَقُولُون، ما جِئْتُكُم بما جِئْتُكُم بِه أَطْلُب أَمْوَالكُم ولا الشَّرف فيكم، ولا المُلْكَ عليكم، ولكنّ الله بَعَثَنِي إلَيْكُم رَسُولًا، وَ أَنْزَلَ عليّ كِتابًا، وأَمَرَنِي أنْ أَكُونَ لَكُم بَشِيرًا وَنَذِيرًا، فَبَلَّغْتُكُم رِسَالاتِ ربي، وَنَصَحْتُ لَكُمْ، فإِنْ تَقْبَلُوا مِنّي ما جِئْتُكُم بِه فَهُوَ حَظُّكُم في الدُنيا والآخرة، وإنْ تَرُدُّوا عليّ أَصْبِر لأمْرِ الله حتّى يَحْكُم الله بَيْنِي وَ بَيْنَكُم). فطلبوا منه آيات، أن يسأل ربه أن يسير عنهم الجبال، ويبسط لهم البلاد، ويفجر فيها الأنهار، ويحيي لهم الموتى حتى يصدقوه فأجابهم بنفس ما تقدم.فطلبوا منه أن يسأل ربه أن يبعث له مَلكًا يصدقه، ويجعل له جنات وكنوزًا وقصورًا من ذهب وفضة، فأجابهم بنفس الجواب. فطلبوا منه العذاب: أن يسقط عليهم السماء كسفًا، فقال:(ذلك إلى الله، إن شاء فعل). فردوا عليه ثم هددوه، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وقال أبو جهل في كبريائه: يا معشر قريش، إن محمدًا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا، وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وشتم آلهتنا، وأني أعاهد الله لأجلسن له بحجر ما أطيق حمله، فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه، فأسلموني عند ذلك أو امنعوني، فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم، قالوا: والله لا نسلمك لشيء أبدًا، فامض لما تريد. فلما أصبح أبو جهل، أخذ حجرًا كما وصف، ثم جلس لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينتظره، وغدا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما كان يغدو، فقام يصلي، وقد غدت قريش فجلسوا في أنديتهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم احتمل أبو جهل الحجر، ثم أقبل نحوه، حتى إذا دنا منه رجع منهزمًا منتقعاً لونه، مرعوبًا قد يبست يداه على حجره، حتى قذف الحجر من يده، وقامت إليه رجال قريش فقالوا له: ما لك يا أبا الحكم؟ قال: قمت إليه لأفعل به ما قلت لكم البارحة، فلما دنوت منه عرض لي دونه فَحْلٌ من الإبل، لا والله ما رأيت مثل هَامَتِه، ولا مثل قَصَرَتِه ولا أنيابه لفحل قط، فَهَمَّ بي أن يأكلني.

قال ابن إسحاق: فذُكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:(ذلك جبريل عليه السلام لو دنا لأخذه).

مساومات:

لما فشلت قريش في مفاوضتهم المبنية على الإغراء والترغيب، والتهديد والترهيب، تيقظت فيهم رغبة الوصول إلى حل حصيف ينقذهم مما هم فيه، ولم يكونوا يجزمون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم على باطل، بل كانوا ـ كما قال الله تعالى: {لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} [الشورى:١٤]. فرأوا أن يساوموه صلى الله عليه وآله وسلم في أمور الدين، ويلتقوا به في منتصف الطريق، فيتركوا بعض ما هم عليه، ويطالبوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بترك بعض ما هو عليه، وظنوا أنهم بهذا الطريق سيصيبون الحق، إن كان ما يدعو إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم حقاً.

قال ابن إسحاق: اعترض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ وهو يطوف بالكعبة ـ الأسود بن المطلب بن أسد, والوليد بن المغيرة, وأمية بن خلف, والعاص بن وائل السهمى, ـ وكانوا ذوي أسنان في قومهم ـ فقالوا: يا محمد، هلمَّ فلْنَعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيرًا مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيراً مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه، فأنزل الله تعالى فيهم:{ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } السورة كلها.

عن ابن عباس أن قريشًا قالت: لو استلمت آلهتنا لعبدنا إلهك. فأنزل الله: { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ }.

وأخرج ابن جرير وغيره عنه أن قريشًا قالوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تعبد آلهتنا سنة، ونعبد إلهك سنة،فأنزل الله:{قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ } [ الزمر:٦٤].

ولما حسم الله تعالى هذه المفاوضة المضحكة بهذه المفاصلة الجازمة لم تيأس قريش كل اليأس، بل أبدوا مزيداً من التنازل بشرط أن يجري النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعض التعديل فيما جاء به من التعليمات، فقالوا:{ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس:١٥]، فقطع الله هذا السبيل أيضًا بإنزال ما يَرُدُّ به النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهم فقال:{قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [يونس:١٥].

قريش واليهود:

أظلمت أمام المشركين السبل بعد فشلهم في المفاوضات والمساومات والتنازلات، واحتاروا فيما يفعلون، حتى قام أحد شياطينهم: النضر بن الحارث، فنصحهم قائلًا: يا معشر قريش، والله لقد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد، قد كان محمد فيكم غلامًا حدثًا أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثًا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب، و جاءكم بما جاءكم به، قلتم: ساحر، لا والله ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة ونَفْثَهم وعَقْدَهم، وقلتم: كاهن، لا والله ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة وتَخَالُجَهم وسمعنا سَجَعَهُم، وقلتم: شاعر، لا والله ما هو بشاعر، قد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها هَزَجَه ورَجَزَه، وقلتم: مجنون، لا والله ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون، فما هو بخنقه، ولا وسوسته، ولا تخليطه، يا معشر قريش، فانظروا في شأنكم، فإنه والله لقد نزل بكم أمر.

قررت قريش أن يتصلوا باليهود حتى يتأكدوا من أمره صلى الله عليه وآله وسلم، فكلفوا النضر بن الحارث بأن يذهب مع آخرين إلى يهود المدينة، فأتاهم فقال أحبارهم: سلوه عن ثلاث، فإن أخبر فهو نبي مرسل، وإلا فهو متقول، سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان أمرهم؟ فإن لهم حديثًا عجبًا، وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح، ما هي؟.

فلما قدم مكة قال: جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، وأخبرهم بما قاله اليهود، فسألت قريش رسول صلى الله عليه وآله وسلم عن الأمور الثلاثة، فنزلت بعد أيام سورة الكهف، فيها قصة أولئك الفتية، وهم أصحاب الكهف، وقصة الرجل الطواف، وهو ذو القرنين، ونزل الجواب عن الروح في سورة الإسراء. وتبين لقريش أنه صلى الله عليه وآله وسلم على حق وصدق، ولكن أبى الظالمون إلا كفورًا.

*موقف أبي طالب وعشيرته: أما أبو طالب فإنه لما واجه مطالبة قريش بتسليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم ليقتلوه، ثم رأى في تحركاتهم وتصرفاتهم ما يؤكد أنهم يريدون قتله وإخفار ذمته، جمع بني هاشم وبني المطلب، ودعاهم إلى القيام بحفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأجابوه إلى ذلك كلهم ـ مسلمهم وكافرهم ـ حَمِيَّةً للجوار العربي، وتعاقدوا وتعاهدوا عليه عند الكعبة. إلا ما كان من أخيه أبي لهب، فإنه فارقهم، وكان مع قريش.

يتبع......

منقول بتصرف يسير من كتاب السيرة (الرحيق المختوم)

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين